هل تُهمِّش العقوبات الدولار الأميركي؟

يرى كثير من الخبراء بأن الجولة الأخيرة من العقوبات الموجهة ضد موسكو قد تأتي بنتائج عكسية على واشنطن إذ أنها، حسب رأيهم، قد تساهم في عملية تسريع الإبتعاد عن الدولار والتخلي عنه كعملة إلإحتياط الأساسية في العالم.

رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي: العقوبات تهدد الإقتصاد الأوروبي
رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي: العقوبات تهدد الإقتصاد الأوروبي

واشنطن – محمد زين الدين

منذ فترة طويلة كان إستخدام العقوبات ك”هراوة” دولية سياسية أمراً معقّداً جرّاء بعض العواقب السيئة غير المقصودة الناتجة عن ذلك.
ويفيد أهل الخبرة بأن هناك نتيجة واحدة يمكن أن تكون كبيرة وخاصة بالنسبة إلى الولايات المتحدة والإقتصاد العالمي: الجولة الأخيرة من العقوبات التي تهدف موسكو بسبب الأزمة في أوكرانيا يمكن أن تأتي بنتائج عكسية على واشنطن من خلال تسريع الإبتعاد عن الدولار والتخلي عنه كعملة إحتياط أساسية في العالم.
وبينما يرى هؤلاء الخبراء أنه في المدى القصير سوف تؤدي الإجراءات الأميركية ضد صناعة النفط والغاز في روسيا إلى إلحاق الألم الاقتصادي بموسكو، فهم يؤكّدون على أنه في المدى الطويل سوف تفقد الولايات المتحدة بعضاً من سيطرتها وهيمنتها على التمويل الدولي.

عالم ما بعد صندوق النقد الدولي

الواقع أن المطالبات بالإبتعاد والتخلي عن إستخدام الدولار كعملة الإحتياط الدولية الرئيسية هي بأي حال من الأحوال ليست جديدة. في العام 2009، إقترحت “منظمة شنغهاي للتعاون” بفعل ذلك بالضبط. وهذه المنظمة تضم روسيا والصين وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان كأعضاء، إضافة إلى أفغانستان وإيران والهند وباكستان ومنغوليا التي تحمل كل منها صفة مراقب، ولدى المنظمة علاقات وثيقة مع تركيا ورابطة دول جنوب شرق آسيا.
منذ مؤتمر “بريتون وودز” الذي عُقد بعد الحرب العالمية الثانية في العام 1944، سيطر على مالية العالم كلٌ من الدولار الأميركي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. لكن وفقاً للإقتصادي جيفري ساكس، إن هذا العالم آخذ في التلاشي. فالدولار لم يعد بإمكانه الإستمرار في الهيمنة والسيطرة، يقول ساكس، لأن “دور الولايات المتحدة في الإقتصاد العالمي آخذ في الإضمحلال”.
في حين قد يكون نفوذها يتناقص وينكمش، فإن أميركا والدول الغربية الحليفة لا تزال تسيطر على مقاليد التمويل الدولي. على سبيل المثال، إن شريحة الولايات المتحدة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي هي 19.2 في المئة، وحصتها في حقوق التصويت في صندوق النقد الدولي هي 16.8 في المئة. في المقابل، فإن الصين، مع 16.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، تبلغ حصتها في حقوق التصويت في صندوق النقد 3.8 في المئة فقط. كما أن رئاسة المنظمة فمحجوزة لأوروبي.
في العام 2010، أدخل البنك الدولي بعض “الإصلاحات” على حقوق التصويت لزيادة حصة البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل من 34.67 في المئة الى 38.38 في المئة. وعلى الرغم من أن هذا التعديل متواضع فقد تم تهميشه لأن مجلس الشيوخ الأميركي رفض قبوله. لذا لا تزال الدول الأغنى تسيطر على أكثر من 60 في المئة من الأصوات. ورئاسة البنك تذهب عادة إلى أميركي.
في أوائل آب (أغسطس) الفائت، أطلقت بلدان “بريكس”، البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، سلسلة من المبادرات الرامية إلى تغيير الهيكل الحالي للتمويل الدولي. إلى جانب الدفع للإطاحة بالدولار كعملة إحتياط في العالم، أنشأت المنظمة بنكاً للتنمية وترتيباً لصندوق إحتياط مالي. وستسمح هاتان المؤسستان الجديدتان للبلدان الخمسة بتجاوز صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذين يركزان بشكل شديد على التقشف، وسيمنحان هذه الدول سهولة الوصول إلى العملات الأجنبية في حالات الطوارىء.
سيبدأ بنك التنمية برأسمال 50 مليار دولار، والذي سيتضاعف إلى مئة مليار دولار قريباً. وسوف يكون بإستطاعة بلدان “بريكس” الإستفادة أيضاً من صندوق الإحتياط الذي سيكون رأسماله 100 مليار دولار. وفيما تُعتبر هذه المبالغ وفقاً للمعايير الدولية متواضعة –لدى صندوق النقد الدولي ما يقرب من 800 مليار دولار في خزائنه — فإن أعضاء بنك بلدان “بريكس” و”صندوقها الإحتياطي” خمسة فقط، بينما يخدم صندوق النقد الدولي مئات من البلدان. في نهاية المطاف إن الدول الأعضاء المراقبة في منظمة دول “بريكس” قد تكون قادرة على الإستفادة من تلك الأموال أيضاً.

العقوبات والتداعيات

وُجِّهت العقوبات الأميركية في تموز (يوليو) الفائت مباشرة إلى شريان الوريد لروسيا: تطوير إحتياطاتها الضخمة من النفط والغاز وخط أنابيب “ساوث ستريم” الذي تود موسكو إنشاءه. وكان من المتوقع عند إنتهائه، بأن يزوّد “ساوث ستريم” أوروبا ب15 في المئة من إحتياجاتها من الغاز الطبيعي وتوليد أكثر من 20 مليار دولار من الأرباح السنوية. في الواقع، هناك إشتباه لدى بعض الأوروبيين بأن الهدف الحقيقي من العقوبات هي لعرقلة “ساوث ستريم” وإستبداله بالنفط والغاز الأميركيين.
الحقيقة بأن الوقائع أثبتت بأن العقوبات يمكن أن تلحق ضرراً كبيراً بالدول التي تُفرَض عليها. تقدّر الأمم المتحدة بأن العقوبات التي فُرِضت على العراق في ظل صدام حسين كانت مسؤولة عن وفاة حوالي 500،000 طفل عراقي بين 1991 و1998.
من جهة أخرى، إن العقوبات التي إستهدفت قطاع النفط والغاز في إيران خفّضت بشكل كبير إيرادات الحكومة -80 في المئة من إحتياطات العملات الأجنبية في البلاد تأتي من الصادرات الهيدروكربونية- وسببت بتضخم واسع النطاق، وتفاقم البطالة، وأزمة صحية وطنية خطيرة. وبينما السلع الإنسانية لم يشملها الحظر، فإن الكلفة العالية وضعت الرعاية الطبية بعيداً من متناول العديد من الإيرانيين.
كتب مراسل “أسوشيتدبرس” ناصر كريمي في العام الفائت بأن تكاليف بعض الأدوية والمعدات الطبية إرتفعت 200 في المئة: “أفلام تصوير الأشعة إرتفعت أسعارها فوق ال240 في المئة؛ الهليوم للرنين المغنطيسي زاد سعره حتى 667 في المئة. وتضاعفت كلفة مرشحات غسيل الكلى لتصل إلى 325 في المئة، كما أن تكلفة العلاج الكيميائي تضاعفت ثلاث مرات تقريباً”.
إن إستبعاد إيران من مجموعة الإتصالات المالية العالمية بين البنوك (سويفت) جعل الأمر بالنسبة إليها مستحيلاً كي تحوّل الأموال إلكترونياً. وهذا، بدوره، جعل شراء المواد الخام لتصنيع الأدوية الإحيائية (جينيريك) مكلفاً وصعباً.
ويقول بعض المراقبين أن الحادث الأخير لطائرة الركاب الإيرانية التي قتل فيها 39 شخصاً، في جزء منه، كان نتيجة للعقوبات. ذلك أن إيران لا يمكنها شراء قطع غيار من شركة بوينغ وإيرباص لطائراتها بسبب العقوبات، لذا إضطرت إلى إستخدام بدائل، مثل الطائرة الأوكرانية الصنع “A-140” المليئة بالمشاكل التقنية التي سقطت في 10 آب (أغسطس) الفائت. وكانت طائرة “A-140” أخرى تحطّمت في آخر العام 2002، وأودت بحياة 46 شخصاً.
بإختصار، إن معارضة الولايات المتحدة وحلفائها يمكن أن تشكل خطراً على مصير أي دولة.
هناك معارضة متزايدة بالنسبة إلى طريقة وهدف إستخدام العقوبات، فضلاً عن القلق من قدرة الغرب، وخصوصاً أميركا، على عزل دول من التمويل الدولي من خلال إستبعادها من أشياء مثل “سويفت” (SWIFT). إلى جانب هذا يدّعي معارضون بأن هناك شكاً في أن الولايات المتحدة تستخدم عملتها لدعم إقتصادها على حساب الآخرين.
بعد الإنهيار الاقتصادي في 2007-2008، على سبيل المثال، خفّض البنك المركزي الأميركي أسعار الفائدة وزاد من سك النقود وعرضها، ما جعل الصادرات الأميركية أرخص وواردات الدول الأخرى أكثر تكلفة. وقد لامت البلدان النامية هذه السياسات وإعتبرتها بأنها محاولة مصطنعة لرفع قيمة عملاتها وبالتالي الإضرار بالإقتصادات القائمة على التصدير. وقد وصف وزير المالية البرازيلي غويدو مانتيغا هذا الأمر بأنه نوع من شن “حرب عملات”.
مع عزم بنك الإحتياطي الفيديرالي الأميركي الآن على رفع أسعار الفائدة وخفض عملية شراء السندات وتخفيف “التيسير الكمي”، يخشى كثير من البلدان النامية أن يتوقف عنها تدفق رأس المال الدولي ويتجه مجدداً إلى الولايات المتحدة، وتُترك دول مثل البرازيل في حالة جفاف رأسمالي.

تهميش واشنطن

طالما بقيت عملة الإحتياط في العالم هي الدولار، فإن أميركا سوف تكون قادرة على الهيمنة على الشؤون المالية العالمية ومنع عدد من الدول، مثل إيران، من تنفيذ أي معاملة تستخدم فيها الدولار الأميركي. لكن ذلك، يقول بعض خبراء الإقتصاد، قد يكون إقترب من نهايته. مع توقّع أن تحل الصين مكان الولايات المتحدة كأكبر إقتصاد في العالم، فإنها ليست سوى مسألة وقت قبل أن يحل الرنمينبي (اليوان) –أو بعض العملات الدولية المتفق عليها– محل الدولار.
من جهتها تتحرك الصين بالفعل نحو تجاوز نيويورك كمركز العالم المالي، بدلاً من ذلك توجّه مواردها المالية من خلال هونغ كونغ ولندن. “يمكن أن تُفسَّر هذه الإجراءات من دون أدنى شك بأن بكين تستعد لزوال الدولار، على الأقل بإعتباره العملة الإحتياطية الأساسية في العالم”، يقول ألسدير ماكلويد من شركة “غولد ماني”، الرائدة في تجارة المعادن الثمينة.
وهناك عدد من الدول بدأ يتعامل بالفعل بواسطة العملات الأخرى. فشركات التعدين الأوسترالية، على سبيل المثال، قد تحوّلت أخيراً إلى إستخدام الرنمينبي الصيني.
والسؤال هنا: كيف سيؤثر إغراق أو تهميش الدولار في الولايات المتحدة؟ الجواب في الواقع ليس واضحاً إذ أن التنبؤات أو التوقعات حول التأثير تتراوح من ثانوي إلى كارثة. لكن ما سيحدث بشكل شبه مؤكد هو أن واشنطن سوف تفقد بعض نفوذها في التمويل الدولي، ما يسهّل على البلدان النامية أن تبتعد من النموذج الأميركي الإقتصادي المعتمد على الأسواق الحرة المفتوحة بشكل واسع، والتقشف المالي، والعداء لأي دور للحكومة في الإقتصاد.
على المنحى الآخر فإن التقليل من دور الدولار قد يجعل من الصعب تطبيق عقوبات كذلك، خصوصاً في تلك المناطق التي تنفر من سياسات واشنطن بشكل متزايد، كما هو الحال في إيران وكوبا وفنزويلا وروسيا. وقد أعلن الإتحاد الأوروبي بدوره عقوبات على روسيا بسبب أزمة أوكرانيا، ولكن ليس إلى الحد الذي وصلت إليه الولايات المتحدة. إن التجارة بين الإتحاد الأوروبي وروسيا تشكّل جزءاً رئيسياً من إقتصاد أوروبا، في حين أن التجارة الروسية مع أميركا هي طفيفة. علماً بأن مجموعة بلدان “البريكس”، التي تمثل ما يقرب من ربع الناتج المحلي الإجمالي في العالم و 40٪ من سكانه، لم تنضم إلى هذه العقوبات.
موجهاً كلامه إلى أعضاء مجموعة “بريكس” في فورتاليزا بالبرازيل في تموز (يوليو) الفائت، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: “علينا أن نفكر معاً في نظام من التدابير الذي من شأنه أن يساعد على منع التحرّش بالبلدان التي لا تتفق مع بعض قرارات السياسة الخارجية للولايات المتحدة وحلفائها”.
في المدى الطويل، قد يأتي الوقت حيث سيأسف الإتحاد الأوروبي لأنه تحالف مع واشنطن. فقد عرف الإقتصاد الألماني أخيراً سقطة كبيرة إذ أن التجارة مع روسيا إنخفضت 20 في المئة خلال الفترة من كانون الثاني (يناير) حتى أيار (مايو) هذا العام، والحظر الذي وضعته موسكو على المنتجات الزراعية في الإتحاد الأوروبي أضرّ كثيراً ببولندا وليتوانيا وألمانيا والدانمارك ولاتفيا وفنلندا وهولندا. في الواقع، فقد حذر رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي أن “الإنتعاش الحالي للإتحاد الاوروبي لا يزال هشاً للغاية، وأن العقوبات يمكن أن تدفع مرة أخرى إلى الركود”.
الواقع أن الألمان هم الأكثر قلقاً في أوروبا خصوصاً أن روسيا سوف تتحوّل إلى آسيا، قاطعة بشكل دائم التعاون المربح المعروف بين موسكو وبرلين في المجال الإقتصادي.

ماذا يخبىء المستقبل؟

هناك تغييرات هائلة مستقبلية نتيجة لتغير المناخ والنمو السكاني. وبينما كان هناك إنخفاض في عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع –الذين يعيشون على أقل من 1.25 دولار في اليوم– فإن قدراً كبيراً من هذا الإنخفاض قد حدث في الصين. لكن الأمور قد إتجهت فعلاً نحو الأسوأ في أجزاء من آسيا وأفريقيا.
بحلول العام 2050 فإن سكان العالم سينمو إلى 9 مليارات نسمة، وسوف يكون 85 في المئة من هذا النمو في الدول النامية، وهي البلدان عينها التي تحتاج أكثر من غيرها إلى المساعدة لمواجهة عواقب ذلك المستقبل.
إلى أن تُنتزَع سيطرة عدد قليل من الدول الغنية على مؤسسات التمويل الدولي، وإلى أن تكون هناك مراقبة على قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على تدمير إقتصاد بلد بسبب خلاف حول السياسة الخارجية، فإن تلك الأرقام تبشّر ببعض المشاكل الخطيرة في المستقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى