عندما تغيب العقلانية عن التوقعات الإقتصادية في لبنان

بقلم الدكتور جورج نعمه*

تأثر الإقتصاد اللبناني سلباً خلال الأعوام الماضية بفعل التخبّط الأمني الداخلي الذي شهدته بعض من مناطقه بسبب إنفلاش الأزمة السورية وإمتدادها نحو دول المنطقة، وتُرجم ذلك بتراجع أبرز مؤشراته الماكرو إقتصادية من زيادة نسبة البطالة وتنامي المديونية العامة الى عجز كبير سجّلّه ميزان مدفوعاته لأول مرة خلال العام 2013.
أمام هذا المشهد الإقتصادي المتردّي، جاءت توقعات العام 2014 إيجابية نظراً الى تحسّن شهدته العلاقات السياسية، وقد ترجم في مطلع العام 2014 عبر تشكيل حكومة سياسية جامعة وترافق ذلك مع إقرار وتنفيذ خطة أمنية أعادت الأمن وشبه الإستقرار الى المناطق التي كانت قد شهدت توترات خلال الأعوام الماضية. وكان قد انعكس التفاؤل على المؤشرات الإقتصادية اذ بدأت تسجّل تحسنا ملحوظاً نسبة لما كانت عليه في العام 2013، وإعتبر موسم 2014 السياحي واعداً وحاملاً الأمل بإستقطاب أعداد متنامية من السيّاح العرب والأجانب والمغتربين اللبنانيين، وهو كان سيُترجم بارتفاع ملحوظ في نمو الناتج المحلي كان يمكن أن يتخطّى أربع نقاط مئوية لو ترافق ذلك مع إنجاز الإستحقاقات الدستورية والسياسية والمتعلقة بإنتخاب رئيس جديد للجمهورية مطلع صيف 2014 ويليها إعادة تشكيل السلطة التشريعية عبر الإنتخابات النيابية التي من المفترض أن تجري في شهر تشرين الثاني (أكتوبر) 2014.
بدأ الموسم الإصطيافي والسياحي بحالة حذر وترقب نظراً إلى فشل المكوّنات السياسية في البلاد في إنتخاب رئيس للجمهورية وتأكّد الركود في مطلع آب (أغسطس) 2014 مع اندلاع المواجهات المسلحة في منطقة عرسال وجرودها بين الجيش اللبناني ومجموعات ارهابية مسلحة قادمة من الأراضي السورية، فإنعكست هذه الأحداث مباشرة على التوقعات الإقتصادية الذي بدأ سقفها ينخفض تدريجاً بعدما أيقن اللبنانيون بأن بلادهم لم تخرج بعد من دائرة الخطر، وبأن الإقتصاد الوطني لم يتعافَ بعد وهو ليس قادراً على إستقطاب الإستثمارات الخارجية التي توقع تدفقها البعض مطلع هذا العام. وهنا لا بد من طرح الإشكاليات التالية: كيف يمكن أن تُبنى التوقعات الإقتصادية على زيادة الإستثمارات الخارجية لمجرد تشكيل حكومة سياسية جامعة؟ على ماذا إستند البعض لبناء توقعات تبشّر بإنفراج إقتصادي كبير ينهي الأزمة الحالية؟ ألم تكن معالم ما يحصل منذ ثلاث سنوات واضحة لكي تفرض واقعية علمية لناحية توقعات البعض التي جاءت خاطئة وغير عقلانية؟ بل أسمح لنفسي بالإستفاضة أكثر عبر طرح تساؤلات أعمق وأدق: هل المرض العضال الذي أصاب الإقتصاد اللبناني منذ أكثر من عقدين قد طال بنيوياً أبرز قطاعاته أم تأثر فقط ظرفياً بإندلاع الأزمة السورية في آذار (مارس) 2011؟
إن إستقطاب الإستثمارات الخارجية يتطلب توفّر الكثير من المميزات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية التي من دونها يصعب ويكاد يستحيل جذبها الى الداخل نظراً الى عقلانية المستثمر الخارجي أكان لبنانياً أم أجنبياً. فكيف لنا أن نستقطب الإستثمارات الخارجية في ظل شبه إنعدام أصاب الخدمات العامة والبنى التحتية؟ كيف لنا أن نُقنع المستثمر بإختيار لبنان وهو مدرك أن القدرة الشرائية لا تزال تتآكل تدريجاً منذ العام 1996؟ هل التشريعات الحالية تضمن للمستثمرين حسن سير أعمالهم على المدى القريب ان لم نرد أن نبنيها على البعيد؟ أخيراً وليس آخراً، هل إستطاع لبنان تثبيت أمنه وإستقراره بشكل كامل ودائم؟ مع غياب توفّر هذه الشروط تزامناً مع توافق سياسي يضمن حصول كافة الإستحقاقات الدستورية يصعب ويستحيل تحقيق خرق إيجابي في الحائط الذي يفصل إقتصادنا الوطني عن شهيّة كبار المستثمرين وهو حائط قد بني منذ عقدين ومخطئ من ظنّ أنه بني منذ ثلاث سنوات، ومن ربطه بتراجع ظرفي بفعل تفاقم الأزمة السورية وإنفلاشها نحو لبنان والمنطقة.
أمّا التوقعات الماكرو-إقتصادية الواقعية للعام 2014 فيمكن تلخيصها بتحسّن نسبي عن مؤشرات العام 2013 لناحية إرتفاع بسيط في النمو الإقتصادي وتراجع ملموس في عجز ميزان المدفوعات، ويبقى إرتفاع الإستهلاك العامل الأساسي الذي يضمن إستمرار النمو نسبة لطبيعة الإقتصاد اللبناني ونسبة لوجود مليون ونصف نازح سوري يستفيدون من تدفق أموال بشكل كبير يأتي عبر الأمم المتحدة من بوابة مؤسسات غير حكومية لفقدان الثقة بمؤسسات الدولة اللبنانية. ختاماً يبقى العام 2014 كالأعوام التي ستليه في المستقبل، أعوام الاستهلاك بامتياز، بعيدة كلّ البعد من الإستثمار والإنتاج، حتى إشعار آخر قد طال انتظاره وبعد…..

• باحث ومحلّل إقتصادي وعميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأنطونية في لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى