التراجع الحاد في المياه وتأثيره في الشرق الأوسط

بقلم الدكتور عبدالله ناصر الدين*

في ظل إحتدام الصراع في سوريا والعراق وتفكك الدولة في كلّ منهما لتُقارب ما يُعرف بالدولة الفاشلة، تُطرح أسئلة كثيرة حول المستفيد الأول من هدم وتدمير هاتين الدولتين. وبعيداً من التحليلات والإصطفافات السياسية نحاول في هذا المقال تسليط الضوء على إطار اقتصادي آخر، ربما تم إغفاله خلال الأعوام الماضية والذي قد يكون له تأثير كبير في ما يجري في هاتين الدولتين.
الماء. نعم دجلة والفرات. بيَّنت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا في “إيرفاين” وجامعة جورجتاون في واشنطن بالتعاون مع وكالة الفضاء الأميركية “ناسا” (NASA) أن نسبة إستهلاك إحتياط المياه في منطقة الشرق الأوسط وتحديداً سوريا والعراق وتركيا بلغ ما يقدر بـ144كم3، أي ما يوازي تقريباً حجم مياه البحر الميت (147كم3)، والأهم أن هذا التراجع حصل خلال فترة ست سنوات فقط بين 2003 و2009. أرقام مذهلة تطرح تساؤلات كثيرة حول المستقبل الإستراتيجي لهذه الدول والأمن الغذائي فيها.
تعتمد الدراسة التي نُشرت في العام 2013 في المجلة العلمية “Water Resources Research”على صور فضائية مصدرها الـ “ناسا” بالإضافة إلى ما يعرف بـ “بيانات الإستشعار عن بعد” أو “Remote-Sensing data” وتقنيات رياضية متطورة.
تؤكد الدراسة أن المياه الجوفية هي الأكثر إستنزافاً، وهي السبب الرئيسي لتراجع إحتياط المياه، إذ يبلغ حصتها بما يقدر بـ60% من قيمة التراجع، بينما يشكّل تراجع المياه السطحية، أي مياه دجلة والفرات بشكل أساسي ما يوازي الـ40%.
ورغم أن التراجع في المتساقطات وإزدياد الجفاف في المنطقة منذ 2007 يشرح سبب الإعتماد الأكبر على المياه الجوفية، إلا أن بعض الأسباب يكمن في مكانٍ آخر؛ فتركيا، دولة المنبع لدجلة والفرات، قامت بإنشاء 20 سداً ضمن “مشروع الأناضول الأكبر”، أو ما يعرف بـ”GAP”، والتي بطبيعة الحال سبّبت تراجع حصة دول المصبّ، أي كل من سوريا والعراق. وتثبيتاً لذلك فقد أظهر بعض الدراسات أيضاً أن الفرات يخسر أكثر من 70% من مياهه قبل دخوله العراق، خصوصاً بسبب التراجع الحاد في مياه خزّان القادسية. ومن ضمن التأثيرات الناتجة عن ذلك، كما أكدت دراسة لمعهد “بروكنز” في أميركا، أن مناطق شمال العراق شهدت حركة نزوح كبيرة تزيد عن المئات الآلاف من العراقيين بسبب التراجع ونقصان المياه.
والجدير ذكره أن رسم خريطة المنطقة في نهايات الحرب العالمية الأولى، تعمّدت ربما في إبقاء منابع تلك الأنهر داخل تركيا للحفاظ على تفوّقها الإستراتيجي كما نراه اليوم
تستفيد تركيا أيضاً من ضبابية القانون الدولي للمياه والمفتوح على الكثير من التفسيرات والشروحات التي تسمح التهرب من الإلتزامات الدولية القانونية. فلا يوجد وضوح في كيفية توزيع الحصص بين تلك الدول لكل من المياه الجوفية والسطحية، والجدير ذكره أيضاً، أن التداخل لا يحدث في المياه السطحية فقط، وإنما أيضاً في المياه الجوفية المتداخلة بين هذه الدول مما يصعّب توزيعها.
الواقع أن الصراع المحتدم في سوريا والعراق، وتدمير مكانة الدولة القوية فيهما، يعطيان تركيا هامشاً أكبر في فرض حصتها على الآخرين، ويجعلان من سوريا والعراق رهينتي تلك الحصة، والدليل على ذلك أن الدراسة بيَّنت أن المياه الجوفية لم تتراجع في تركيا كما هو الوضع في العراق، وذلك بسبب إعتماد أنقرة بشكل أكبر على المياه السطحية. بينما كان التراجع الأكبر في المياه الجوفية في العراق الذي عمدت الحكومة فيه على إنشاء أكثر من 1000 بئر من أجل سد التراجع في المياه السطحية.
والأهم في كل ذلك أن معلومات الإستشعار عن بعد والصور الفضائية، إضافة إلى التكنولوجيا الحديثة في تقدير المياه السطحية، تجعل من الأرقام المنشورة من قبل حكومات تلك الدول غير ذي قيمة، فلا يمكن لتركيا مثلاً تصغير أرقام إستهلاكها، فتلك التكنولوجيا تسمح بشكل دقيق تقدير تلاشي المياه السطحية وكذلك الجوفية.
لا شك أن لتركيا مصلحة في إضعاف سوريا والعراق، فتلاشي المياه في المنطقة يضع تلك الدول أمام تساؤلات إستراتيجية إقتصادية مهمة تفرض على السلطنة تأمين مياهها للمئة سنة المقبلة كما أمّنتها في المئة الفائتة.
هذه التغيّرات المتسارعة في خارطة المياه في الشرق الأوسط تفرض إعادة النظر في كيفية إدارة المياه و توزيعها بين الدول المعنية. بالإضافة إلى إدارة المياه في هذه البلدان، فإن البنى التحتية المكثفة في هذه الدول تعني أن لعملية إدارة المياه و التنسيق بين الدول المعنية أهمية ستخفض نسبة الإستهلاك بشكلٍ ملحوظ، و تخفّف من هذا الإستنزاف السريع للثروة المائية. حتى في ظل وجود هكذا تنسيق، فإن تزايد عدد السكان و الحاجة المتزايدة إلى المياه في هذه الدول ستدفعها إلى الإستثمار في تكنولوجيا تحلية مياه البحر لسد حاجات المواطنين و القطاعات الإقتصادية. هذا بالإضافة إلى أنها ستحتاج إلى الإستثمار في تقنيات جديدة من أجل منع الهدر في إستهلاك المياه. أما على الصعيد الغذائي، فالمؤكد أن الإنتاجية الزراعية في العراق و سوريا قد إنخفضت بشكلٍ ملحوظ في السنوات الماضية بسبب تراجع المياه. أما تركيا فقد حافظت على إنتاجيتها في القطاعات الزراعية و تعمل على توسيعها في منطقة الأناضول.

• خبير إقتصادي وأستاذ الإقتصاد في كلية إدارة الأعمال في جامعة بيروت العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى