حراك وعراك بهدف البقاء

بقلم ميرنا زخريّا*

artwork on the Separation Barrier in Bethlehem

يزدادُ المشهدُ العام يوماً بعد يوم في دولنا العربية تعقيداً، تارةً هو حراك وطوراً هو عراك. وما بين مؤشرات تأزيم الحراك وتلزيم العراك، لم تسلم دولةً واحدةً من تداعيات الإضطراب؛ إضطرابٌ غير مسبوق قد يُلازم أوطاننا لفتراتٍ مديدة ما يؤثر على إستقرارنا في مجتمعاتٍ عديدة. ولعلَّ الأثر الأبرز يقع بطبيعة الحال على المستويات التلاثة التالية:

1. الحراك الأمني: الأمن الوطني هو الركيزة الجوهريَّة لقيام دولة مستقرة، حيث بإزدهاره تنتعش باقي الإدارات كما وبتعطيله تتأزّم باقي القطاعات، ذلك أن ملف الأمن مُرتبط إرتباطاً وثيقاً بقُدرة الدول على حماية أراضيها ومُواطنيها ومصالحها من أي عدوانٍ خارجي أو تعدٍّ داخلي. لذا، ومِن أجل ضمان الإستقرار في ضوء الظروف المُستجدة، ليت الدول تقوم بصوغ دراسةٍ إستراتيجيةٍ أمنيةٍ ثلاثية الأبعاد (على مستوى الساحات المحلية والإقليمية والعالمية): أولاً، تُوثق المتغيّرات التاريخية، ثانيا، تُراقب المستجدات الحالية، وثالثاً، تستقرىء الإحتمالات المستقبلية.
* الجدلية الأمنية المطروحة هي: هل فعلاً أضحينا أمام هاجسٍ أمنيٍ وبأنه التحدّي الأكبر والأهم؟ وإذا كان كل المعنيّين يدعمون خيار الأمن والأمان، فمن ذا الذي يُعطي أوامر البدء بالقتل والقتال؟!

2. الحراك الإقتصادي: لا يُخفى على أحد أن حالة عدم الإستقرار المُترامية الأطراف والتي ما انفكَّت تُهيمن منذ فترة، قد أدت إلى تشوّهاتٍ أساسيةٍ في المؤشرات الإقتصادية العربية؛ ما أدى إلى شبه إنقراض الطبقة الوسطى التي تُعتبر بمثابة صمّامِ أمانِ المجتمعات كافة، وبالتالي من البديهي أن تنقسم حالياً هذه المجتمعات عينها إلى طبقتين إثنتين، قليلها من الأغنياء وكثيرها من الفقراء؛ ممّا أدّى حُكماً إلى تراجعٍ ملموسٍ في مستويات النمو الإقتصادي في المنطقة العربية التي غالباً ما إعتمدت على ذهنية السعي وراء الصفقات ذات الربح القصير المدى على حساب الخيارات البعيدة المدى.
* الجدلية الإقتصادية المطروحة هي: ما النفع من كثرة الدراسات والإتفاقات في سبيل الحدّ من تداعيات فقر الحال الذي تعيشه المنطقة؟ طالما أن شبابنا يتهاوى بخطى ثابتة من الفقر إلى البطالة!!

3. الحراك السياسي: هو الآخر له تأثير كبير إذ ترتبط أبعاد تداعياته بمدى قدرة الدول لناحية: السيطرة على الثورات التي تولد من الداخل، كما وفي قدرتها لناحية السيطرة على التهديدات التي تردها من الخارج. فمن دون عافية سياسية، لا توجد عافية لا أمنية ولا إقتصادية ولا ما بينهما من قضايا وطنية كالتربوية والمهنية والصحية. الحراك موجود والتغيير منشود، لكن الضعف هو في رأس الهرم، فسابقاً كان يحكم الأقوى ثم تسلّم الأغنى. أما الفكر البناء الذي يقوم على أسس المعرفة والذي يبني أجيالاً ومجتمعات راقية فقد كان وما زال حُضورهُ ونُفوذهُ محصوراً مقارنةً بهيبة العُنف وبالمال.
* الجدلية السياسية المطروحة هي: لماذا يختفي المفهوم السياسي المتعارف عليه والذي نتغنى به، بأسلوبٍ مسرحيٍ مُبهمٍ؟ ليحل محله المفهوم السُلطوي، بإزدواجية مرفوضةً في العلن ومقبولةً في السرّ!

وصلنا إلى مرتبةٍ من مراتب الحراك والعراك حيث لم تعُد تنفع العبقريَّة الديبلوماسيَّة الروتينيَّة. لقد بُتنا بحاجةٍ ماسةٍ إلى وضع كافة أوراقنا على الطاولة، دراستها بتروٍ، ومن ثّم معالجتها بتفانٍ؛ وإلا فالهاوية الأمنية والإقتصادية والسياسية هي مصير كافة الدول، وإن تكن تلك الهاوية، لا سَمَحَ الله، التي قد تجمعنا في مصيرٍ بائسٍ واحدٍ، لن تقدر على جمعنا كلنا في وقتٍ واحدٍ.
وصلنا إلى مُستوى من مُستويات الحراك والعراك حيث الفرق بين مُتطلبات المواطنين وطموحات المسؤولين كالفرق بين الحاجات والكماليات؛ بحيث الفريق الأول يسعى وراء تدبير الحاجات الأولية فيما الفريق الثاني يسعى وراء تأمين الكماليات الثانوية. هذا المشهد إذا إستمرَّ، لا سَمَحَ الله، سيزيد الوضع تعقيداً لأنه يذكّي إستمرار الفوضى اللامتناهية عند كِلا الفريقين.
وصلنا إلى مأساةٍ من مآسي الحراك والعراك حيث أخذ مفهوم الدمار والإجرام يجد الأرض مُمهَّدة لزرع قواعده البشريَّة بهدف نشر أعماله الداعشيَّة، لا سَمَحَ الله. الأرض تهتز تحت أقدامنا وعُقولنا ما زالت في ثباتٍ عميق، لم تستفق، لم تهتز. ردّة الفعل الواقعية لا تكون برفع المسؤولية بل بتحقيق المُمكن القابل للتنفيذ لا سيّما في مواجهة المجازر الخارجة عن السيطرة.
ختاماً، يبدو أنه “مونديال” من نوعٍ آخرٍ، بحيث: الملعب هو كافة أراضي الدول العربية، والمُشاهدون هُم من كافة الأقطار العالمية، أما المُشاركون فيركضون وراء مصالحهم بدل الجري وراء الطابة؛ طابة تُخبئ في داخلها الأسرار المُعلنة واللامُعلنة حول ما يُسمّى بالملفات الأمنية والإقتصادية والسياسية. اللاعبون في “مونديال” الأمم هذا، تجدهُم: حيناً في عراكٍ عربيٍ خوفاً من الإلغاء، وأحياناً في حراكٍ عالميٍ بهدف البقاء.

• باحثة في علم الإجتماع السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى