العواقب المالية لمكافحة الإرهاب

لندن – محمد سليم

في الصيف الفائت، أرسل المصرف العملاق البريطاني باركليزإشعارات إلى 250 من عملائه في المملكة المتحدة يعلمهم فيها عزمه على إغلاق حساباتهم لديه، ومنحهم فترة 60 يوماً لإيجاد ملاذ جديد لأموالهم. كانت غالبية الزبائن من شركات التحويلات المالية الصغيرة – أو ما يسمى شركات خدمات مالية التي خدمت مجتمعات الشتات الكبيرة في البلاد. ولأن البنوك الدولية الكبيرة ليست لديها عادة فروع في الصومال وبنغلاديش، فإن شركات تحويل الأموال هذه شكّلت خط الأنابيب الرئيسي الذي من خلاله يرسل المهاجرون الأموال إلى ذويهم في الوطن. مع ذلك، بسبب القلق المتزايد إزاء الإمتثال للشروط الحكومية لمكافحة تمويل الإرهاب قررت البنوك تنظيف دفاترها وسجلاتها من أي خطر زائد.

 وجاءت ردة الفعل والإدانة بسرعة، حيث تحرّك إئتلاف من منظمات غير ربحية وسياسيين ونجوم رياضة لمحاربة قرار باركليز“. إن إغلاق الحسابات، قالوا، يشكّل قطع شريان الحياة الماليلدول هشّة تعاني من الفقر. الصومال، على سبيل المثال، يتلقى مالاً من التحويلات أكثر مما تفعل مساعدات التنمية، ووفقاً للبنك الدولي، تتلقى البلدان النامية أكثر من 400 مليار دولار من التحويلات سنوياً. ورداً على الضجة، عقد البرلمان البريطاني مناقشات، وأنشأ فريق عمل، وكلّف لجنة بإجراء تحقيق. على الرغم من ذلك، تمكّن باركليزمن إغلاق معظم الحسابات على أي حال.

في دفاعه عن قراره، أفاد باركليزبأن إرتفاع تكاليف الإمتثال لقوانين مكافحة الإرهاب عنى أنه لم يعد من المناسب تجارياً للبنك مواصلة تقديم خدمات لأي عميل يمثل أقل من مئة ألف جنيه إسترليني من الإيرادات السنوية“. هذه الحجة لا سيما وأنها تنطبق على البنوك التي توفّر خدمات المخاطر العالية والعائدات المنخفضة للعملاء مثل شركات الخدمات المالية قد أصبحت الآن مانعاً مشتركاً. وهناك مجموعة كبيرة من البنوك الأخرى، بدءاً من أتش أس بي سي” (HSBC) إلى ميرشنتس بنكفي كاليفورنيا، إستخدمت المنطق عينه لتبرير إغلاق حسابات مماثلة في أوروبا والولايات المتحدة. إن حذرها، علاوة على ذلك، هو من أعراض إتجاه أكبر تعكسه قضية باركليز“: تقييد النظام المالي العالمي لدعم حرب المجتمع الدولي على الإرهاب.

في أعقاب هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، إعتبر مسؤولون أميركيون بأن فشل حكومتهم في مكافحة شبكات تمويل الإرهاب كان العامل الرئيسي الذي سمح لتنظيم القاعدة بالنمو والإزدهار. وكما قال رئيس مكافحة الإرهاب السابق في البيت الأبيض ريتشارد كلارك في مذكراته في العام 2004: “كانت الإدارات الأميركية تعمل بشكل رديء لتتبع وتعطيل الشبكات المالية الجنائية الدولية، وفعلت القليل أو لا شيء ضد تمويل الإرهاب“. وأول طلقة أطلقها الرئيس الأميركي جورج بوش في الحرب العالمية الجديدة على الإرهاب تمثّلت في الأمر التنفيذي 13224، الذي دعا إلى ضربة على الأساس المالي لشبكة الإرهاب العالمي، والتي هدفت إلى حرمان الإرهابيين من التمويل“.

إن تركيز واشنطن على تأمين وضمان الحدود المالية كان شديداً منذ ذلك الحين، مما أدى إلى عاصفة من القواعد، والممارسات، والعقوبات الجديدة المفروضة على القطاع المصرفي. هناك أدلة ضئيلة تفيد بأن مثل هذه التكتيكات نجحت فعلاً في حرمان الإرهابيين من التمويل. ما هو واضح هو أنه، بعدما تم تفويضها ومنحها المسؤولية الأولى عن تأمين وضمان عمليات الحدود المالية الوطنية والدولية، تخلت البنوك عن العمليات والعملاء الذين قد يعرضونها إلى أي شكل من أشكال النشاط المالي غير المشروع، مشدّدة القيود على أساس ذلك للوصول إلى الخدمات المالية.

لم تكن أنشطة الخدمات المالية الوحيدة التي شعرت بالحرارة. العديد من المنظمات غير الحكومية، ولا سيما تلك التي تعمل في أماكن محفوفة بالمخاطر، شهدت تعثراً في الوصول إلى الخدمات المالية الأساسية. كذلك، أيضاً، كان الأمر بالنسبة إلى مجموعة متنوعة من الأفراد، بدءاً من الأشخاص المعرّضين سياسياً، وأولئك الذين يحتلون مكانة رسمية ويمكنهم أن يسيئوا إستخدامها لأغراض إجرامية، وإلى نجوم سينما الجنس، الذين غالباً ما يُعتقد أن حساباتهم مموّلة من مصادر مشكوك فيها. كما خفّضت البنوك الخدمات التي تنفَّذ نيابة عن عملاء البنوك الأخرى التي تسعى إلى تحويل الأموال دولياً.

الواقع أن الهدف من هذه القرارات هو الرغبة في تقليل المخاطر. في العامين الماضيين، صفع المنظمون في الولايات المتحدة البنوك التالية: “إتش أس بي سي، وإنج، وستاندرد تشارتردبعقوبات كبيرة. في العام 2012، على سبيل المثال، دفع أتش أس بي سي” (HSBC) إلى الإدارة الأميركية غرامة قدرها 1.9 مليار دولار لتسهيله غسل أموال وممارسة أعمال تجارية مع عصابات المخدرات في المكسيك وعملاء في بلدان خاضعة للعقوبات، بما في ذلك إيران وليبيا والسودان وبورما وكوبا. ولكن هذه الغرامات تبدو صغيرة بالنسبة إلى عقوبة 8,8 مليارات دولار التي وافق البنك الفرنسي بي أن بي باريباعلى دفعها لإنتهاكات مزعومة للعقوبات ضد إيران والسودان وكوباوهو مبلغ يرقى إلى ضعف مجموع الغرامات المتعلقة بالعقوبات المفروضة على جميع المصارف منذ تولي الرئيس الاميركي باراك أوباما منصبه.

بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، كانت المعايير المصرفية تحتاج إلى تحسين بالتأكيد. ولكن ما دام الخوف يحكم العلاقة بين السلطات التنظيمية والقطاع المصرفي، وحتى تشعر البنوك بأنها شريكة في الحملة لتعقب المجرمين والإرهابيين من خلال النظام المالي، فإنها سوف تستمر في العمل بشكل متحفظ، رافضة عملاء ومقيّدة خدمات حيثما كان ذلك ممكناً. وهذا لن يؤمّن ويضمن الحدود المالية. ذلك أن المال يجد دائماً وسيلة للوصول إلى المتلقي المقصود. لقد دفعت القوانين المقيّدة ببساطة مجموعة كبيرة من الأموال خارج القنوات الرسمية مشجّعة المجرمين والإرهابيين لتمويل أنشطتها في الظل.

في مؤتمر عُقد أخيراً في لندن، إعترف ديفيد كوهين، وكيل وزارة الخزانة الأميركية لشؤون الإرهاب والإستخبارات المالية، بأهمية التعاون بين المؤسسات المالية وسلطات إنفاذ القانون. من طريق الحفاظ على أصحاب الحسابات ضمن النظام المالي الرسمي، يمكن للبنوك من الوصول إلى كنز واسع من البيانات المالية التي يمكن أن لا تقدر بثمن لمطاردة الإرهابيين. ولكن أياً كانت قيمة هذه الإستخبارات، فلدى البنوك حالياً حافز أقوى بكثير لغسل أيديها تماماً من عملاء محفوفين بالمخاطر. وطالما أن الغرامات تمطر، ستواصل المصارف إزالة المخاطرة، وسيتم بالتالي تخفيف وتقييد الوصول إلى الخدمات المالية، الأمر الذي سيؤدي إلى تبادل المزيد من الأموال خارج النظام المصرفي العالمي. إن الحدود المالية، بعبارة أخرى، سوف تصبح أقل أمناً.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى