لماذا وصل المسيحيون في الشرق الأوسط إلى هنا؟

بين 9 و11 أيلول (سبتمبر) الفائت، عُقد في واشنطن مؤتمر “حماية المسيحيين في الشرق الأوسط” الذي حضره ممثلون عن كل الطوائف المسيحية في المنطقة العربية والفاتيكان وبعض السياسيين والناشطين. وعلى الرغم من أن هذا المؤتمر قد ساهم في توعية سياسيي أميركا في الكونغرس والبيت الأبيض، لكنه لم يستطع تحريك الإدارة الأميركية أكثر من دفعها إلى إطلاق بعض التعليقات والتصريحات الذي يطالب، ولا ينفّذ، بحماية المسيحيين في الشرق الأوسط.

حرق الكنائس في مصر
حرق الكنائس في مصر

لندن- ميشال مظلوم

في نيسان (إبريل) 2011، إختُطف فيتوريو أريغوني، الناشط الإيطالي و”الصحافي” الذي كان قاد عملية كسر الحصار البحري حول غزة، من قبل مجموعة في الأراضي التي تُسيطر عليها منظمة “حماس”، وما لبثت بعد قليل أن قتلته. لم يكن خاطفوه وجلاّدوه من فرع القوات الخاصة الإسرائيلية ، لكنهم كانوا أعضاء من جماعة إسلامية محلّية سلفية تُدعى “جحافل التوحيد والجهاد في فلسطين”. وقد أفرجت هذه الحركة عن “فيديو” على “يوتيوب” إتهمت فيه أريغوني، وهو علماني، ب”نشر الفساد” النابع جزئياً من علاقته بمسقط رأسه، “الدولة الكافرة” إيطاليا.
“سافر من مكان بعيد، ترك بلاده وعائلته وحياته كلها، وجاء إلى هنا لكسر الحصار، ونحن قتلناه؟ لماذا؟”، بكى أحد أصدقائه في غزة. الواقع أن الجواب عن ذلك أساساً له شقان. الأول يكمن في التحيّز ضد المسيحيين الكامن في التفسير الحرفي للآيات القرآنية، ويبدو أن عدداً لا بأس به من المسلمين، وبالتأكيد السلفيين، يأخذ القرآن ويطبّقه حرفياً. ومن ناحية أخرى، رجحان النظرة لدى المسلمين التي ترى أن مسيحيي الشرق الأوسط هم إمتداد لأوروبا، وبالتالي هم تذكير مستمر لتعديات الإستعمار الماضية والتفوق عليهم. إن إستطلاعاً حول المثال الأول وذلك الأخير يحمل هذا التقييم الذي لا لبس فيه.

قرون من تراجع المسيحية

على عكس الحكمة التقليدية السائدة لدى المسلمين بأن الحروب الصليبية (1095-1291) قد أنهت فترة أسطورية من التعايش المسلم – المسيحي، فإن المسيحيين، سكان الشرق الأوسط الأصليون، قد أُكرِهوا من قبل الفاتحين المسلمين للمنطقة، قبل وقت طويل من الحروب الصليبية، إما أن يتحوّلوا إلى الإسلام، أو يُذبحون، أو يقبلون بالوجود كمواطنين من الدرجة الثانية (أهل ذمة). إن دفع الثمن والإنتقام ل”الإهانة” من حروب الصليبيين إتّخذ العديد من الأشكال المختلفة على مدى فترة طويلة من الزمن. كان أحد أفظع حمامات الدم العقاب المملوكي المصري الهائل ضد المسيحيين المحليين الذين لا ذنب ولا علاقة لهم بالإنقضاضات الأوروبية على أراضي المسلمين. وقعت الهجمات في العام 1320 عندما دُمِّرت الكنائس في جميع أنحاء مصر على رؤوس الآلاف من المصلّين وطالبي اللجوء (كما ورد في كتاب جوشيم بطرس “تاريخ المسيحية في مصر”). وقد إعتُبِرت المشاركة المسيحية في الغزو المغولي لبغداد في العام 1258 أيضاً إستفزازاً، لذا عندما هُزمت جيوش هولاكو خان (التتر) في معركة “عين جالوت” (1260)، كان إنتصار المسلمين إيذاناً ببدء “الإنعكاس المدمّر لآمال المسيحيين … [و] … الإنهيار الحاسم للمسيحية في الشرق الأوسط، وجزء كبير من أفريقيا” (حسب كتاب كولن شابمان: “المسيحيون في الشرق الأوسط – ماضياً وحاضراً ومستقبلاً”). وعلى مدى القرون القليلة المقبلة، صار المسيحيون (واليهود) كبش فداء منصوصاً عليه في الفكر ومحفوراً في العادات في معظم المجتمعات الإسلامية، وهو إتجاه ضعيف واهن زاد سوءاً مع بداية التراجع الإسلامي. في نهاية المطاف، المجتمع المسيحي الذي عرف إزدهاراً في وقت سابق وتمدداً واسع النطاق خفتت أضواؤه وأصواته وبدأ بالإنكماش، لكنه “لم يتلاشَ ببساطة من خلال عدم وجود حماسة، أو إرتباك لاهوتي؛ لقد سُحِق من جرّاء فوضى الحرب والإضطهاد”، (حسب كتاب فيليب جنكنز، “التاريخ الضائع للمسيحيين”).
جنباً إلى جنب مع القيود المفروضة على حرية العبادة، إتّخذ التعصّب الديني والتمييز الطائفي الإسلامي أشكالاً عديدة بما في ذلك إنتشار إستخدام الإفتراءات الدينية الهجومية والإستبعاد من القيادة السياسية والعسكرية العالية المستوى. مع مرور الوقت، صارت الهجمات على الممتلكات المسيحية، وتدمير الكنائس، وقتل المصلّين بدم بارد هي القاعدة وليس الإستثناء. كانت الهجمات المنهجية بلا حرج على الكنائس تهدف على ما يبدو إلى القضاء على المسيحية وتهجيرها من المنطقة لأن أماكن العبادة هذه “تحافظ على تقاليد العصر الرسولي بطرق لا تقوم بها شعائر أو طوائف مسيحية أخرى”، (حسب “لوس أنجليس تايمز 15 كانون الأول (ديسمبر) 2010).
على الرغم من الوعد المبكر بمستقبل أفضل الذي رافق إنهيار الإمبراطورية العثمانية المتجذّرة دينياً والتي أعقبها إنشاء نظام الدولة العلمانية في الشرق الأوسط، لم يتحسّن وضع المسيحية ككل. في البداية، وجد المسيحيون أنفسهم في موقع إقتصادي وتعليمي متميّز لأنهم إحتضنوا بشغف التعليم الغربي وخدموا في الإدارة المحلية للحكومات الإستعمارية. لكن عسكرة السياسة العربية أثبطت عزائمهم وخيّبت آمالهم وساهمت في إستمرار تهميشهم. من جهتهم لم يتحرّش الحكام العرب العلمانيون بمجتمعاتهم المسيحية الطليعية والأكثر ليبرالية، لكنهم أيضاً لم يحفظوا لهم مكاناً في حساباتهم السياسية أو الإقتصادية. وفيما زادت الميول إلى السرقة والفساد، بالتزامن مع حكم متهوّر وإقتصاد فقير، فقد كان المسيحيون الأكثر تضرراً، وخصوصاً في العراق ومصر وسوريا.

حرب العراق ومسيحيو بلاد ما بين النهرين

عشية عملية “حرية العراق” التي قادتها الولايات المتحدة، سعى البابا يوحنا بولس الثاني إلى إقناع إدارة جورج دبليو بوش بالتخلي عن خطط الغزو. كان الفاتيكان يخشى بأن الحرب ستؤدي إلى زعزعة الإستقرار الإقليمي، فضلاً عن أعداد ضحايا كبيرة، ولكن الأهم، بأنها ستفتح “فجوة واسعة جديدة بين المسيحية والإسلام”. كان البابا يدرك أنه في أعقاب حرب الكويت في العام 1991، بدأ تنظيم “القاعدة” عملياته في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكان قلقاً بشكل واضح من أنه مع الغزو الذي تقوده الولايات المتحدة لإجتياح العراق فإن الإسلاميين المسلّحين سيبدأون بالتوافد إلى البلاد لمحاربة “الكفّار المسيحيين”، كما قال الديبلوماسي الأميركي أندرو دوران في أيار (مايو) 2013.
وتحقّقت هذه المخاوف بعد ذلك بوقت قصير. مع إنقضاء عام، أو أكثر قليلاً، على إعلان الرئيس بوش إنتهاء العمليات العسكرية الرئيسية في أيار (مايو) 2003، بدأت الهجمات الكبرى الأولى ضد المسيحيين العراقيين بإستهداف خمس كنائس في بغداد والموصل، مما أسفر عن مقتل أحد عشر شخصاً وجرح أكثر من خمسين. وإتخذ الجهاديون الذين ينتمون إلى تنظيم “القاعدة” زمام المبادرة في معارضة الوجود العسكري الأميركي في العراق، معتبرين قوات التحالف “حيوانات مفترسة” دينية. ولما كان الوصول إلى الجنود وقتلهم أصعب والقواعد العسكرية أكثر صعوبة للإختراق، فقد وجدوا أنه من المناسب إستهداف “مسيحيي العراق كخيار سهل”، (كما كتبت “ويسترن مايل” الصادرة في كارديف في بريطانيا في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010).
في العام 2010، كشف تنظيم “دولة العراق الإسلامية” التابع ل”القاعدة” عن كراهيته وحقده بمهاجمة كنيسة سيدة النجاة الكاثوليكية في بغداد، حيث ترك ثمانية وخمسين قتيلاً، بعدما سبق أن أخذ أكثر من مئة شخص كرهائن خلال قداس المساء. هجوم مزدوج بالقنابل في بغداد إستهدف الكنيسة السريانية المسيحية خلال قداس عيد الميلاد في العام 2013 بالإضافة إلى سوق في الهواء الطلق قريبة، موقعاً ثلاثين قتيلاً وعدد كبير من الجرحى من المسيحيين. ومنذ غزو التحالف بقيادة الولايات المتحدة، فإن عدداً لا يُحصى من المسيحيين قُتل من قبل الإرهابيين الإسلاميين، وتشمل إنجازات هؤلاء الدموية قطع رؤوس النساء، وتشويه الكهنة، وصلب صبي آشوري مسيحي عمره 14 عاماً قرب الموصل. وقد إنخفض عدد المسيحيين العراقيين من مليونين في أوائل القرن العشرين إلى مليون ونصف المليون خلال نظام صدام حسين، وإلى أقل من 450،000 منذ الاطاحة بالنظام البعثي في 2003.
وقد لجأ مئات الآلاف من المسيحيين طلباً للمأوى في منطقة الحكم الذاتي في كردستان العراق. وبسبب قدرته الإستيعابية التي صارت مثقلة بالأعباء، فقد تقدم الإقليم بطلب إلى واشنطن للمساعدة، ويبدو أن هذا الطلب وقع على آذان صماء. حتى في هذا الجزء الهادئ نسبياً والمتسامح دينياً من العراق، فقد أفاد بعض الشباب المسيحي بأن رجال الشرطة الكردية قالت لهم بأنه “ينبغي لهم أن لا يكونوا في العراق لأنه أراض للمسلمين”، (كما أفادت “وورلد واتش مونيتور” في لندن في 22 تشرين الأول (أكتوبر) 2013).
في ضوء الصراع الذي طال أمده في العراق والإنزلاق الى الفوضى المحتملة، فمن غير المحتمل أن خروج المسيحيين من بلاد ما بين النهرين يمكن وقفه. إذا كان أي شيء، “إن إستمرار فرار المسيحيين في العراق إلى المنفى قد أثار مخاوف من أن هذا المجتمع، الذي يُعتبر واحداً من أقدم المجتمعات المسيحية المستمرة في العالم، يمكن أن يواجه خطر الإنقراض في وطنه القديم”، (حسب الأهرام الأسبوعي الصادرة في القاهرة في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013).

الإنتفاضة المصرية والأقباط

على الرغم من أن الأقباط هم السكان الأصليون في مصر، فإن وضعهم تحت حكم المسلمين كان دائماً محفوفاً بالمخاطر. إن المسلمين المصريين ليسوا فقط متديِّنين جداً، لكنهم يعتقدون على نطاق واسع أن المسيحيين ليس لهم أي دور يلعبونه في إدارة شؤون البلاد. وهكذا، على سبيل المثال، على الرغم من مشاركتهم في الإنتفاضة التي أجبرت الرئيس حسني مبارك على التنازل عن السلطة في 11 شباط (فبراير) 2011، فقد تم إستبعاد الأقباط من الأنشطة السياسية وإدارات الشرطة وأجهزة الأمن والأوساط الأكاديمية. يميل المسلمون إلى الإعتقاد بأن أسلمة مصر هي أمر دائم ويعتبرون أن الأقباط مصدر إزعاج تاريخي. وفقاً للمحلّل نبيل عبد الملك، إن “الحركات الإسلامية في كثير من الأحيان تضايق الأقباط بهدف تحويلهم لإعتناق الإسلام، وتستخدم من أجل ذلك مجموعة متنوعة من الوسائل، تتراوح من الحوافز إلى العنف الصريح”. إن نظام “أهل الذمة” القائم على الشريعة، يُحرم المسيحيين من حقوق متساوية مع المسلمين، وهذا يعني أن ليس لديهم مستقبل في عالم الإسلام. وقد تفاقمت التوترات بين الغالبية والأقلية من السكان بسبب “إنعدام إهتمام الدولة بشؤون الأقباط الأمر الذي شجّع المشاعر المعادية للمسيحية بين كثير من المسلمين في جميع مناحي الحياة” (حسب “وول ستريت جورنال” في عددها الصادر في 18 أيار (مايو) 2010). في حين أن الأمثلة كثيرة، فإن حالة واحدة توضّح الوضع. واصفةً حادث وقع في في تموز (يوليو) 2013، فقد ذكرت منظمة العفو الدولية أن قوات الأمن “وقفت جامدة وفشلت في التدخل خلال هجوم وحشي على المسيحيين الأقباط في الأقصر … لقد تركت ستة رجال محاصرين – حيث أن أربعة منهم قتلوا ونقل واحد إلى المستشفى — تحت رحمة حشد غاضب “. (تقرير “أمنيستي إنترناشيونال” لندن في 23 تموز (يوليو) 2013).
الضعف الكبير الذي حلّ بنظام عبد الناصر بعد هزيمة مصر في حرب الأيام الستة في العام 1967 شجّع الأقباط على إعلاء صوتهم للمطالبة بالمساواة. في الوقت عينه، إستغلّ مواطنوهم المسلمون هذه الإحتجاجات لإطلاق إتهامات ضدهم لا مبرّر لها بالتواطؤ مع الغرب المسيحي. في هذا الجو المشحون من تزايد مطالب الأقباط وإنكار المسلمين المستمر لها، ساهم “الأزهر، المؤسسة الإسلامية السنية البارزة في العالم، بنصيبه في هذا العداء على نطاق واسع من خلال نشر كتيب يعلن أن “الكتاب المقدّس وثيقة منحرفة والمسيحية ديانة وثنية”، كما ورد في “وول ستريت جورنال” الصادرة في 18 أيار (مايو) 2010.
الواقع أن العنف قد إحتدم ضد الأقباط بشكل متقطع منذ سبعينات القرن الفائت، ولكنه بلغ ذروة جديدة خلال الإضطرابات المحيطة بالإنتفاضة التي أطاحت في نهاية المطاف الرئيس حسني مبارك في شباط (فبراير) 2011. ففيما كانت طقوس قداس السنة الجديدة السنوية تقارب على نهايتها في كنيسة القديسين في الإسكندرية وهَمَّ بعض المصلّين بالخروج، إنفجرت قنبلة كبيرة أسفرت عن مقتل ثلاثة وعشرين شخصاً من المصلين وجرح 93. وكان هذا الهجوم الأكثر دموية في أعمال العنف ضد الأقلية المسيحية في مصر منذ 14 سنة، منذ مذبحة “الكشح” في العام 2000 التي تركت 21 قتيلاً من الأقباط.
وكان كثيرون من شباب الأقباط شاركوا في التظاهرات والإعتصامات في ميدان التحرير في القاهرة للمطالبة بإطاحة مبارك على الرغم من أن “الأقباط المؤيدين للديموقراطية لم يكونوا الغالبية داخل مجتمعهم”، كما أشارت سلمى موسى في العدد الأول من “إنترناشيونال جورنال أوف آرتس أند ساينس” في 2013. ولم يخفِ قادة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية عدم إرتياحهم لمشاركة أتباعهم في الثورة علناً، وأعادوا تأكيد إلتزامهم بالشراكة السلمية مع النظام حيث أن الجيش هو الضامن لإبعاد الإسلاميين المتشدّدين منهم ووضعهم بالتالي تحت السيطرة. وقد تظاهر الأقباط تأييداً للجيش في أعقاب الإطاحة بمرسي في تموز (يوليو) 2013، عندما “الغالبية العظمى من الأقباط … عبّرت عن دعمها للجيش … [و] الكنيسة القبطية الأرثوذكسية … مرة أخرى إتخذت موقفاً داعماً للجيش”، كما علقت “فاتيكان إنسايدر” الصادرة في روما في 17 آب (أغسطس) 2013. كانت لدى القيادة القبطية الأرثوذكسية أسباب وجيهة للرغبة في الحفاظ على الوضع الراهن إذ أن سقوط النظام الإخواني منحها قوة في التعامل مع شؤون الأقلية القبطية.
لم تجلب الإنتفاضة الديموقراطية أو الاستقرار إلى مصر. في الواقع، إن آلات الإكراه الرسمية للدولة تعاملت بقبضة ثقيلة وبشكل غير متوقع مع المتظاهرين الأقباط. في تشرين الأول (أكتوبر) 2011، أطلق جنود الجيش المصري النار على متظاهرين مسالمين من الأقباط بالقرب من مبنى “ماسبيرو”، مقر إتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري في القاهرة. وكان الأقباط يومها يحتجّون على هجوم سابق على كنيسة في أسوان؛ وقد خسر خمسة وعشرون متظاهراً حياتهم في حين بث التلفزيون الحكومي تقارير مزوّرة عن متظاهرين مسلّحين يقومون بمهاجمة أفراد الجيش. إن “مذبحة ماسبيرو” أدّت إلى خيبة أمل كبيرة لدى الجمهور القبطي بالنسبة إلى كلٍّ من الإنتفاضة ووعدها بوضعهم على قدم المساواة مع الغالبية المسلمة. نمت خيبة الأمل إلى إنذار عندما فاز مرشح “الإخوان المسلمين” محمد مرسي بالرئاسة في إنتخابات ديموقراطية في حزيران (يونيو) 2012. لقد صدم فوزه في الإنتخابات معظم الأقباط، الذين إعتبروا الأمر إنتكاسة لآمالهم في بناء نظام سياسي ليبرالي. لقد تحوّل قلقهم إلى واقع فيما كان مرسي ورفاقه يقومون بتدعيم الصلاحيات والإمتيازات الإسلامية في القوانين المصرية من خلال دستور جديد.
فيما تدهور عدم الرضا عن حكم الإسلاميين وتصاعَد إلى إحتجاجات حاشدة، فقد أطاح وزير الدفاع المشير عبد الفتاح السيسي الرئيس مرسي في إنقلاب غير دموي. ولإضفاء الشرعية على عمليته، سعى السيسي إلى الحصول على دعم شعبي واسع، وخصوصاً من الزعماء الروحيين المصريين. إنضم رئيس الكنيسة القبطية، البابا تاوضروس الثاني، إلى رئيس الأزهر الشيخ أحمد الطيّب، ورئيس حزب “النور” السلفي الشيخ يونس مخيون، في تأييد الإطاحة بمرسي. يبدو أن المزاج العام بين الأقباط كان أن السيسي وحده “يمكنه تجنيب مصر من أهوال وشر جماعة “الإخوان المسلمين” … ويجنبنا من التعرض لهجمات الإرهابيين الذين يريدون حرق كنائسنا والرمي بنا خارج البلاد “، كما جاء في “الأهرام” الصادرة في 17 نيسان (إبريل) 2014.
بدورهم، إستاء الإسلاميون في مصر من الغالبية العظمى من الناخبين الأقباط التي لم تصادق على رئاسة مرسي، وشعروا بالخيانة بسبب قرار البابا تاوضروس الذي دعم إعتقال الرئيس المخلوع. وتصاعدت أعمال العنف ضد الأقباط، خصوصاً في صعيد (جنوب) مصر. وفي حادث واحد بعينه، قتل أنصار مرسي أربعة أقباط، ولكن لم تتخذ الشرطة المصرية أي إجراء لملاحقة القتلة أو لتوفير الحماية للمسيحيين في وقت لاحق. في الواقع، لقد وقفت الشرطة دائماً إلى جانب الإسلاميين الغوغائيين عندما كانوا يحرقون الكنائس.
لم تُقدّم إطاحة مرسي للأقباط الإغاثة والراحة من العنف والإضطهاد، خصوصاً عندما حاولوا ترميم أو بناء كنائس جديدة، وهي إجراءات تعتبر إهانة للإسلام. وفي الوقت عينه، إزداد عدد الأقباط الذين يسعون إلى ترك وطنهم بشكل كبير.

الإنتفاضة السورية

إن العلمانية التي روّج لها كلٌّ من الرئيسين حافظ الأسد ونجله بشار في سوريا قد تكون فشلت في السماح للمسيحيين بالإزدهار سياسياً، لكنها مكّنتهم على الأقل من تحقيق قدر من النجاح الإجتماعي والإقتصادي. ونتيجة لذلك، كانت ردود الفعل المسيحية على إندلاع الإنتفاضة السورية في العام 2011 مختلطة. الواقع أن القلق حول ما ستنتج عنه الإحتجاجات هو الذي دفع بالكثيرين منهم إلى الوقوف إلى جانب النظام، وليس الولع بالرئيس بشار الأسد.
لم تكن المخاوف المسيحية من دون أساس. في الأيام الأولى للإنتفاضة السورية، سُمِعَ متظاهرون ضد النظام في حمص يردّدون “العلويون إلى التابوت والمسيحيون إلى بيروت”. وسرعان ما برزت قصص مروعة عن الإساءة إلى المسيحيين من قبل مسلمين سوريين لم يكونوا تحديداً من المتشدّدين الإسلاميين. شابة مسيحية عمرها 18 عاماً فرّت من حمص إلى زحلة في لبنان روت ما عانته: “كانوا يريدون قتلنا لأننا مسيحيون. كانوا يدعوننا “الكفار”، حتى الأطفال الصغار منهم كانوا يرددون هذا الكلام. أولئك الذين كانوا جيراننا تحوّلوا ضدنا”.
وسرعان ما ساءت الأمور. فقد ذكرت راهبة تدير المدرسة البطريركية الكاثوليكية في دمشق أن الجهاديين الذين إحتلوا مناطق من سوريا أعطوا المسيحيين خيار التحوّل إلى الإسلام أو دفع الجزية، الضريبة الإسلامية التقليدية التي تفرض على “أهل الذمة” الذين يرغبون في البقاء على قيد الحياة. في البلدة المسيحية القديمة “معلولا”، صلب مسلحو تنظيم “جبهة النصرة” التابع ل”القاعدة” شابين مسيحيين لأنهما رفضا قبول إعتناق الإسلام: “إعتنق الإسلام، أو سوف تصلب مثل سيدك [يسوع]” نقل أحد أبناء البلدة عما رآه وسمعه عن هذه الحادثة. كما تم إختطاف رئيس أساقفة الروم الأرثوذكس بولس يازجي ورئيس أساقفة السريان الأرثوذكس يوحنا إبراهيم في نيسان (إبريل) 2013 خارج حلب في منطقة خاضعة لسيطرة المتمرّدين الجهاديين. ويا للسخرية، قبل أيام عدة، صرّح المطران إبراهيم قبل إختطافه إلى الصحافة أن “المسيحيين في سوريا ليسوا مستهدفين مثل إخوانهم في العراق”. وفي تموز (يوليو) 2013، أقدم تنظيم أصولي آخر، “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، على خطف وقتل الكاهن الإيطالي باولو دالوليو في شمال شرق سوريا، على الرغم من المعرفة التامة بأنه قد تم ترحيله من قبل نظام الأسد بسبب أعمال الإغاثة التي يقدّمها لمساعدة ضحايا حملة الجيش السوري.
كما لم يلقَ مسيحيو سوريا أي إغاثة حقيقية من الجانب الآخر في الصراع. لقد رسّمَل النظام السوري بإنتظام على مخاوف المسيحيين من أجل كسبهم، ولكنه لم يحمِهم ولم يكن لديه ورع من اللجوء إلى الإرهاب، وإستخدامهم دروعاً بشرية وقصف قوات المعارضة من المناطق المسيحية داعياً بذلك المعارضة إلى الرد بقصف مضاد لزيادة إحساس المسيحيين بالضعف والتبعية. وقد ذكرت إمرأة شابة أنه تم إعتقالها في حلب من قبل عملاء النظام حيث تعرّضت للتعذيب والإغتصاب بعدما فشلوا في إقناعها بأنها كمسيحية هي مستهدفة من السلفيين، وعليها بالتالي أن تؤيد النظام.
وفي الوقت عينه، حليف الأسد الشيعي، “حزب الله”، الذي ساعد تدخله العسكري في النزاع في الحيلولة دون سقوطه، سعى إلى تصوير نفسه كمدافع عن المسيحيين. بعد إسترجاعه البلدة المسيحية السورية “صيدنايا” من المتمردين المسلحين السنة، عمّم “حزب الله” صورة تظهر أحد مقاتليه، ملفوف بالعلم الأصفر المميز للمجموعة، يؤدي التحية لتمثال أحد القديسين. إن “حزب الله” حريص على إقناع المجتمع الدولي أنه، على خلاف الجماعات الجهادية السنية، هو حركة دينية حميدة ملتزمة التعددية الدينية.

سنوات قاتمة تنتظر المسيحيين

يبدو واضحاً أن الثقافة العربية هي مغرضة في جوهرها ضد الأقليات العرقية والدينية. الإسلام لا يمكن أن يكون متسامحاً حقاً ما لم يسمح بوجود الديانات الأخرى في دياره. العداء تجاه المسيحيين هو منتوج ثقافة الكراهية والخوف التي غُرست بواسطة قمعية الأنظمة العربية. ومن المفارقات أن المسيحيين الشرقيين، الذين أطلقوا حركة النهضة العربية الوليدة في القرن التاسع عشر والقومية العربية وحزب البعث القومي العربي بعد قرن، ناهيك عن إدخال مفاهيم الليبرالية الغربية إلى مواطنيهم من المسلمين، شعروا بأنهم مضطرون ومجبرون على نحو متزايد لدعم “الطغاة العلمانيين القدامى الذين أساؤوا إلى ضحاياهم وإبتزّوهم على قدم المساواة، سواء كانوا يحملون الصليب، أو يرتدون الحجاب أو القلنسوة من أجل ضمان قدر من الحماية.
إن محنة المسيحيين العرب من دون أدنى شك قاتمة. في حين أن الحكومات الغربية قد إعترفت بخطورة القضية، فإن الإجراءات المتواضعة التي إتخذتها للتصدي لها هي غير متكافئة مع خطورتها. وقد تناول بعض وسائل الإعلام الدولية التهديد الأساسي لوجود المسيحيين غير الحصين في المنطقة، ولكن هذا الوضع يفتقر إلى جوقة من الأصوات الصحافية المؤثّرة التي يمكن أن تحتجّ على التهميش والعنف والتي يمكنها تغيير المواقف الدولية الرسمية.
إن المسيحيين في الشرق الأوسط هم ضحية العمليات التاريخية التي لا تبشّر بالخير بالنسبة إلى مستقبلهم. إن ولاءهم للدولة هو دائماً موضع تساؤل، ربما لأن لديهم صعوبة في رؤية أنفسهم كجزء من تطورها. في سياق إجتماعات الحوار المسيحي- المسلم المتكررة، “مال الشركاء المسيحيون إلى النقد الذاتي وإعترفوا … بأن الحالات الفظيعة من العنف برّرته أسباب دينية. … ومع ذلك، ليس هناك إنعكاس لنقد ذاتي متبادل من قبل شركائنا المسلمين بالنسبة إلى العدوان والغزو الإسلامي على الأراضي التي كان يسيطر عليها سابقا المسيحيون”، على حد قول أحد الكهنة الناشطين الذي لم يرد ذكر إسمه.
الواقع أن الإنتفاضات العربية تُظهر قيوداً مجتمعية بدلاً من فرص. إن حل القضايا العالقة أمر ضروري للنجاح السياسي. لا يمكن أن تأمل المجتمعات العربية بالتحديث والتطور من دون الدمج الكامل للمسيحيين والأقليات الأخرى في الأنظمة السياسية في بلدانها. الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، والتي تتطلب الشجاعة الأدبية، هو الاعتراف بأخطائها بدلاً من ترشيدها.
قد يكون هناك دور كبير لا يزال ينتظر المسيحيين العرب للمساهمة في نقل بلدانهم من إقتتال الأشقاء إلى الكياسة والتمدن، ولكن هذا الطريق طويل ومحفوف بالمخاطر في الوقت الراهن. ولكن السؤال هنا: هل يستطيعون البقاء ويصمدون طوال هذه الفترة من الاضطراب، من أجل المشاركة في تلك المساهمة؟ الجواب يبدو حتى الآن موضع شك وسلبياً إلى حد كبير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى