جهود إصلاح نظام الديون العالمية إنطلقت ولكن … بخطوات بطيئة

فيما تتابع قضية تخلف الأرجنتين عن دفع ديونها آثارها في الأسواق المالية العالمية، تعمل المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة على إيجاد نظام جديد للديون السيادية، المرتكزة في معظمها على السندات، يكون عادلاً أكثر.

الرئيسة الأرجنتينية كريستينا فرنانديز دي كيرشنر: عليها إيجاد قرار سريع
الرئيسة الأرجنتينية كريستينا فرنانديز دي كيرشنر: عليها إيجاد قرار سريع

نيويورك – سمير صفير

يتدافع المستثمرون والمصرفيون والمسؤولون الحكوميون والأكاديميون من أجل التوصل إلى إصلاحات في نظام الديون السيادية أملاً في منع حدوث تخلف عن الدفع مرة أخرى كما حدث مع الأرجنتين، ولكن من المحتمل أن لا تكون هناك حلول في الوقت االذي سيواجه البلد التالي عجزاً لدفع ديونه.
في الشهر الفائت تدخّلت الجمعية العامة للأمم المتحدة في هذه المشكلة من خلال طرحها لقرار دعمته الغالبية الساحقة من البلدان. وقد وضعته وقدمته الصين مع إئتلاف من الدول النامية، لكنه رُفِض من قبل الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة واليابان، الأمر الذي يوضّح واحداً من العديد من الإنقسامات التي تعيق الجهود الرامية إلى تغيير النظام.
لقد تخلّفت الأرجنتين عن السداد للمرة الثامنة في نهاية تموز (يوليو) الفائت، بعدما قضت محكمة أميركية في نيويورك بأنه لا يمكن ل”بوينس آيرِس” أن تستمر في عملبة الدفع لحاملي السندات الذين كانوا قد وقّعوا معها إتفاقاً سابقاً لقبول مبلغ أقل من المال من دون أن تدفع أيضاً إلى الدائنين الرافضين. ولكن العجز عن السداد ليس نهاية القصة.
الرئيسة الأرجنتينية كريستينا فرنانديز دي كيرشنر، التي تقول بأن المستثمرين الذين رفعوا دعوات ضد حكومتها أمام المحكمة هم من”النسور” (المستثمرون في الأموال المتعثرة)، ينبغي عليها إيجاد نوع من القرار. وقد حاولت حكومتها مبادلة االسندات التي يحملها المستثمرون ويحكمها القانون الأميركي بتلك التي يحكمها القانون المحلي الأرجنتيني، وهي خطوة تمنح الحكومة المدينة مزيداً من السيطرة. وهكذا تبادل سوف يسمح أيضاً للأرجنتين تجنّب حكم القضاء في الولايات المتحدة، ولكن مسؤولين حكوميين إعترفوا في الشهر الفائت أن حملة السندات لم يحبّذوا الفكرة. وكان هذا الرفض متوقعاً لأن المبادلة قد تقلّل بشكل كبير من قدرة المستثمرين على المساومة في مفاوضات التسوية الجارية.
من جهتها تحاول المجموعات التجارية وصندوق النقد الدولي، والآن الأمم المتحدة، التوصل إلى إصلاحات. والمشكلة الوحيدة هي أن لديها أفكاراً مختلفة إلى حد كبير في كيفية تجسيدها إلى حل- مما يجعل من غير المرجح بشكل متزايد تغيير النظام الحالي الفوضوي بأي طريقة مجدية.
الواقع أن هذا التدافع لإيجاد حل هو محاولة لمنع تكرار الفوضى التي إندلعت عندما قضت محكمة أميركية بأنه لا يمكن للحكومة الأرجنتينية أن تستمر في دفع حاملي السندات الذين كانوا قد وقّعوا إتفاقاً سابقاً لقبول مبلغ أقل من المال من دون أن تدفع أيضاً إلى مجموعة من المستثمرين الأميركيين الرافضين قبول 100 سنت أميركي على الدولار. كان الحكم فوزاً كبيرا” لمجموعة “أن أم أل كابيتال” التي إشترت السندات بسعر رخيص، ولكنه أثار غضب المسؤولين في الأرجنتين مثل كيرشنر.
أبعد من النقد اللاذع، فقد أدّى قرار المحكمة إلى إثارة إهتمام جديد في عملية تخلّف السداد الفوضوية المعمول بها حالياً بالنسبة إلى البلدان التي لا تستطيع سداد ديونها. إن إيجاد حل لها صار أمراً مهماً وملحّاً بصورة متزايدة بالنسبة إلى البلدان التي تعاني من الفقر مثل غرينادا وجمهورية الكونغو الديموقراطية، وكلاهما يواجه المستثمرين في المحاكم الأميركية الذين يأملون في إستخدام حكم “أن أم أل كابيتال” لتعزيز قضيتهم ليتم تسديدهم بالكامل. من جهتها، تحتاج أوكرانيا، التي تعاني بالفعل وضعاً مالياً هشاً زاد ضعفاً خلال مواجهتها مع روسيا، إلى وسيلة لإقناع المستثمرين للقبول ب”حلاقة”، أي القبول بمبلغ أقل لديونهم. وبموجب النظام الحالي، فإن ذلك لن يكون سهلاً.
تأمل القوى الرئيسية في الأمم المتحدة في جعل الأمر أسهل. في وقت سابق من الشهر الفائت، صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار لوضع إجراءات جديدة لعمليات الإفلاس للبلدان المثقلة بالديون التي من شأنها أن تخلق نظاماً عالمياً للتحكيم في نزاعات الديون. ودعا القرار إلى وجود إطار حكومي، لكنه لم يُشر بالتفصيل إلى كيفية وطريقة عمله.
“لقد حان الوقت لإعطاء إطار قانوني للنظام المالي لإعادة هيكلة الديون السيادية التي تحترم غالبية الدائنين والتي تسمح للدول الخروج من الأزمات بطريقة مستدامة”، قال وزير الخارجية الارجنتيني هيكتور تيمرمان بعد التصويت، وفقاً ل”رويترز”.
إن قرار الأمم المتحدة غير المُلزِم حصل على 124 من 193 صوتاً، وفاز بدعم الصين، التي تملك كميات هائلة من الديون. وصوّتت عشر دول، بما فيها الولايات المتحدة، ضد هذا الاجراء. وقال مسؤولون أميركيون أن من شأن هذا القرار أن يخلق حالة من عدم اليقين في الأسواق التي يمكن أن تجعل الأمر أكثر تكلفة بالنسبة إلى البلدان النامية لإقتراض المال.
المشكلة الأساسية هي أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومراكز المال الرئيسية الأخرى لا تريد تغيير قوانينها لإخضاع أنفسها لقواعد من هيئة متعدّدة الأطراف،” يقول روبرت كاهن، وهو زميل بارز في مجلس العلاقات الخارجية، في رسالة بالبريد الإلكتروني .
من جهته يبحث صندوق النقد الدولي أيضاً في السبل الممكنة لجعل عملية إعادة هيكلة الديون السيادية أقل تكلفة وأقل ضرر. وقد حذر كبير الإقتصاديين في الصندوق أوليفييه بلانشار في أواخر تموز (يوليو) أن تخلّف الأرجنتين عن السداد يمكن أن تكون له تداعيات على النظام المالي العالمي.
“هناك تكلفة للعالم، بمعنى أننا بحاجة إلى أنظمة قرار تعمل بشكل جيد عندما تقع البلدان في ورطة، علماً أن واحداً من الآثار المترتبة على حلقة الأرجنتين هذه هو أن هناك المزيد من عدم اليقين بالنسبة إلى كيف سنكون قادرين على إعادة هيكلة الديون للبلدان الأخرى في المستقبل”، قال بلانشار.
وكان صندوق النقد الدولي بدأ يدرس سبل إصلاح النظام في شهر حزيران (يونيو) الفائت، ولكن لم يقترح أي شيء محدّد. ومن غير المرجح أن ينظر الصندوق في محاولة لخلق عملية إفلاس فوق الوطنية، كما يدعو قرار الأمم المتحدة، من دون دعم من الإقتصادات الكبرى مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان، التي صوتت كلها ضد إقتراح المنظمة الدولية. وقد حاول الصندوق أيضاً خلق عملية مماثلة تسمى آلية إعادة هيكلة الديون السيادية في أوائل العقد الفائت، ولكن تم رفض الفكرة بشدة في العام 2003 وذلك للأسباب التي ذكرها روبرت كاهِن.
حتى الآن، يبدو من المرجح أن ينجح إقتراح تقوده الصناعة المالية نفسها. جمعية أسواق رأس المال الدولية، وهي مجموعة تجارية للبنوك والوسطاء والمستثمرين، ومقرها في زوريخ، طرحت شروطاً حديثة التي يمكن إدراجها في عقود السندات الجديدة التي من شأنها أن تجعل من الصعب على مجموعة صغيرة من المستثمرين عقد عملية إعادة هيكلة .
بموجب خطة المجموعة التجارية، سوف يكون جميع حاملي السندات ملزمين بالسير جنباً إلى جنب مع أي صفقة يوافق عايها 75 في المئة منهم. وهذا يعني أن المستثمرين الرافضين لن يكونوا قادرين على مقاضاة المدين ل100 سنت على الدولار بعد أن يتم الإنتهاء من الصفقة، كما حدث مع الأرجنتين. لقد إعتمدت اليونان كلمات مشابهة للسندات الجديدة بعدما تخلفت عن سداد ديونها خلال أزمة الديون الأوروبية في العام 2012، وكان عليها التفاوض مع حملة السندات.
ويقول أريك لوكونت، وهو ناقد للمستثمرين في الديون المتعثرة، أو “أموال النسور”، أن مبادرة القطاع الخاص كانت خطوة في الإتجاه الصحيح، لكنها لن تحل كل المشاكل التي تواجهها البلدان النامية. وهو يزعم أن البلدان الفقيرة تحتاج إلى سلطة دولية – مثل محكمة الإفلاس – التي من شأنها أن تحدّد من يحصل على السداد وكم، بحيث أن الحكومات المثقلة بالديون لن يكون عليها الدخول في معارك قانونية مكلفة طويلة.
“يوضّح تصويت الأمم المتحدة أن هناك غالبية عظمى من الدول حول العالم تؤمن بأن النظام الحالي قد كُسِر وفشل، ويتفق معظم البلدان أيضاً على أن الإصلاح العاجل يكمن في عملية الإفلاس”، قال لوكونت، االمدير التنفيذي ل”جوبيلي يو أس إي نيتوورك”، وهي منظمة غير ربحية تدعو إلى الإعفاء من الديون للبلدان النامية.
ومن المرجح أن تكون الجهود التي تقودها الصناعة المالية هي الوحيدة التي سوف تكسب قبولاً واسعاً. على الرغم من إعتبارها فعلياً بأن حكومة الولايات المتحدة بين مؤيديها، فإنه لن يكون من السهل تنفيذ أي تغييرات. سيتم تطبيق الإطار الجديد فقط على عقود جديدة، ما لم تقرر الدول محاولة تبادل عقود السندات القديمة بأخرى جديدة.
وبالتالي، فإن الجهود للتوصل إلى إطار جديد لن يفعل أي شيء للبلدان التي هي حالياَ في مرمى حملة السندات. على سبيل المثال، إن صناديق التحوّط تتطلع الى جمع قروض مصرفية تعود إلى ما يزيد عن 20 سنة من طريق مقاضاة جمهورية الكونغو الديموقراطية، التي كانت تسمى آنذاك زائير. وقد قضت محكمة في نيويورك أن جمهورية الكونغو الديموقراطية يجب أن تدفع “تيميس كابيتال” و”دي موين” فائدة على إستثمار تبلغ 69 مليون دولار و50 مليون دولار على التوالي. لكن محامي جمهورية الكونغو الديموقراطية لا يزالون يترافعون عن القضية ويأملون بعكس الحكم.
كما أن إقتراح القطاع الخاص أيضاً لن يساعد البلد التالي الذي يجب عليه التفاوض على ديونه – سواء كانت أوكرانيا أو أنغولا. حذّر صندوق النقد الدولي أوكرانيا الشهر الماضي أن خطة الإنقاذ الحالي لن تكون كافية إذا إستمر الصراع طويلاً في الشرق. وإذا لم يدم وقف إطلاق النار الحالي مع الإنفصاليين المدعومين من روسيا، فإن أوكرانيا سوف تكون مضطرة على الأرجح كي تطلب من صندوق النقد الدولي المزيد من المال أو الطلب من حاملي السندات القبول ب”حلاقة” (أقل من المبلغ الذي وعدت دفعه) على سنداتها.
في الوقت عينه، أقدم المستثمرون على شراء السندات في الأسواق الناشئة – في بلدان مثل كينيا والإكوادور وساحل العاج – بإقبال لم يسبق له مثيل. ودفع هذا الإندفاع للإستثمار في هذه الأسواق المحفوفة بالمخاطر إلى إثارة المخاوف بشأن مدى حجم الديون الذي يمكن أن يؤدي إلى مجموعة من التخلفات عن السداد في السنوات المقبلة. علماً بأن ما يقرب من ربع الدول مع تقييمات منخفضة من شركات تصنيف الائتمان تخلفت عن السداد، وفقاً لغابرييل ستيرن، مدير الخدمات الدولية للمستثمرين في “أكسفورد إيكونوميكس ليمتد”، والإقتصادي السابق في صندوق النقد الدولي. وبالنسبة إلى البلد الذي سيواجه مشاكل في الوقت الراهن، فليس أمام حكومته سوى أن تأخذ فرصتها وتجرّب حظها مع العملية الفوضوية السارية عينها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى