تركيا في عين العاصفة

تواجه تركيا موقفاً حرجاً بالنسبة إلى ما يحدث في العراق وسوريا. فعلى الرغم من وصول تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى نقطة قريبة من حدودها ما زالت تتردد في دخول المعركة برياً منتظرة جواباً شافياً من واشنطن حول شروط تريدها. ولكن الوقت لم يعد طويلاً قبل أن تجد نفسها مرغمة ومضطرة للدخول في الحرب الدائرة في بلاد الشام والعراق.

الداماد فريد باشا يوقّع على معاهدة سيفر
الداماد فريد باشا يوقّع على معاهدة سيفر

أنقرة – محمد كمال

في حزيران (يونيو) 1919، جلس الداماد فريد باشا، الصدر الأعظم للإمبراطورية العثمانية المتداعية، على متن سفينة حربية تابعة للحلفاء كانت تتجه به إلى باريس، حيث وضع رجل الدولة المُسنّ على رأسه الطربوش الأحمر الأيقوني متفاخراً بشاربين مُعَدَّين بعناية، وحمل بين يديه مذكّرة سيرفعها إلى قوات الحلفاء في ال”كي دورسيه” كان يراجعها بإستمرار. وكانت المفاوضات حول التعويضات بعد الحرب العالمية الثانية بدأت قبل خمسة أشهر، لكن الوفد العثماني كان يبغي تحقيق الإستفادة القصوى من دعوته المتأخرة الى المحادثات. وفيما كانت السفينة تعبر البحر المتوسط في ذلك الصيف نحو الشاطئ الفرنسي، كان الداماد فريد يتمرّن ذهنياً على قائمة من المطالب التي سيقدّمها إلى قوات الحلفاء في محاولة أخيرة لمنع إنهيار وتفكك الإمبراطورية.
بدأ مع رسالة، ليس فيها لوم أو عتاب، ولكن بعدم تحمل الجرم والمسؤولية: “أيها السادة، ينبغي أن أكون جريئاً بما فيه الكفاية للمجيء والوقوف أمام هذه الجمعية السامية إذا إعتقدت أن الشعب العثماني يتحمّل أي مسؤولية في الحرب التي إجتاحت أوروبا وآسيا بالنار والسيف”. وأعقب كلمته بمذكّرة أكثر تحدياً والتي تشجب أي محاولة لإعادة توزيع الأراضي العثمانية إلى الأكراد واليونانيين والأرمن، مؤكداً: “في آسيا، تحدّ الأراضي التركية من الجنوب محافظتا الموصل وديار بكر، فضلاً عن جزء من حلب بعيداً حتى المتوسط”. عندما إنتهى الداماد فريد من تقديم مطالبه في باريس، شعر الحلفاء بصدمة ممزوجة بالمرارة جرّاء ما أبداه الوفد العثماني. فقد إعتبر رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج العرض بأنه “نكتة جيدة”، بينما قال الرئيس الأميركي وودرو ويلسون انه لم يرَ أي شيء أكثر “غباءً”. رفض القادة الغربيون رفضاً قاطعاً نداء الداماد فريد الذي إعتبروه مضلّلاً – معلنين بأن الأتراك غير صالحين لحكم أجناس أخرى بغض النظر عن الهوية الإسلامية المشتركة – وطلبوا منه ومن الوفد المرافق المغادرة. ثم شرعت القوى الغربية، من خلال المشاحنات الخاصة بها، بتقسيم غنائم ما بعد الإمبراطورية العثمانية.
في ظل ظروف مختلفة اليوم، تطالب أنقرة بجرأة مرة أخرى الغرب بالسماح لها بمتابعة دورها الريادي في صياغة السياسة في فنائها الخلفي الإسلامي المتقلّب. ومرة أخرى، تنظر القوى الغربية إلى تركيا بتشكّك، في إنتظار أن تتحمل أنقرة المسؤولية بالنسبة إلى المنطقة من خلال معالجتها التهديد المباشر من تنظيم “الدولة الإسلامية” مع أي موارد ضرورية، بدلاً من إتباع إستراتيجية تبدو متهوّرة لإسقاط النظام السوري. يمكن أن يكون سلوك تركيا محيِّراً ومحبطاً للقادة الغربيين، ولكن المزيج الذي تتبعه البلاد من التكتم في العمل والجرأة في الخطابة يمكن إرجاعه الى العديد من القضايا عينها التي واجهتها إسطنبول (العاصمة آنذاك) في العام 1919، بدءاً من الصراع على أراضي الموصل.

المعركة التركية من أجل الموصل

في ظلّ الإمبراطورية العثمانية، إمتدّت ولاية الموصل من “زاخو” في جنوب شرق الأناضول على إمتداد طول نهر دجلة من خلال دهوك، أربيل، القوش، وكركوك، و”طوز خورماتو”، والسليمانية قبل التمدد صعداً على المنحدرات الغربية لجبال “زاغروس”، التي تشكل الحدود مع إيران . هذا الإمتداد من الأرض، الذي يربط السهوب الجافة العربية والوديان الجبلية الخصبة في كردستان العراق، كان موقعاً وموضعاً للعنف قبل فترة طويلة من وصول “الدولة الإسلامية”. كانت هذه المنطقة موطناً لمزيج متطور من الأكراد والعرب والتركمان واليزيديين والكلدانيين الآشوريين واليهود، في حين أن الفصائل التركية والفارسية، والقوى الغربية في بعض الأحيان، سواء كانت تعمل تحت راية أو شعار شركة، واصلت العمل من دون جدوى للإحتيال على البنية الديموغرافية التي تناسب مصالحها.
في وقت التفاوض البريطاني مع العثمانيين على مصير منطقة الموصل، كتب الضباط البريطانيون الذين كانوا يجولون في المنطقة حول الإنتشار الواسع للغة التركية، مشيرين إلى أن “التركية لغة يتحدث بها الناس على طول الطريق السريع في جميع الأمكنة المهمة”. هذه الحقيقة شكّلت جزءاً من الجدل في تركيا لكي تظل الأراضي تحت سيادتها. حتى بعد توقيع معاهدة لوزان في العام 1923، التي بموجبها تخلّت تركيا عن حقوقها في الأراضي العثمانية، بقيت الحكومة التركية تتمسّك بالمطالبة بمنطقة الموصل، خشية من إستخدام البريطانيين للإنفصاليين الأكراد لزيادة إضعاف الدولة التركية. مستندةً على مبدأ ويلسون الشعبي في تقرير المصير، أكدت الحكومة التركية ل”عصبة الأمم” في حينه أن غالبية الأكراد والعرب التي تقطن المنطقة تفضّل أن تكون جزءاً من تركيا على أي حال. فردّت لندن بالتأكيد على أن مقابلات المسؤولين لديها مع السكان المحليين كشفت عن تفضيلهم أن يصبحوا جزءاً من المملكة العراقية الجديدة التي يحكمها البريطانيون.
إن الأتراك، الذين لم يكونوا في موقع قوة يستطيعون من خلاله المساومة مع لندن والغرق في مناظرة داخلية عميقة بشأن ما اذا كان يتعيّن على البلاد التخلي عن هذه الأراضي والتركيز بدلاً من ذلك على الفوائد المترتبة على تقليص الجمهورية، قد فقدوا الحجة وأجبروا على التخلي عن مطالباتهم بإقليم الموصل في 1925. ويبدو أن ما كان يهم البريطانيون والفرنسيون في حينه، أن الأراضي الكردية ستكون إلى حد كبير بمثابة مساحة عازلة حيوية لمنع الأتراك من توسيع إنتشارهم في نهاية المطاف من آسيا الصغرى إلى أراضٍ في بلاد ما بين النهرين وسوريا وأرمينيا. ولكن الخوف من التوسع التركي لم يكن العامل الوحيد في تشكيل الإستراتيجية الأوروبية للحفاظ على شمال العراق وإبعاد الأتراك منه.

عامل النفط

منذ أيام هيرودوت ونبوخذ نصر، كانت هناك قصص عن نيران أزلية ناشئة من الأرض من “بابا كركر” بالقرب من مدينة كركوك. فقد كتب المستكشف ورسام الخرائط الإلماني كارستن نيبور في القرن الثامن عشر: “مكان يُدعى “بابا كركر” هو قبل كل شيء رائع لأن أرضه ساخنة جداً بحيث تستطيع سلق البيض واللحوم المسلوقة فيها”. كانت النيران في الواقع تشتعل نتيجة الغاز الطبيعي و”النافتا” اللذين كانا يتسرّبان من خلال شقوق في الصخور، مفشيةً عن كميات هائلة من النفط الخام التي ترقد تحت سطح الأرض. لم تضيِّع لندن وقتاً طويلاً في دعوة الجيولوجيين من فنزويلا والمكسيك ورومانيا والهند الصينية لدراسة الأرض والذين أوصوا وحدّدوا مواقع للحفر. في 14 تشرين الأول (أكتوبر) 1927، كان مصير كركوك مختوماً: إنفجر النفط الخام بإرتفاع 43 متراً من الأرض، وغمر الأراضي المحيطة بحوالي 95،000 برميل لمدة 10 أيام قبل أن يتم سد البئر. مع دخول النفط الآن كجزء من المعادلة، فإن الوضع السياسي في كركوك أصبح أكثر إشتعالاً.
إستقدم البريطانيون معظم العمال من رجال القبائل العربية السنية للعمل في حقول النفط، الأمر الذي أدّى إلى الحد تدريجاً من الغالبية الكردية وإضعاف نفوذ الأقلية التركمانية في المنطقة. وقد مُنح مشروع التعريب إنتعاشاً جديداً عندما جاء حزب البعث العربي الإشتراكي إلى السلطة عبر إنقلاب عسكري في العام 1968. وقتها أعطيت الأسماء العربية للشركات والأحياء والمدارس والشوارع، في حين تم تعديل القوانين للضغط على الأكراد بمغادرة كركوك ونقل ملكية منازلهم وأراضيهم إلى العرب. وقد تحوّلت تكتيكات الإخلاء وصارت مروّعة في العام 1988 في إطار حملة الأنفال التي أطلقها صدام حسين، حيث إستخدِمت خلالها الأسلحة الكيماوية ضد السكان الأكراد. كما واصلت الحكومة العراقية تكتيكاتها الخرقاء لتعريب المنطقة حتى سقوط النظام البعثي في 2003. وبطبيعة الحال، كان الثأر هدفاً أساسياً فيما كانت الفصائل الكردية تعمل بسرعة لإعادة ملء المنطقة بالأكراد وطرد العرب.
حتى فيما ظلت حقول النفط الغنية في كركوك إضافة إلى حزام من الأراضي المتنازع عليها التي تمتد بين محافظتي ديالى ونينوى رسمياً تحت ولاية الحكومة المركزية العراقية في بغداد، فقد سعت القيادة الكردية إلى إعادة رسم حدود كردستان العراق. وبعدما إكتسبت المنطقة الكردية العراقية حكماً ذاتياً بحكم الأمر الواقع مع إنشاء منطقة حظر الطيران في العام 1991 ثم إندمجت رسمياً في حكومة إقليم كردستان بعد سقوط صدام حسين، توسّع تدريجاً النفوذ الكردي في المناطق المتنازع عليها. وقد زاد التمثيل الكردي عبر مجالس سياسية متعددة الأعراق، حيث سهّلته حماية أمن هذه المجتمعات التي قدّمها رجال “البشمركة” الأكراد والوعد بعائدات الطاقة، في حين بقيت بغداد غارقة في مشاكلها الخاصة. إن ضم كركوك وأجزاء من نينوى وديالى رسمياً، كجزء من إستراتيجية كردية أكبر، سيأتي في الوقت المناسب. في الواقع، إن التوقع بأن الجوانب القانونية لعملية الضم سيتم الإنتهاء منها قريباً أقنع حفنة من شركات الطاقة الأجنبية لتوقيع عقود مع السلطات الكردية – على عكس بغداد – الأمر الذي مكّن المناطق المتنازع عليها للبدء أخيراً في تحقيق إمكانات المنطقة من الطاقة.
ثم حدث ما هو غير متوقع: في حزيران (يونيو) الفائت، إنهار الجيش العراقي في الشمال تحت وطأة “الدولة الإسلامية” تاركاً حقول كركوك مفتوحة على مصراعيها، والسماح للبشمركة الكردية أخيراً وبشكل كامل السيطرة عليها. على الرغم من أن الأكراد يقبعون الآن بعصبية على “الجائزة”، فإن بغداد وإيران والعرب المحليين والتركمان و”الدولة الإسلامية” تتطلع إلى هذه الحقول بنظرة مفترسة. في الوقت عينه، تجاول قوة متنافرة من الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران ومسلحون أكراد ورجال من القبائل السنية طرد “الدولة الإسلامية” من المنطقة من أجل العودة إلى تسوية مسألة رسم الخطوط بالنسبة إلى الحكم الذاتي الكردي. ومما لا شك فيه بأن السنة سيطالبون بحصة في حقول النفط التي يسيطر عليها الكرد الآن كسداد للتحوّل ضد “الدولة الإسلامية”، الأمر الذي يضمن مواجهة بين الأكراد والسنة حيث أن بغداد سوف تستغلها بالتأكيد.
الحكومة التركية الحالية تبحث في العراق وسوريا بطريقة مشابهة لما فعل الداماد فريد باشا منذ قرن تقريباً عندما سعى في باريس إلى الحفاظ على السيادة التركية على المنطقة. من وجهة نظر أنقرة، إن تمديد مجال النفوذ التركي إلى الأراضي الإسلامية المجاورة هو الترياق لإضعاف الدولتين العراقية والسورية. حتى لو لم تعد لدى تركيا سيطرة مباشرة على هذه الأراضي، فإنها تأمل على الأقل بشكل غير مباشر إعادة تأسيس هيمنتها وإرادتها من خلال إختيار شركاء، سواء كانت مجموعة من القوى الإسلامية المعتدلة في سوريا، أو في شمال العراق: مزيج من التركمان والفصائل السنية جنباً إلى جنب مع فصيل كردي مثل الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يرأسه رئيس حكومة إقليم كردستان مسعود بارزاني. قد تكون الولايات المتحدة حالياً تركّز على تنظيم “الدولة الإسلامية”، ولكن تركيا تتطلع إلى سنوات مقبلة من الفوضى التي من المرجح أن تبقى. هذا هو السبب في أن تركيا تضع شروطاً على مشاركتها في المعركة ضد “الدولة الإسلامية”: إنها تحاول إقناع واشنطن وشركائها في التحالف العربي السني على أنها ستكون حتماً القوة التي ستدير هذه المنطقة. وبالتالي، وفقاً لأنقرة، يجب على جميع اللاعبين أن يتوافقوا مع أولوياتها، بدءاً بإستبدال الحكومة العلوية في سوريا المدعومة من إيران مع إدارة سنية التي سوف تنظر أولاً إلى أنقرة للإسترشاد.
ومع ذلك، فإن الرؤية التركية للمنطقة ببساطة لا تناسب الواقع الحالي وتكسب من جرائها أنقرة المزيد من النفور بدل الإحترام من جيرانها والغرب. من جهتهم سوف يستمر الأكراد، على وجه الخصوص، في تشكيل كعب أخيل للسياسات التركية.
في سوريا، حيث تنظيم “الدولة الإسلامية” يضيّق الخناق على مدينة “كوباني” على الحدود التركية، تواجه أنقرة إمكانية بغيضة حيث ستجد نفسها مضطرة إلى الزج بجيشها في معركة على الأرض ضد متمردين مجهّزين تجهيزاً جيداً. وعلاوة على ذلك، فإنها سوف تكون مجبرة على القتال إلى جانب مجموعة متنوعة من الإنفصاليين الأكراد، بما فيها حزب العمال الكردستاني في تركيا، الذي لدى أنقرة كل المصلحة في تحييده والقضاء عليه.
تواجه تركيا المعضلة عينها في العراق، حيث قد تدعم عن غير قصد الإنفصاليين الاكراد في حربهم ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”. لكن هذا الموقف سيشكل حرجاً أيضاً بالنسبة إلى تركيا إذ أنها لن تكون مرتاحة مع فكرة وقوع كركوك في أيدي الأكراد العراقيين ما لم يتم ضمان حقوق حصرية لأنقرة في الحصول على الطاقة والقدرة على إطفاء أي طموحات يغذيها النفط للإستقلال الكردي. ولكن تركيا لديها منافسة في هذا المجال. إن حزب الإتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه الرئيس العراقي السابق جلال طالباني غير مستعد للتحالف مع تركيا، كما فعل الحزب الديموقراطي الكردستاني، بينما الضغوط المالية تستمر في الصعود. بدلاً من ذلك، حافظ هذا الحزب الكردي على علاقات وثيقة مع إيران مع تفضيل العمل مع بغداد. وفي الوقت عينه، يبدو أن المقاومة العربية والتركمانية المحلية للحكم الكردي آخذة في الإرتفاع، وهو عامل تستغله بغداد وإيران بالتأكيد لأنهما تعملان على إضعاف السلطة الكردية بواسطة مغازلة المسؤولين المحليين في كركوك ونينوى مع وعود بحقوق الطاقة والإستقلالية.
هذه هي المعركة المزدحمة التي تعرفها تركيا جيداً. لعبة طويلة ومعقّدة من “الإبتعاد” سوف تنفَّذ لمنع الأكراد من تعزيز السيطرة على الأراضي الغنية بالنفط على خط الحدود بين الأكراد والعرب، في حين أن المنافسة بين تركيا وإيران سوف تظهر في طريقة جلية كاملة. بالنسبة إلى تركيا، للمنافسة بفعالية في هذا الفضاء، فهي ستكون في حاجة إلى التصالح مع واقع بأن أنقرة لن تتحدّى تاريخها من طريق حل اللغز الكردي، كما أنها لن تكون قادرة على الإختباء طويلاً داخل حدودها وتجنب المشاحنات الأجنبية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى