لماذا لا تفيد إتفاقات الطاقة بين موسكو وبكين الإقتصاد الروسي ؟

فيما بدأت أوروبا تبحث عن بديل من روسيا للحصول على إمدادات للطاقة، غيّرت موسكو توجهها وقصدت آسيا وبالتحديد الصين، حيث عقدت إتفاقات عدة، آخرها كانت “صفقة العصر” التي وقعت خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الصين في أيار (مايو) الفائت. ولكن مَن هو المستفيد من هذا التعاون في مجال الطاقة؟

الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ: شراكة إستراتيجية في حقل الطاقة
الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ: شراكة إستراتيجية في حقل الطاقة

بكين – عبد السلام فريد

عندما قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزبارة شانغهاي فى أيار (مايو) 2014، سُلِّطت الأضواء بشكل خاص على توقيعه إتفاقية مع بكين لمدة 30 عاماً تزوِّد الصين بموجبها روسيا الغاز الطبيعي من خلال خط أنابيب جديد من الشرق الأقصى الروسي. لم يكن حافز اللحظة لتوقيع هذه الإتفاقية رداً على التهديدات الغربية بسبب الأزمة الأوكرانية، وإنما كانت نتاج مفاوضات إستمرت عشر سنين. منذ البداية، كان المنطق واضحاً: تأمين إحتياطات الغاز الطبيعي الكبيرة غير المستغلة في الشرق الأقصى الروسي لتلبية شهية الصين النهمة إلى الطاقة. في الواقع، لقد عملت شركة “موبيل أويل كوربوريشن: (الآن إكسون موبيل) على الجدوى المالية والفنية لمثل هذا المشروع منذ نحو 17 عاماً.
ولكن، حتى نصف العقد الفائت، تمّ توجيه كامل البنية التحتية للنقل والطاقة في روسيا إلى شحن النفط والغاز غرباً إلى أوروبا، وليس شرقاً إلى آسيا. لذا فإن الإتفاقية الجديدة بين شركة الصين الوطنية للبترول (CNPC) وشركة “غازبروم” الروسية تمثّل معلماً آخر في تحوّل روسيا بعيداً من أوروبا وبإتجاه آسيا. الواقع أن الإتفاقية تمهِّد الطريق لتطوير حقل الغاز الطبيعي الروسي العملاق “شاياندا” (Chayanda) في الشرق الأقصى والإنتهاء من مد خط أنابيب، يدعى “طاقة سيبيريا”، الذي سوف يحمل 38 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً الى الصين بدءاً من العام 2018. وهذا ما يعادل أكثر من ربع صادرات الغاز الطبيعي الروسي الحالي إلى أوروبا. وتأمل روسيا في نهاية المطاف في تعزيز تلك الصادرات إلى أكثر من 60 مليار متر مكعب سنوياً.
وقد ناقشت بكين وموسكو في السابق طويلاً مسألة توريد الطاقة الروسية إلى الصين. في أوائل العام 2000، وصل الطرفان فعلياً إلى تصور حول مسارات خطوط الأنابيب المحتملة التي من شأنها أن تربط حقول النفط والغاز الطبيعي في سيبيريا الروسية إلى حقول داتشينغ في الصين، حيث تستطيع عندها خطوط الأنابيب الموجودة حالياً تسليم كميات النفط والغاز الطبيعي المستوردة لبقية أنحاء الصين. في العام 2006، عقدت الدولتان محادثات لبناء خطي أنابيب للغاز الطبيعي بسعة إجمالية تصل إلى 70 مليار متر مكعب. ولكن لم يوافق أيٌّ من الطرفين على السعر الذي يتعيّن دفعه للغاز الطبيعي. وتعثرت بدورها مفاوضات موازية على صادرات النفط الروسي أيضاً.
لكن الأزمة المالية العالمية التي حلّت في 2008 غيّرت كل شيء. حتى ذلك الحين، إعتمدت الشركات الروسية في المقام الأول على الإئتمان والتمويل من البنوك والشركات النفطية الغربية. ولكن تلك المصادر جفّت بسرعة. في الوقت عينه، إنخفضت أسعار الطاقة العالمية مرة واحدة من قمة إرتفاعها. لذا تحوّلت روسيا إلى الصين. وتوصل البلدان الى إتفاقية في العام 2009 والتي بموجبها تصدّر روسيا إلى الصين 15 مليون طن في السنة (حوالي 300 ألف برميل يومياً) من النفط لمدة 20 عاماً في مقابل قروض بقيمة 25 مليار دولار يمنحها بنك التنمية الصيني إلى شركتي “روسنفت” و”غازبروم” المملوكتين للدولة الروسية، اللتين كانتا بحاجة إلى المال لتنمية آبار النفط والغاز في أقصى الشرق الروسي. مع إنخفاض إنتاج النفط الروسي في ذلك العام لأول مرة منذ تسعينات القرن الفائت، شعرت موسكو من دون أدنى شك بالضغط للتوصل الى إتفاق. بعدما توقفت طويلاً عن الإستثمار في التنقيب لإكتشاف آبار جديدة كي تحل محل الحقول التي أصابتها الشيخوخة وإستُنفِدت، فإن شركات الطاقة في روسيا كانت بحاجة الى أموال لتطوير إحتياطات النفط والغاز الطبيعي الجديد في الشرق الأقصى الروسي. وقد إستخدمت أيضاً جزءاً من الأموال التي حصلت عليها حديثاً لبناء خط أنابيب مهماز “خط أسبو” من أسفل محيط شرق سيبيريا والمحيط الهادئ في روسيا الى الصين. هذا الخط المهماز إفتتح رمزياً في أيلول (سبتمبر) 2010، وبدأ يتدفق النفط من خلاله في كانون الثاني (يناير) 2011.
موجة أخرى من صفقات الطاقة بين الصين وروسيا وُقِّعت في أواخر العام 2010، وقد غطت مجموعة واسعة من القضايا والمجالات. لقد إتفقت “الصين هواديان كوربوريشن” (China Huadian Corporation)، وهي شركة مملوكة للدولة الصينية وواحدة من مؤسسات مرافق الطاقة الرئيسية في الصين، مع الشركة الروسية “تي جي كاي-3” (3TGK-)، وهي مؤسسة إقليمية، على تطوير مشروع طاقة مشترك في مدينة “ياروسلافل” الروسية. في الوقت عينه، تعاقدت المؤسسة النووية “جيانغسو” مع شركة الطاقة النووية في روسيا لتصميم المفاعلين النوويين الثالث والرابع في محطة “تيانوان” النووية. كما حقّق البلدان أيضاً تقدماً بالنسبة إلى تصدير الطاقة الروسية الى الصين. فقد وقعت شركة النفط الوطنية الصينية إتفاقية مع “روسنفت” التي أنهت وحلّت القضايا المتعلقة بإمدادات النفط الروسي لخط الأنابيب الجديد المهماز “أسبو” إلى “داتشينغ”. وفي الوقت عينه، كشفت شركة “غازبروم” بأن شركة النفط الوطنية الصينية قد وافقت على بدء مناقشات لعقد إتفاقية طويلة الأجل للحصول على أكثر من 30 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي من مصدِّري الغاز الروسي.
بدأت الموجة التالية من صفقات الطاقة في 2013. لكن الإستعدادات لها بدأت قبل وقت طويل من ذلك العام. في 2003، قامت مجموعة من شركات النفط المستقلة في روسيا وشركة “بريتيش بتروليوم”، كبرى شركات النفط البريطانية، بتجميع ودمج أصولها الروسية لتشكيل شركة جديدة تسمى “تي أن كي- بي بي” (TNK-BP). وبين الأصول الأكثر قيمة لهذه الشركة الجديدة كانت مساهمتها ب62.8 في المئة في حقل الغاز الطبيعي الضخم “كوفيكتا” في الشرق الأقصى الروسي، الى الغرب من بحيرة بايكال. وكان معظم خبراء الصناعة الهيدروكربونية توقع بأن الإحتياطات المؤكدة في “كوفيكتا” ستكون أفضل مصدر لصادرات الغاز الطبيعي إلى آسيا. بحلول العام 2007 اأرادت موسكو إستعادة تلك الإحتياطات وبدأت الضغط على “تي أن كي – بي بي” (TNK-BP) لإجبارها على البيع. في نهاية المطاف، أجبرت موسكو الشركة الجديدة على إعلان إفلاسها وإشترت “روسنفت” أصولها، بما في ذلك “كوفيكتا” في آذار (مارس) 2013.
وبالتالي، وجدت “روسنفت” نفسها في وضع جيد لعقد صفقات جديدة مع الصين في العام 2013، وكان أول الغيث توقيع إتفاقية تضاعف بموجبها شحناتها من النفط لشركة النفط الوطنية الصينية إلى 30 مليون طن في السنة (حوالي 600 ألف برميل يومياً). في المقابل، وافقت شركة النفط الوطنية الصينية على نظام الدفع المسبق ل”روسنفت” الذي بلغت قيمته 60 مليار دولار مقابل شحنات النفط التي ستجري في المستقبل. وجاءت تلك الأموال المدفوعة مسبقاً في وقتها الضروري، ذلك لأن “روسنفت” كانت دفعت لتوها أكثر من 40 مليار دولار لشراء أصول “تي أن كي – بي بي” (TNK-BP) وهي بالتالي بحاجة إلى المال اللازم لخدمة ديونها الضخمة والإستثمار في عمليات التنقيب الجديدة. ومع ذلك، أظهرت الصفقة أهمية خط أنابيب “أسبو” وحافزه بالنسبة إلى الصين.
من جهة أخرى كانت هناك صفقتان تاليتان لموسكو أثارتا الدهشة أكثر من ذلك. تاريخياً، كانت روسيا ترفض سابقاً السماح للشركات الصينية شراء حصص مباشرة في حقول النفط والغاز الطبيعي الروسية. ولكن في أيلول (سبتمبر) الفائت سمحت لشركة النفط الوطنية الصينية الحصول على حصة 20 في المئة في مشروع حقول الغاز الطبيعي في”يامال” في “نوفاتيك” بمنطقة القطب الشمالي في روسيا. في المقابل، وافقت شركة النفط الوطنية الصينية على شراء 3 ملايين طن على الأقل من الغاز الطبيعي المسال من المشروع. وأكثر ما لفت المراقبين بأن شركة النفط الوطنية الصينية وافقت مع روسنفت على إنشاء مشروع مشترك للتنقيب عن النفط وإنتاجه في منطقة تقع في شرق سيبيريا، والتي تحتوي على ودائع هيدروكربونية واسعة تمتد على مئات الأميال إلى الشمال من بحيرة بايكال. وتُعتبر تلك الودائع من أثمن الأصول غير المُستغَلّة للطاقة الروسية. يبدو أن إنشاء المشروع المشترك، الذي إستحوذت فيه شركة النفط الوطنية الصينية على حصة 49 في المئة، يبشّر بتحوّل في التفكير الروسي حول الصين (وإحتياج روسيا المستمر إلى رأس المال الصيني).

التحوّل الروسي إلى الصين: من أوروبا إلى آسيا

بالنسبة إلى موسكو، يبدو أن أحدث جولة من صفقات الطاقة مع الصين كان توقيتها جيداً. نظراً إلى تصرفات روسيا في شبه جزيرة القرم وأوكرانيا في 2014، بدأت الدول الأوروبية إعادة النظر في جدّية إعتمادها على روسيا، خصوصاً بالنسبة إلى الغاز الطبيعي. في أيار (مايو) 2014، إجتمع ممثلو أكبر إقتصادات أوروبا في روما لمناقشة الكيفية التي يمكن أن تقلّل من هذا الإعتماد. وعلى الرغم من أنهم وافقوا على أن الامر سيستغرق وقتاً طويلاً قبل أن يتم تخفيض الإعتماد على الغاز الروسي حقاً، فإن تحوّل المشاعر الأوروبية بعيداً من روسيا بدا واضحاً.
من جانبها، كانت روسيا منذ فترة طويلة قلقة من إعتمادها الكبير على طلب الطاقة من أوروبا وسعت إلى تنويع قاعدة عملائها. حتى قبل الأزمة الأوكرانية، كان الطلب الراكد وزيادة الضغوط التنظيمية في أوروبا دافعاً فعلياً لروسيا للسعي إلى منافذ أخرى لمصادر الطاقة لديها. هذا هو السبب الذي جعلها تندفع إلى إجراء مناقشات مع الصين واليابان في أوائل العقد الفائت للمساعدة في تمويل خط أنابيب جديد يمكنه نقل النفط والغاز الطبيعي في الشرق الأقصى الروسي إلى آسيا. وقد تم النظر في عدد من الوسائل المختلفة. في البداية، وافقت اليابان على المساعدة في تمويل بناء خط الأنابيب الذي تبلغ كلفته 11.5 مليار دولار. ولكن عندما أعلنت روسيا عن رغبتها في بناء خط أنابيب مهماز “أسبو” إلى الصين قبل الإنتهاء من المرحلة الأخيرة من الخط الأساسي إلى الساحل، تراجعت اليابان ورفضت التمويل. لقد خشيت طوكيو من أنها ستكون في نهاية المطاف دافعة تكاليف بناء خط أنابيب إلى الصين.
في نهاية المطاف، بنت روسيا خط أنابيبها، وفعلت ذلك على مرحلتين. الأولى بدأت في العام 2006، وإستغرقت ثلاث سنوات لإكمال وربط حقول النفط في سيبيريا إلى “سكوفورودينو”. المرحلة الثانية، التي جلبت خط أنابيب المهماز “أسبو” الى محطة جديدة بالقرب من “فلاديفوستوك” على بحر اليابان، إستغرقت ثلاث سنوات أخرى لإتمامه. ولكن قبل عامين تقريباً من إختتام بناء المرحلة الثانية في كانون الأول (ديسمبر) 2012، كان خط الانابيب المهماز إلى “داتشينغ” يعمل فعلياً. حتى ذلك الحين، كانت روسيا تنقل صادراتها النفطية الى الصين بشكل رئيسي بواسطة خطوط السكك الحديدية – وهي عملية شاقة وغير فعّالة، وفي بعض الأحيان خطرة.
كان السبب الكبير وراء محور روسيا مع الصين صعود منافسين جديدين في سوق الطاقة العالمية: أوستراليا والولايات المتحدة. في جميع أنحاء الساحل الشمالي لأوستراليا، تقوم إتحادات من شركات الطاقة الدولية في تطوير حقول بحرية جديدة لإنتاج الغاز الطبيعي المسال. في غضون العامين المقبلين، من المتوقع أن تضخ هذه الحقول أكثر من 80 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى الأسواق الدولية. ومن المتوقع أن تلي هذه الكميات المعروضة الجديدة كميات مماثلة من الغاز الطبيعي من الولايات المتحدة. إن شركات الطاقة الأميركية، التي تستغل تكنولوجيا التكسير الهيدروليكي (أو التكسير)، أنتجت سيلاً من الغاز الطبيعي من ودائع الصخر الزيتي في الولايات المتحدة. وقد أدّى ذلك إلى دفع هذه الشركات للحصول على موافقة الحكومة لبناء محطات للغاز الطبيعي المسال حتى تتمكن من تصدير إنتاجها إلى العالم. (تبدو واشنطن على إستعداد، ولكن الموافقة تسير ببطء بسبب التقييمات البيئية). ومن الواضح أن إمدادات الغاز الطبيعي المسال الجديدة الأميركية والأوسترالية سوف تتحدّى طموحات روسيا في مجال الطاقة. وإذا جاء الكثير من الغاز الطبيعي المسال إلى السوق في الوقت عينه، سيؤدي ذلك إلى خفض أسعار الغاز الطبيعي في العالم وإفراغ خزائن الدولة الروسية، التي تعتمد بشكل كبير على الإتاوات والضرائب المتأتية من إنتاج الطاقة. وبالتالي، كانت صفقات روسيا لتقييد نفسها بالطلب الصيني ضرورة إقتصادية كما كانت أيضاً رداً على التوترات مع الغرب.

تحول الصين إلى روسيا: من الإكتفاء الذاتي إلى التنويع

بالنسبة إلى الصين، فقد ثبت أن علاقتها الجديدة في مجال الطاقة مع روسيا هي عملية أيضاً. حتى العقد الماضي أو نحو ذلك، ركّزت الصين تعاملها مع روسيا بشكل كبير على مبيعات الأسلحة والتعاون في المنظمات الدولية. ولكن مع إرتفاع التوترات بينها وبين اليابان والولايات المتحدة، فإن توسيع بكين لعلاقاتها مع روسيا لشمل التجارة في مجال الطاقة (وغيرها من المواد الخام) منحت الصين فرصة أكثر قليلاً للمناورة الديبلوماسية مما كان سيكون عليه الوضع، لأن الغرب قد يكون حذراً لعدم دفع الصين أكثر إلى أحضان روسيا.
مع ذلك، لدى الصين سبب آخر أكثر أهمية للتعاون مع روسيا: قلقها الكبير بالنسبة إلى قدرتها للوصول إلى موارد الطاقة. لقد أعطى نهج بكين لأمن الطاقة الصينية منذ أمد طويل أولوية الوصول إلى موارد الطاقة فوق كل الإعتبارات الأخرى. بهذه الطريقة، يمكن للصين أن تعتمد دائماً على إمدادات الطاقة الموثوقة، حتى في الأزمات. على مدى عقود، حققت الصين هذا الهدف من خلال كونها مكتفية ذاتياً من النفط. بالنسبة إلى البعض، يبدو إنشغال أو قلق الصين بالوصول إلى مصادر الطاقة غير مبرر، بالنظر إلى إنتهاء الحرب الباردة وفوائد “السلام الأميركي” (Pax Americana). ولكن قد يكون “باكس أميركانا” على وجه التحديد هو سبب شعور الصين بضرورة التحوّط. إن القادة الصينيين الذين جاؤوا في تسعينات القرن الفائت يتذكرون جيداً التغيرات المفاجئة في مواقف الغرب بعد حملتهم على المعارضة الداخلية في ميدان “تينانمن سكوير” في العام 1989 وتدخل الولايات المتحدة عندما أطلقت بكين صواريخ على مضيق تايوان للتأثير في الإنتخابات الرئاسية في تايوان في 1996. وهذا لا يعني أن الخوف هو الذي يدفع سياسة أمن الطاقة في الصين، بل تقدير بكين لقيمة الوصول إلى موارد الطاقة الموثوقة في عالم لا يمكن التنبؤ به.
ولكن بحلول منتصف تسعينات القرن الفائت، لم تعد الصين مكتفية ذاتياً ً في حقل الطاقة. كان إقتصادها ينمو بسرعة كبيرة بالنسبة إلى شركات الطاقة المملوكة للدولة –مثل شركة النفط الوطنية الصينية (CNPC)، وشركة الصين للبترول والكيماويات (Sinopec)، وشركة الصين الوطنية للنفط البحري (CNOOC– للمواكبة. كانت هذه الشركات بطيئة جداً لجلب وتأمين إحتياطات محلية جديدة للسوق ومترددة في السماح لشركات الطاقة الأجنبية بإستغلال حقول النفط والغاز الطبيعي الكبيرة في الصين. (الشركات الأجنبية العاملة في الصين عادة ما عملت في حقول غير واعدة كثيراً أو أكثر صعوبة من الناحية التقنية للإستغلال). وبالتالي، وجهت بكين شركات الطاقة المملوكة للدولة للبحث عن موارد جديدة للطاقة في الخارج، ووفرت لها تمويلاً منخفض التكلفة للقيام بالمهمة. منذ ذلك الحين، تمكنت هذه الشركات من الوصول إلى موارد الطاقة في جميع أنحاء العالم، ولا سيما في أماكن مثل أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط. في بعض البلدان، إستفادت الشركات الصينية من إنخفاض المنافسة، وذلك بسبب القيود المفروضة على شركات النفط الغربية من طريق العقوبات الدولية أو حكومات محلية معادية.
في حالات أخرى، كانت الصين على إستعداد لدفع قسط للوصول. مثال على ذلك كانت مساهمة الصين في تطوير خط الأنابيب الذي يمتد من حقول الغاز الطبيعي في جنوب تركمانستان إلى الساحل الشرقي للصين. يبلغ طول خط الأنابيب هذا حوالي 7 آلاف كلم (أكثر من سدس محيط الكرة الأرضية). وقد بدأ بناء القسم الذي يمتد على 4 آلاف كلم داخل الصين، وأُطلق عليه إسم “خط أنابيب الغرب والشرق”، في العام 2002، وإكتمل بعد سنوات قليلة. (ومنذ ذلك الحين، تم بناء الجزء الثاني من خط أنابيب الغرب والشرق في العام 2011 وبدأ الثالث في 2012). الجزء الآخر الذي يمتد 1300 كلم عبر كازاخستان فقد إنتهى في العام 2009، ولكن لديه عيوباً متأصلة. ولأن إنشاءه قد تمّ في الواقع من خليط من خطوط الأنابيب الجديدة والقائمة، وليس من تصميم واحد موحّد، هناك الكثير من التباين الهندسي في جميع أنحاء تمدّده. وهذا العامل يقلّل من موثوقيته ويرفع التكاليف على المدى الطويل. هذه التكاليف العالية من المرجح أن تجعل شحن الغاز الطبيعي عبر خط الانابيب بالكامل غير مربحة، وخصوصاً إذا استمرت الصين في لجم أسعار الغاز الطبيعي في المدن الشرقية. في الواقع، هذا هو السبب الذي أجبر المستثمرين الأجانب على الإنسحاب من مشروع خط انابيب الغرب والشرق في العام 2004، لكن يبدو أن الصين عازمة على إستكمال خط الأنابيب بأكمله، ذلك لأنه يمنحها فرصة الحصول على الغاز الطبيعي من آسيا الوسطى من الطريق البري الذي لا يمكن للسيطرة الأجنبية على البحار أن تؤثر فيه.
حتى فيما كانت شركات الطاقة الصينية توسّع إنتشارها جغرافياً، فقد فعلت ذلك أيضاً في طريقة أخرى. بدلاً من التنافس مع الشركات الأجنبية في الأسواق الخارجية، فقد وجدت الشركات الصينية في بعض الأحيان أنه من الأسهل إستحواذها (أو تملك أجزاء منها) للوصول إلى إمدادات جديدة من الطاقة. في البداية، واجه نهج الإستحواذ العدواني للصين مقاومة في أميركا الشمالية وأوروبا. في العام 2005، فشلت محاولة شركة الصين الوطنية للنفط البحري (CNOOC) في مناقصة بقيمة 18 مليار دولار لإستحواذ شركة “يونوكال” وهدّدت بعرقلة إستراتيجية الإستحواذ الصينية. ولكن بعد الأزمة المالية العالمية، وجدت مبادرات الإستحواذ الصينية تقبلاً أكثر، وذلك جزئياً بسبب تغيير شركات الطاقة الصينية أساليبها. بدلاً من محاولة الحصول على الشركة بأكملها، فإنها إستهدفت حصص الأقلية والمشاريع المشتركة التي كانت أقل عرضة لإثارة القلق في العواصم الغربية. في قيامها بذلك، إرتفعت العمليات الصينية لإستحواذ الطاقة إلى حوالي 23 مليار دولار سنوياً على مدى السنوات الخمس الماضية. وتملّكت شركة “الصين للبتروكيماويات” التي تسيطر عليها الدولة نسبة 40 في المئة من أصول شركة النفط البرازيلية “ريبسول” مقابل 7.1 مليارات دولار في العام 2010. كما وافقت “بتروتشاينا” (وحدة تابعة لشركة البترول الوطنية الصينية) على شراء حصة 20 في المئة من حقل تطوير الغاز الطبيعي التابع ل”رويال داتش شل” في “غراوندبيرتش” في كندا في العام 2011، وتبع ذلك صفقة “سينوبك” البالغ قدرها 2.5 ملياري دولار لتملك حصة في حقول الغاز الصخري التابعة ل”ديفون إينيرجي” في الولايات المتحدة، وصفقة “بتروتشاينا” التي دفعت بموجبها 1.6 مليار دولار لإستحواذ حصة “بي إتش بي بيليتون” (BHP Billiton) في “وودسايد بتروليوم” (Woodside Petroleum).
في وصولها إلى موارد الطاقة في جميع أنحاء العالم، نوّعت الصين قاعدة إمداداتها للطاقة. فعلت ذلك أولاً من خلال الرقعة الجغرافية ومن ثم من خلال إستحواذ الشركات. قد تكون الصين حوّلت إستراتيجية أمن الطاقة من واحدة تبحث عن الإكتفاء الذاتي إلى التنويع، ولكن هدفها الطويل الأمد الذي يكمن في ضمان الوصول إلى موارد الطاقة لا يزال هو نفسه. وعلى ضوء ذلك، فإن إهتمام الصين في الوصول إلى إحتياطات النفط والغاز الطبيعي في الشرق الأقصى الروسي هو إمتداد طبيعي لإستراتيجية تنويع الطاقة. تستورد الصين فعلياً أكثر من نصف النفط الذي تستهلكه، ومعظمه يأتي من الشرق الأوسط. الإضطرابات في تلك المنطقة بسبب “الربيع العربي” جعلت بكين أكثر حرصاً على تأمين موارد النفط من أماكن أخرى، بما في ذلك روسيا. وبالمثل، مع نصف وارداتها من الغاز الطبيعي أتى من تركمانستان في العام 2012، ترى الصين الإتفاق الأخير لإستيراد الغاز الطبيعي من الشرق الأقصى الروسي كوسيلة للحد من إعتمادها على منطقة جغرافية واحدة.
اليوم، تحتاج الصين إلى إمدادات الطاقة الروسية تقريباً بقدر ما تحتاج روسيا إلى الطلب على الطاقة من الصين. هذه الحاجة المتبادلة وتحوّلات أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا كسرت أخيراً الجمود الذي كان يعطّل صفقة خط الأنابيب بين الصين وروسيا. الخلافات التي جمّدت المشروع بين الجانبين كانت حول السعر الذي يجب أن تدفعه الصين إلى روسيا للغاز الطبيعي. قبل عامين، سعّرت روسيا لعملائها الأوروبيين مبلغ 437،5 دولاراً لكل ألف متر مكعب، في حين دفعت الصين فقط 350 دولاراً لكل ألف متر مكعب لغاز آسيا الوسطى. أما الآن فقد إنخفض سعر “غازبروم” إلى أوروبا إلى 380،5 دولاراً لكل ألف متر مكعب. مع الغاز الطبيعي المسال الأوسترالي على وشك التدفق مع الغاز الطبيعي المسال لأميركي، لم تعد روسيا قادرة على إنتظار الصين كي تتنازل عن شروطها. لذا كان على بوتين التنازل للتوصل الى إتفاق. في نهاية المطاف، تفيد المعلومات بأن الجانبين إتفقا على السعر الذي كان أقرب إلى طلب الصين منه إلى ما طلبته روسيا.

ما هي الخلاصة ؟

لدى الصين وروسيا تاريخ طويل مشترك. في جزء كبير منه، كانت علاقاتهما فاترة. كان القادة الروس قلقين من التعدي الصيني في الشرق الأقصى الروسي منذ أواخر القرن السابع عشر، عندما طردت القوات الصينية المستوطنين الروس من وادي نهر آمور. على الرغم من أن بكين وموسكو قد توصلتا إلى تحديد حدودهما المتنازع عليها قبل عشر سنين، فإن كثيرين من الروس (خصوصاً أولئك الذين يعيشون في الشرق الأقصى الروسي) لا يزالون حذرين وقلقين من النوايا الصينية، بخاصة وأنهم يرون أن الصين تتفوق عليهم إقتصادياً وتقنياً. في الواقع، في العام 2003 تهرّبت موسكو من الإقتراح الصيني لبناء خط أنابيب من حقول النفط والغاز الطبيعي في سيبيريا مباشرة الى الصين. من المرجح أن القادة الروس كانوا يرون أنه من الأفضل بالنسبة إلى روسيا بناء خط أنابيب مهماز إلى الصين الذي يفيدها أكثر من بناء خط أساسي. بهذه الطريقة، إذا عادت العلاقات بين البلدين وفترت مرة أخرى، يمكن لروسيا آنئذ إستخدام خط الأنابيب الأساسي لتصدير مواردها من الطاقة إلى عملاء آسيويين آخرين.
ولكن إندفاع روسيا نحو آسيا لا يخلو من المخاطر. حتى الآن، مشاريع الطاقة الروسية في الشرق الأقصى لم تكن مربحة جداً. الحقيقة بأن نصف صادرات روسيا من النفط الى الصين تم دفعه بقروض صينية، بدلاً من النقد، حيث لم يساعد ذلك الإقتصاد المُكلِف. لذا، إذا لم تستطع مثل هذه المشاريع تحقيق إرتفاع في أسعار إنتاج النفط والغاز الطبيعي في المستقبل، فهي بالكاد ستكون مفيدة لإقتصاد روسيا. بالنسبة إلى الواقع الحالي، حيث أن جميع الصفقات بين البلدين قد شملت عقوداً ذات سعر ثابت على المدى الطويل، حتى لو إرتفعت الأسعار، فلن تستفيد روسيا كثيراً منها. على نحو متزايد، تتركز قوة روسيا ونفوذها في الشؤون العالمية من سيطرتها على موارد ضخمة من الطاقة. وقال بعض المراقبين أن بوتين يتفهم صناعة الطاقة أفضل من أي زعيم وطني آخر. إذا كان هذا صحيحاً، فذلك يعود إلى أنه يجب عليه أن يكون كذلك. إنه يدرك أن على روسيا أن تنمّي وتطور موارد الشرق الأقصى إذا أرادت موسكو أن تسير إستراتيجيتها بالنسبة إلى الطاقة كما تريد (وخزائنها تظل مليئة). ولكن للقيام بذلك، يدرك بوتين أيضاً أنه يتعيّن على الصين أن تكون، ليس عميلاً فقط، ولكن أيضاً مستثمراً.
في الوقت عينه، إن عملية تنويع الصين لمورّديها في مجال الطاقة لتشمل روسيا تحمل هي الأخرى أيضاً بعض المخاطر. إن إستعداد موسكو لإستخدام سيطرتها على موارد الطاقة كأداة سياسية يجب أن تقلق القادة الصينيين. لقد أقدمت روسيا فعلياُ على ذلك مع أوكرانيا في العام 2008، وليس هناك سبب للإعتقاد بأن روسيا لن تفعل الشيء نفسه مع الصين في المستقبل. بعد كل شيء، فقد فترت العلاقات بين البلدين بشكل مذهل من قبل عندما إختلفت بكين وموسكو بشأن القيادة الشيوعية في أواخر خمسينات القرن الفائت. ولكن الصين تحتاج إلى الوصول إلى موارد طاقة جديدة إذا أرادت أن يستمر نموّها الإقتصادي. تلك الأصول الموجودة في الشرق الأقصى الروسي تقدّم للصين ليس فقط مصدراً مستقراً بشكل معقول سياسياً، ولكن أيضاً مكاناً قريباً يمكن الوصول إليه من طريق البر. في أي حال، نظراً إلى صعود الصين الواضح والركود النسبي في روسيا فإن بكين قد ترى ضرراً قليلاً في مزيد من الروابط مع روسيا اليوم. ولما كانت خطوط الأنابيب تسير في كلا الإتجاهين، يمكن للصين أيضاً إستخدامها كوسيلة ضغط على روسيا، وخصوصاً إذا العداء الغربي تجاه موسكو إرتفعت وتيرته أكثر..
حالياً، لا شيء من ذلك يجب أن يقلق الصين أو روسيا، طالما كلاهما ينفر من الغرب. على المدى الطويل، مع ذلك، فإن علاقة روسيا مع الصين قد تثبت بأنها غير مستقرة. طالما تواصل الصين إرتفاعها وروسيا إنخفاضها، فإن التوازن الإقتصادي والعسكري الأساسي في المنطقة سيتحوّل. وكلما إختلّ ميزان القوة لصالح الصين، فإن المزيد من عدم الثقة التاريخية بين البلدين يمكن أن يحوِّل التوترات الصغيرة إلى مشاكل كبيرة، بخاصة إذا واحدة أو الأخرى حسّنت علاقاتها مع الغرب. ومع ذلك، فكما إستغرقت بكين وموسكو وقتاً طويلاً لتحبير وكتابة أحدث صفقاتهما حول الغاز الطبيعي، فقد يكون هناك إنتظار طويل قبل حصول ذلك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى