هل يجب إستنباط خرائط جديدة للمشرق العربي؟

يرى الخبير الإستراتيجي ورئيس مؤسسة “ستراتفور للإستخبارات الدولية ” الدكتور جورج فريدمان بأن إتفاقية “سايكس-بيكو” صنعت دولاً تفيد الأوروبيين ومصالحهم، ولم تراعِ الثقافة العربية وتجانس شعوب المنطقة، لذا على العالم أن يستنبط خريطة جديدة للشرق الأوسط تكون أكثر ديمومة. إنها وجهة نظر.

"البشمركة" الأكراد: زيادة قوتهم تقلق إيران وتركيا
“البشمركة” الأكراد: زيادة قوتهم تقلق إيران وتركيا

بقلم جورج فريدمان*

تم إنشاء لبنان نتيجة لإتفاقية “سايكس – بيكو”. هذه الإتفاقية بين بريطانيا وفرنسا أعادت تشكيل الإمبراطورية العثمانية المنهارة جنوب تركيا إلى الدول التي نعرفها اليوم – لبنان وسوريا والعراق، وإلى حد ما شبه الجزيرة العربية أيضاً. لما يقرب من مئة عام، حدّدت “سايكس بيكو” المنطقة وعرّفتها. وهناك حجة قوية الآن يمكن إطلاقها تفيد بأن الدول القومية التي نشأت على أساس “سايكس بيكو” هي شبه منحلّة، وإن ما يحدث في سوريا والعراق يمثل ظهور خرائط أخرى لما بعد تلك التي وضعها البريطانيون والفرنسيون والتي تحاول الولايات المتحدة الحفاظ عليها منذ إنهيار القوة الفرنسية –البريطانية.

إختراع الدولة –الأمة في الشرق الأوسط

“سايكس بيكو”، التي جمعت إسمي الديبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو ونظيره البريطاني السير مارك سايكس اللذين أشرفا على وضعها، فعلت شيئين. أولاً، خلقت العراق الذي هيمنت عليه بريطانيا. ثانياً، قسّمت الولاية العثمانية في سوريا على خط من البحر الأبيض المتوسط شرقاً عبر جبل الشيخ. كان كل شيء شمالي هذا الخط فرنسياً. وكان كل شيء جنوبي هذا الخط بريطانياً. الفرنسيون، الذين تورّطوا وشاركوا في بلاد الشام منذ القرن التاسع عشر، كان لديهم حلفاء بين المسيحيين في المنطقة. لذا إقتطعوا جزءاً من سوريا وضموه إلى جبل لبنان وخلقوا لهم دولة لبنان.
البريطانيون بدورهم سمّوا المنطقة الواقعة إلى الغرب من نهر الأردن كما دعتها المنطقة الإدارية العثمانية “فلسطينا” (Filistina)، التي تحولت بالإنكليزية إلى “بالستاين” و(بالعربية كانت تدعى دائماً فلسطين). ومع ذلك، كانت لدى البريطانيين مشكلة. خلال الحرب العالمية الأولى، بينما كان البريطانيون يقاتلون العثمانيين، تحالفوا مع عدد من القبائل العربية التي كانت تسعى إلى طرد الأتراك. كانت قبيلتان رئيسيتان، معاديتان لبعضهما البعض، الحليفتين الرئيسيتين لبريطانيا. كانت لندن قد وعدت هاتين القبيلتين بالسلطة بعد الحرب العالمية الثانية. لذا أعطت آل سعود المنتصرين الحق في حكم شبه الجزيرة العربية – وبالتالي المملكة العربية السعودية. والقبيلة الأخرى، الهاشميون، كانوا قد مُنِحوا فعلياً المملكة العراقية التي إخترعت حديثاً بالإضافة إلى شريط ضيِّق من الأرض الصالحة للزراعة إلى الشرق من نهر الأردن. لعدم وجود إسم أفضل، سمّيت الدولة “شرق الأردن”، أو الجانب الآخر من نهر الأردن. في الوقت المناسب أسقطت كلمة “شرق” وأصبح إسم الدولة الأردن (أو المملكة الأردنية الهاشمية).
وبالتالي، جنباً إلى جنب مع سوريا، تم إنشاء خمسة كيانات بين البحر المتوسط ونهر دجلة، وبين تركيا والمملكة العربية السعودية الجديدة. هذه الخمسة صارت ستة بعدما صوتت الأمم المتحدة على إنشاء إسرائيل في العام 1947. إن إتفاقية “سايكس – بيكو” ناسبت النماذج الأوروبية وأعطت الأوروبيين إطاراً لإدارة المنطقة التي تتفق مع مبادئ إدارية أوروبية. إن أهم مصلحة، النفط في العراق وشبه الجزيرة العربية، تمت حمايته من الإضطرابات في المحيط، فيما كانت تركيا وبلاد فارس تعاني من أزمات وإضطراب. وهذا أعطى الأوروبيين ما يريدون.
ما لم تفعله الإتفاقية هو خلق إطار يمنح قدراً كبيراً من الشعور للعرب الذين يعيشون في هذه المنطقة. النموذج الأوروبي للحقوق الفردية الذي أعربت عنه الإتفاقية للدول القومية لا يصلح لنموذج شعوب هذه الدول الثقافي. بالنسبة إلى العرب، الأسرة – وليس الفرد – هي الوحدة الأساسية للمجتمع. تنتمي العائلات إلى عشائر والعشائر إلى قبائل، وليس إلى دول. لقد إستخدم الأوروبيون مفهوم الدولة القومية للتعبير عن إنقسامات بين “نحن” و”هم”. بالنسبة إلى العرب، كان هذا إطاراً غريباً، والذي حتى يومنا هذا لا يزال يتنافس مع الهويات الدينية والقبلية.
الدول التي خلقها الأوروبيون كانت تعسّفية، فالسكان لم يعطوا الولاء الأساسي لها، والتوترات داخل هذه الدول ذهبت دائماً عبر الحدود إلى الدول المجاورة. لقد فرضت بريطانيا وفرنسا هياكل حكم قبل الحرب، ومن ثم هبّت موجة من الإنقلابات أطاحتها بعد الحرب العالمية الثانية. أصبحت سوريا والعراق من الدول الموالية للإتحاد السوفياتي في حين أصبحت إسرائيل والأردن ودول الخليج من الدول الموالية لأميركا، وحكمت الملكيات والديكتاتوريات معظم الدول العربية. وهذه الأنظمة الإستبدادية حافظت على وحدة هذه البلدان.

الواقع يتغلب على رسم الخرائط

كان لبنان الأول االذي تحلحلت أجزاؤه. كان لبنان كما هو الآن محض إختراع إقتطع بعض أجزائه من سوريا. طالما بقي المسيحيون، الذين من أجلهم أنشأت باريس لبنان، المجموعة المسيطرة، كان كل شيء يسير على ما يرام، على الرغم من أن المسيحيين أنفسهم كانوا منقسمين إلى جماعات متحاربة. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، تغيّرت التركيبة السكانية، وزاد عدد السكان الشيعة. وتزامنت مع هذا هجرة الفلسطينيين إلى لبنان في 1948. وأصبح بالتالي لبنان وعاء لجماعات متنافسة. على الرغم من أن الجماعات كانت من ديانات ومذاهب مختلفة، فإن ذلك لم يحدّد الحالة. إن جماعات متعدّدة في كثير من هذه التجمعات الدينية حاربت بعضها بعضاً وتحالفت مع أديان ومذاهب أخرى.
علاوة على ذلك، لم تقتصر قضايا لبنان عليه وحده. كان الخط الذي يفصل لبنان عن سوريا على الحدود تعسّفياً رسمه الفرنسيون. لم تكن سوريا ولبنان دولة واحدة أبداً، ولكن لبنان الذي أنشىء حديثاً لم يكن بلداً واحداً أيضاً. في العام 1976، غزت سوريا – أو بوصف أدق، الديكتاتورية العلوية في دمشق – لبنان. كانت يومها عازمة على تدمير الفلسطينيين، وكانت حليفتها الرئيسية الجماعات المسيحية. ووضع الغزو السوري الفتيل للحرب الأهلية التي كانت تشتعل بالفعل والتي إستمرت حتى العام 1990.
تقسّم لبنان كأمر واقع إلى مناطق مختلفة سيطرت عليها جماعات متعددة. وتطوّرت هذه الجماعات. الجماعة الشيعية المهيمنة نشأت حول (الإمام موسى الصدر أولاً) ثم نبيه بري. في وقت لاحق، إنتقلت الزعامة الشيعية تحت رعاية إيران إلى فصيل آخر، “حزب الله”. كانت لكل فصيل ديني جماعات متعددة، وضمن هذه الجماعات هناك متنافسون متعددون من أجل السلطة. من الخارج بدا الأمر بأنها مجرد حرب دينية أو طائفية، لكن كان ذلك وجهة نظر غير مكتملة. لقد كانت المنافسة بين الجماعات حول المال والأمن والإنتقام والسلطة. ولعب الدين دوراً، ولكن التحالفات عبرت الخطوط الدينية في كثير من الأحيان.
الدولة أصبحت أقل قوة بكثير من الجماعات. أصبحت بيروت، العاصمة، ساحة معركة للجماعات. غزت إسرائيل لبنان لسحق منظمة التحرير الفلسطينية، بمباركة سورية، وعند نقطة واحدة تدخلت الولايات المتحدة، جزئياً لمنع الإسرائيليين وإيقافهم. عندما فجّر “حزب الله” ثكنة المارينز في بيروت في العام 1983 مما أسفر عن مقتل المئات من الجنود الأميركيين، أيقن الرئيس الأميركي رونالد ريغان عندها، أن المطلوب قوة عسكرية ضخمة لتحقيق الإستقرار في لبنان، فسحب جميع القوات. وقرّر بأن مصير لبنان لم يكن من المصالح الأساسية للولايات المتحدة، حتى لو كانت هناك حرب باردة جارية.
إن تعقيد الوضع في لبنان يتجاوز هذا الوصف، والتدخل الخارجي من إسرائيل وسوريا وإيران والولايات المتحدة هو أكثر تعقيداً. النقطة هنا هي أن الجماعات والفصائل أصبحت واقع لبنان، وأصبحت الحكومة اللبنانية خارج المعادلة وغير ذي صلة. تم التوصل إلى إتفاق بين الفصائل وأسيادهم في العام 1989 التي أنهت الإقتتال الداخلي – بالنسبة إلى الجزء الأكبر – وتعزيز الدولة. ولكن في النهاية، وُجدت الدولة و بقيت الجماعات والفصائل. الخريطة قد تظهر بلداً، لكنه في الحقيقة بلد أقليات منخرطة في صراع جيوسياسي أقلي من أجل الأمن والسلطة. في النهاية، يبقى لبنان البلد الذي أصبح فيه أمراء الحرب سياسيين وطنيين، ولكن ليس هناك شك في أن قوتهم تأتي من كونهم أمراء حرب، وأنه تحت الضغط، فإن الجماعات ستفرض نفسها من جديد.

تكرار في سوريا والعراق

عملية مشابهة تجري حالياً في سوريا. أصبحت الدولة القومية التعسّفية منطقة لجماعات متنافسة. إن جماعة العلويين بقيادة بشار الأسد (الذي لعب دوري أمير حرب ورئيس)، حكمت البلاد. لكن إنتفاضة مدعومة من مختلف البلدان دفعت بالعلويين إلى التراجع. المتمردون أيضاً إنقسموا على طول خطوط متعددة. الآن، تبدو سوريا مشابهة للبنان. هناك جماعة كبيرة واحدة، لكن لا يمكنها أن تدمّر الجماعات الأصغر، والأصغر لا يمكنها أن تدمّر الجماعة الكبيرة. هناك مأزق دائم، حتى لو تم تدمير العلويين، فإن أعداءهم منقسمون بشكل يصعب أن نرى كيف يمكن أن تعود سوريا كي تكون بلداً موحداً بإستثناء الفضول التاريخي. دول مثل تركيا والسعودية وإسرائيل والولايات المتحدة قد تدعم مختلف الجماعات، ولكن في نهاية المطاف، فإن الجماعات تبقى على قيد الحياة.
يحدث أمر مشابه في العراق. بعدما غادر الأميركيون تلك البلاد، تجزّأت الحكومة التي تم تأليفها والتي يسيطر عليها الشيعة، حيث إستبعدت أهل السنة إلى حد كبير، فوجدوا أنفسهم أمام خطر التهميش. والسنّة الذين يتألّفون من مختلف القبائل والعشائر (التي تحتوي على بعض الشيعة) والحركات السياسية الدينية مثل “الدولة الإسلامية”، إنتفضوا في تحالف، وتركوا بغداد الآن ليثوروا ضدها، فيما يسعى الجيش العراقي إلى التوازن ويعمل الأكراد جاهدين على تأمين أراضيهم.
إنها حرب ثلاثية، ولكن في بعض الطرق إنها حرب ثلاثية مع أكثر من 20 جماعة مشاركة في تحالفات مؤقتة. لا توجد مجموعة واحدة قوية بما يكفي لتدمير الآخرين على مستوى أوسع. لدى السنة والشيعة والأكراد أراضيهم. على مستوى القبائل والعشائر، يمكن أن يُدمَّر بعضها، ولكن النتيجة الأكثر ترجيحاً هو ما حدث في لبنان: قوة دائمة للجماعات دون الوطنية، ربما مع بعض الإتفاق في وقت لاحق الذي يخلق دولة حيث تبقى السلطة مع المجموعات الصغيرة، لأن معها يكمن الولاء.
الحدود بين لبنان وسوريا كانت دائماً غير مؤكدة. الحدود بين سوريا والعراق الآن غير مؤكدة على حد سواء. ولكن بعد ذلك لم تكن هذه الحدود أبداً مولودة في المنطقة. الأوروبيون فرضوها لأسباب أوروبية. ولذلك، فإن فكرة الحفاظ على عراق موحّد يفتقد إلى نقطة مهمة. لم يكن هناك عراق موحّد أبداً- فقط كان هناك وهمٌ واحد إخترعه الملوك والحكام المستبدون ونصّبوا عليه أنفسهم. لم يكن للحرب أن تستمر، ولكن كما هو الحال في لبنان، سوف يستغرق الأمر إستنفاد الجماعات قبل أن تجلس معاً وتتفاوض على نهاية.
إن الفكرة بأن الشيعة والسنة والاكراد يمكن أن يعيشوا معاً ليست ضرباً من الخيال. الخيال هو هل لدى الولايات المتحدة القدرة أو المصلحة لإعادة إنشاء إختراع فرنسي – بريطاني وُضع على أنقاض الإمبراطورية العثمانية؟ علاوة على ذلك، حتى لو كانت لها مصلحة، فمن المشكوك بأن تكون لدى واشنطن القدرة على تهدئة الأوضاع في العراق وسوريا. علماً أنها لم تستطع فرض الهدوء في لبنان الصغير. إن إنتصار “الدولة الإسلامية” يمثل مشكلة خطيرة بالنسبة إلى أميركا، ولكن ليس أكثر خطراً مما هو بالنسبة إلى الشيعة والأكراد والسنة المعتدلين. كما في لبنان، إن تعدد الفصائل يخلق قوة موازية تشلّ أولئك الذين يصلون بعيداً جداً.
هناك نوعان من القضايا هنا. الأول هو إلى أي مدى سوف يصل تفكك الدول القومية في العالم العربي؟ يبدو أن التفكك جار في ليبيا، ولكنه لم يتجذّر بعد في أماكن أخرى. قد يكون هناك تشكيل سياسي في مناطق “سايكس بيكو”. إن مراقبة شبه الجزيرة السعودية قد تكون الأكثر إثارة للإهتمام. ولكن القضية الثانية هي ماذا ستفعل القوى الإقليمية بالنسبة إلى هذه العملية. تركيا وإيران وإسرائيل والسعودية لا يمكن أن تكون مرتاحة مع هذه الدرجة من التشرذم والتفكك أو إنتشار وتوسع مجموعات متطرفة أكثر غرابة. كما أن صعود المجموعة الكردية في العراق يرسل هزّات من الإرتعاش إلى الأتراك والإيرانيين.
السابقة التاريخية، بطبيعة الحال، ستكون صعود موقف عثماني جديد في تركيا الذي من شأنه أن يُلهم الأتراك للتحرك صوب الجنوب وفرض أمر مقبول على المنطقة. لكن من الصعب رؤية كيف ستكون لتركيا القدرة على القيام بذلك، بالإضافة إلى أن الوحدة بين العرب من المرجح أن تكون ولدت بسبب ذكريات الإحتلال التركي الذي لا يزال يلدغ العقل العربي.
كل هذا جانباً، إن النقطة المهمة هنا هي أن الوقت قد حان لوقف التفكير في إستقرار سوريا والعراق والبدء في التفكير في دينامية جديدة خارج الدول الإصطناعية التي لم تعد تعمل. للقيام بذلك، نحن بحاجة إلى العودة إلى لبنان، الدولة الأولى التي تحلحلت أجزاؤها والمكان الأول حيث أخذت الجماعات زمام المبادرة للسيطرة على مصيرها لأنها إضطرت إلى ذلك. نحن نرى النموذج اللبناني ينتشر شرقاً. سيكون من المثير للإهتمام معرفة الوجهة الأخرى التي سينتشر فيها.

• الدكتورجورج فريدمان هو رئيس “ستراتفور للإستخبارات الدولية “، وهي المؤسسة التي أنشأها في العام 1996 وصارت حالياً رائدة في مجال الإستخبارات والمعلومات العالمية.
• المقال كتب بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والمعلومات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى