جاهلية القرن الواحد والعشرين

بقلم إيلي صليبي*
كنتَ مواطنًا، صرتَ “أعرابيّا”.
كان بلدك وطنًا، صار “قبيلة”.
كنتَ “حضريًّا”، صرتَ “بدويّا”.
كانت مدينتك من حجر، صارت من “شَعْر”.
في مضارب القرن الواحد والعشرين أنتَ، تعيدُ إلى “الجاهليَّة” مجدها، وإلى الصحراء عزّها، وإلى “الجَمَل” كرامته.
أدركت “الإسلام” متأخِّرًا، ولكنَّك أعدتَه إلى زمن “الفتح”.
وُلدتَ خارج التاريخ، وأيقظتَ عصر “الخلفاء الرَّاشدين”، وفصمت “خير أمَّة أُخرجتْ للناس” إلى سُنَّة وشيعة وما بينهما من أقليّات.
أقمتَ هناك “ولايةً للفقيه”، وتسعى هنا إلى “دولة إسلاميّة”.
حُبيتَ بشرقيْن: “أدنى”، و”أوسط”. ولكنك تحنُّ إلى “الأندلس” وتبكيه.
أُعطيتَ من ثمار الرمال ثروات تشتري بها الدنيا فانفقتها على مباهج الدنيا، وتحسَّبتَ لغزوات الغدر فبذَّرتَ في إقتناء السلاح لتوجِّهه نحو “أخيك” وتتجاهلَ مَكر “عدوِّك”.
حسبت الله من الضَّعف إلى درجة حاجته إلى “جهادك في سبيله”. وأنَّه، سبحانَه وتعالى، يقاتل معك وبك، أو ظهيرًا لجيوشك، كلما خرجت للقتال، ونسبتَ إليه إنتصاراتك وجلُّها موضع مساءلة.
وحسبتَ ربَّ العالمين، وهو تعالى “لو شاء لجعل الناس أُمَّةً واحدة” يأمر بقطع الأعناق “ذبحًا”، ويوجِّه القذائف من فوَّهات مدافعك لتدكَّ المدن، فتصرخَ عند إطلاق الموت والحرائق” الله أكبر” لتذكيره بحسن التصويب.
وحسبتَه يحتاج إلى أحزاب في الأرض، وشهداء في السماء.
وحسبتَ نفسك من رجال له “إذا أرادوا أراد”.
من نصَّبكَ على قومكَ ظلًّا لله وأنبيائه؟ ومن بايعك من أهل السماء “وليًّا” أو “خليفة”، لتتحكَّم بالشَّرع والشريعة وتصدر أحكامك بالحدّ والتكفير والسّبي؟ ومن أقامكَ داعيةً إلى قتل الأبرياء بالأحزمة الناسفة؟ ومن كلَّفك توزيع الحوريّات على الشباب الذين تغرِّرُ بهم، وتسفكَ دمهم ودم ضحاياهم؟
الإسلام منكَ براء.
والمسيحيَّة منّا براء.
فلا أنت مسلم.
ولا نحن مسيحيّون.
***************
أبحثُ عن مدينة كانت إلى الأمس هنا.
لم تسجّل المراصد حدوث زلزال، فلا الأرض إبتلعتها ولا البحر غمرها.
كيف تختفي مدينة بمن وبما فيها؟
هل تخرج المدينة من المدينة ولا تعود؟
هل تختطف المدينة إلى وجهة مجهولة؟
هل تنتحر المدينة، أو تُنتحَر وتُلقى جثتها بعيداً من مكان إقامتها؟
إبحثوا معي عن مدينة كانت إلى الأمس هنا؟
من يجدها فليبلّغ أقرب مخفر ليأتي أهلوها لإستلامها.
إقلبوا الدنيا… لا تتركوا حجراً إلّا وتبحثون تحته عن مدينة ضائعة.
أقيموا حواجز التفتيش ولا تهملوا سيارة أو ركابها إلّا وتشتبهون بوجودها في صندوق أو جيب.
من سرق المدينة؟
من أخفى أثرها؟
من محاها عن خريطة الوطن؟
أبحث عن مدينة كانت إلى الأمس هنا.
مدينة تشبهني، وأشبهها.
تشبه حبيبتي،
تشبه كل حبيبة.
تشبه القصائد والشعراء.
تشبه بيوت الفقراء.
تشبه جدران الكنائس.
تشبه محاريب المساجد.
تشبه أعشاش العصافير.
تشبه “الدانتيل” على أجساد الحسان.
تشبه الشفق والغسق نهوض النهار وإنسدال الليل.
تشبه سيوف الضباط عندما يتخرجون.
تشبه العلم المرفوع فوق “القرنة السوداء”.
أبحث عن مدينة كانت في الأمس هنا.
وكان إسمها بيروت.
• كاتب وأديب وإعلامي لبناني، والمدير العام السابق للأخبار في المؤسسة اللبنانية للإرسال (أل بي سي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى