أزمتنا … أزمة ضمير

بقلم ميرنا زخريّا*

الضمير ليس مجرَّد رأيٍ أو وجهة نظرٍ، بل هو شعور إنساني باطني يجعل المرء يُراقب سلوكه ويتحكّم به. وعليه، فهو نبض الحياة، وحين يتوقف نبض الإنسان عن الخفقان، يُفارق الحياة الجسدية؛ كذلك حين يتوقف الضمير الحيّ عن العمل، تزول القيم والأخلاق والمبادئ داخل ذاك الجسد. وهذا ما لا يمكن تعويضه، إذ بفُقدانه، نفقد الميزان الداخلي الذي يميّز بين الخطأ والصواب.
على مستوى التحليل النفسي، لا يمكن للضمير أن يكون ذات معالم مطّاطية، إذ تطفو عندها معالم الشخصية الممزوجة بالإزدواجية، أقله لناحية الأقوال والأفعال، كأن نقول خيراً ونفعل شراً. وهنا بيت القصيد: فمن ناحيةٍ أولى، شخصية الإنسان العربي كثيراً ما تُبالغ في التبشير بالصدقِ والعطاءِ والوفاء كما وغالباً ما تدّعي الأخلاقَ والإيمانَ والتعايش؛ ومن ناحيةٍ ثانية، تنتشر الفوضى والخيانة والفساد وتسيطر أعمال القتل والنهب والتزوير. إن مظاهر الإستمرار بالدعوة لإلتزام الأخلاق والعمل بضمير، قد تعكس رغبة الإنسان العربي بأن يلتزم الآخرون بهذه الثوابت، لكن للأسف لا يبدو أن ذلك يعني أنه ملتزم هو شخصياً بها.
الضميرهو بمثابة جهاز نفسي تقييمي يتعلق بِضبط “الأنا” كي لا تضعف أمام الإغراءات، كما ويتعلق بمنع “الهوَ” كي لا تندفع نحو إشباع الغرائز. لذا، فمن البديهي أن يؤثر بمُختلف جوانب الحياة:
1. الجانب الأمني: بغياب الضمير يغيب الأمان… أمن الوطن هو بمثابة صمّام أمان للمواطن، ومن دون معيارٍ مقبولٍ من الطمأنينة، لا يسلم وطن ولا يبقى مواطن، بحيث يُهاجِر البشر ويُدمَّر الحجر. إن نظام الدولة هو من يصنع الأمن ويحافظ عليه، فإذا كانت على رأسها ضمائر غائبة، غابَ الأمن وعمَّ الإرهاب.
2. الجانب القضائي: بغياب الضمير يغيب العدل… القانون يحمي الحقوق ويُحدّد الواجبات، ومتى تهاوى القضاء، تهاوت معهُ أسس العدل والحق. وهل أبشع من قاضٍ فاقدٍ للضمير، عندئذ نعود إلى شريعة الغاب ليأخذ صاحب الحق حقه بيده طالما لا من رادع ولا من عقاب، ما يؤدي إلى الفلتان و”الهريان” المؤسساتي.
3. الجانب المهني: بغياب الضمير تغيب النزاهة… إن ما يُبديه الموظف من إستقامةٍ وحرصٍ عند قيامه بواجباته هو عين المطلوب. لكن ساعة تسيطر المصالح الشخصية على المنافع العمومية، يتوقف عمل المؤسسات العامة والخاصة على حدّ سواء. فالطمع والكسل ما هما إلا مزيج أعمى لتشتيت الضمير المهني.
4. الجانب السياسي: بغياب الضمير يغيب الإستقرار… يدور صلاح وفساد الأمم في فلك أهل السياسة، بحيث الصالح منهم يُصلّح والفاسد يُفسِد، وممّا يُميز الأول عن الثاني هو ضميره. فمُعظم الإجتهادات الدستورية والإحتيالات الإنتخابية تدور تحت راية الدول الديموقراطية التي باتت تفوح منها رائحة الأنظمة الديكتاتورية.
5. الجانب الإعلامي: بغياب الضمير تغيب الرؤية… تضليل الرأي العام يتطلب قبل كل شيء وسيلة إعلامية بلا ضمير مستعدة أن تقلب الحقائق مقابل مبلغ أو خدمة. فتقتطع من التصريح لتحريف المعنى أو تقتطع من المشهد لتضليل الرؤية. الإعلام الإنتقائي الذي يكثّف أو يغيّب التغطية ليس إعلاماً بل تعليماً.
6. الجانب العسكري: بغياب الضمير تغيب الكرامة… كرامة الوطن والمواطن هي أمرٌ لا يُمس به، لذا وجب إحترامها وصيانتها، وهذا من واجب كل سُلطات الدولة. إن كل عسكريّ لهوَ مدعو إلى وقفة ضمير لا سيّما أمام المخاطر التي باتت تُهدد كافة الدول العربية من دون إستثناء.فهُنا الخيانة هي خيانة عُظمى.
7. الجانب الإنساني: بغياب الضمير يغيب الإنسان… الحيوان يقتل في حالتَي الجوع والخوف، أما الإنسان فيقتل بالإضافة إلى ما سبق، في حالتَي الشبع والطمأنينة أيضاً. الضمير هو بمثابة سُلطة الفرد الداخلية، لكن المشكلة أنه لدينا مُبرر جاهز لكل خطأ نرتكبه فترانا نُلغي بسُهولة الحواجز بين المُباح والمُحرّم.
أنتمي إلى سُلالةٍ تتلاشى، سُلالةٌ تؤمن بسُلطة الضمير.
ولا يُخفى على أحد مدى تداعيات غياب الضمير العربي في القرن الواحد والعشرين والتي تجلت في مشاهد عدة، ولعل مشهد نزيف الدم العربي الجاري هو أبرزها. الأزمة الأساس هي أزمة ضمير؛ فإن عاد الضمير الغائب حيناً والمُستتر أحياناً، عاد معه الأمن والماء والكهرباء، كما ويعود العيش برخاء والعيش بإطمئنان والعيش المشترك. ها نحن نعيش في مجتمعاتٍ تخاف من الفضيحة أكثر ممّا تخاف من الله، لذا المطلوب الإستعانة بأهل الثقة لأن أهل الخبرة ليسوا بالضرورة أهل ضمير.
إن إملاءات ضميرنا اليوم هي التي غداً سوف تنصَّ مصيرنا وتكتبَ لنا كتبَ تاريخنا.
وإن ضاع الضمير، هلك المصير.

• باحثة في علم الإجتماع السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى