التقشّف يشلّ الإقتصاد ويعطّل عودة الإنتعاش إلى منطقة اليورو

تعمل حكومات منطقة اليورو على إعادة الإزدهار إلى إقتصاداتها، بعد الأزمة التي عرفتها منذ 2008 والتي أدت إلى الركود، وذلك من طريق التقشف، لكن يبدو أن هذا الحل ولد مشكلة أخرى حيث شلّ وعطل الإنتعاش فيها بدل إعادة العافية ويهدد بولادة أزمة من نوع آخر.

زعماء الإتحاد الأوروبي: أعلنوا التقشف ولكن النتيجة ما زالت سلبية
زعماء الإتحاد الأوروبي: أعلنوا التقشف ولكن النتيجة ما زالت سلبية

بروكسل – ليلى الحلو

بالنسبة إلى أهل المجتمع القائم على الواقع الذين يدعون إلى وضع حدّ لإصرار أوروبا على التقشّف المالي، كان ينبغي أن يكون إجتماع الشهر الفائت لقادة منطقة اليورو سبباً للإحتفال: لقد نجح رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي بعد طول معاناة في الحصول على موافقة بروكسل وبرلين على إعتماد «تفسير مرن» أكثر للقواعد المتعلّقة بأهداف العجز في الموازنات الأوروبية. أخيراً، يبدو أن تغيير المسار قد حان بعد ست سنوات من خفض كارثي لهذه الموازنات.
ولكن… ليس بهذه السرعة. المنفّذ العام للموازنة في أوروبا لن يدع ذلك يحدث. بعد فترة وجيزة من إنتزاع رينزي لهذا التنازل، وجّه رئيس البنك المركزي الألماني (Deutsche Bundesbank) ينس ويدمان صفعة له، بإعلانه «إن إصرار إيطاليا على موازنة أكثر مرونة يشكّل خطراً على الإنتعاش الإقتصادي في أوروبا».
لكن غالبية هذه التصريحات هي مجرد مواقف على أي حال. الحقيقة أن هناك عاملين أكثر أهمية يحدّدان مستقبل الموازنات في أوروبا. الأول تمثله دول مقيّدة مالياً في منطقة اليورو التي قبلت في 2012 وتبنّت، عبر معاهدة الإستقرار والتنسيق والحوكمة، بأن تخفّض من مساحة المناورة المالية من «محدودة» إلى «لا حتى التفكير بها». والثاني يكمن في الأزمة المصرفية الجارية التي تقف حقاً وراء التقشف الإقتصادي في أوروبا. إن قمة وزارية ليس لديها إلا القليل من القوة لتغيير أيّ منهما.
ويجمع معظم الإقتصاديين على أن سياسة التقشف لها هدفان توأمان: خفض نمو الدين العام وتعزيز ثقة المستثمرين. في كلتا الحالتين، كانت محاولات منطقة اليورو فاشلة تماماً.
إن مستويات الدين، بعيداً من الإنهيار، تضخّمت في ظل التقشف، حيث أن دولاً تقلّصت في أكبر إنكماش إقتصادي مع إرتفاع في الديون. اليونان، الطفل المدلّل للتقشف، إرتفعت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي لديها من 105 في المئة في 2008 إلى 175 في المئة اليوم، على الرغم من حسم ديون حاملي السندات الضخمة وفقدان ما يقرب من 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. خلال الفترة عينها، إرتفعت ديون البرتغال من 62 في المئة إلى 129 في المئة، وإسبانيا زادت ديونها ما يقرب من ثلاث مرات، من 36 في المئة إلى 93 في المئة، وإيرلندا، التي أُشيد بأنها «قصة نجاح» لمنطقة اليورو لتحملها الألم والعودة إلى الأسواق، تضاعفت ديونها خمسة أضعاف، من 25 في المئة في 2008 إلى 123 في المئة حالياً.
الثقة الملهمة لما كان يسمى «الإنكماش المالي التوسعي»، والفكرة بأن تخفيضات الموازنة اليوم تجعل الناس يصرفون أكثر لأن الضرائب ستكون أقل في المستقبل، لم تكونا أفضل. لقد إنخفضت ثقة المستهلك الأوروبي بشكل حاد خلال الأزمة ولم تعد بعد إلى المنطقة الإيجابية. كما أن توقعات الإستثمار، حسب ما تفيد إستطلاعات الثقة في قطاع الأعمال، قد إنخفضت على نحو مماثل فيما إستمر التقشف في أخذ مداه والآن بالكاد يكون إيجابياً. ومن ناحيتها تتبع معدّلات النمو بدورها هذه الإنخفاضات ولكن مع تطور بين الشمال والجنوب: ألمانيا تتقدم نمواً، فرنسا نموها مسطح، وإيطاليا إقتصادها في ركود، ويبقى المحيط في المنطقة السلبية. كما أن معدلات البطالة (خارج الشمال الذي يحرّكه التصدير) في مستويات لم تشهدها منذ عشية الحرب العالمية الثانية.
وبالنظر إلى كل هذا، يعتقد بعض الخبراء أن وقف مثل هذه السياسات الإنهزامية يمكن أن يكون فكرة جيدة. وفعلياً، هو كذلك. ولكن هذا لا يعني أن بروكسل وبرلين يمكنهما في الواقع وقف التقشف.
بعض صناع السياسة على إستعداد للإعتراف بذلك، ولكن قلب المشاكل في أوروبا ليس الإنفاق الحكومي المفرط أو مستوى الدين الحكومي. بدلاً من ذلك، يركّز السياسيون على هذه العوامل لأنه من السهل إستخدامها كذريعة لإلقاء اللوم عليها وتسمح لهم تجنب القضية الحقيقية: الأزمة المصرفية. السرد الذي قدّمته ترويكا المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، (قبل أن يقفزا من السفينة في العام الماضي) وصندوق النقد الدولي – بأن الإنفاق الحكومي تسبّب في الأزمة – ليس صحيحاً وهو باطل تماماً. إن نسبة ديون منطقة اليورو إلى الناتج المحلي الإجمالي إنخفضت في السنوات التي سبقت الأزمة. كانت المشكلة الحقيقية في الإقراض العالي المستوى من البنوك الكبرى في أوروبا (الذاهبة إلى الأزمة)، وكيفية خفض مستوى الديون السيادية في أوروبا التي فجر نموذجها العالي الإستدانة للتمويل (فيما كانت الأزمة تتعمّق).
من جهة أخرى واجهت البنوك الأوروبية مشكلة سيولة في العام 2011 عندما الديون السيادية التي تستخدمها لتمويل أنفسها من خلال أسواق المال القصيرة الأجل (حيث تضع ضمانات مثل السندات السيادية بين عشية وضحاها للإقتراض لمدة 24 ساعة ثم تقرض لمدة 30 عاماً) فقدت قيمتها بعدما تم خفض تصنيف السندات السيادية. وبالنظر إلى أن موازنات هذه البنوك قد نمت لتكون أضعاف ناتجها المحلي الإجمالي السيادي الأساسي الخاص، فإن قدرتها على تمويل نفسها قد تراجعت فيما جفّت السيولة خلال 2011 و 2012. وبما أن منطقة اليورو ليست دولة، ومع ذلك يتبادل أعضاؤها عملة واحدة (ولما بدت ألمانيا، أكبر الدول الأعضاء، صغيرة جداً لإحتواء كل الأصول السيئة المعنية)، لم تكن هناك طريقة لطباعة النقود لإنقاذ البنوك كما فعلت واشنطن ولندن.
بعدما إستبعدت قدرتها على تضخيم أو خفض قيمة طريقها للخروج من المتاعب، فإن الخيار السياسي الوحيد المتبقي على الطاولة كان الإنكماش، الذي تحقق من خلال التقشف. ولكن التقشف يقلّص الإقتصاد، ويجعل الديون أكثر سوءاً، لذلك عندما جفّ التمويل المصرفي في أواخر 2011، أدرك البيروقراطيون الأوروبيون أنهم في حاجة إلى إصلاح البنوك حتى يتعافى الإقتصاد.
في كانون الأول (ديسمبر) 2011، وآذار (مارس) 2012، ضخّ رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي تقريباً تريليون يورو من المال العام في النظام المصرفي الأوروبي في شكل عمليات إعادة تمويل طويلة الأمد (LTROs). وقد إستطاعت هذه الخطوة، بالإضافة إلى وعده بالإنخراط في شراء سندات صريح إذا لزم الأمر، المحافظة على بقاء البنوك الأوروبية واقفة على قدميها. في الواقع، كما أشار أوليفر وايمان، مستشار في البنك المركزي الأوروبي، حافظت هذه السياسات على إبقاء البنوك الأوروبية ومنعها من الإنهيار مع «موافقة رسمية على دعم كامل لإجمالي القطاع المالي في الإتحاد الأوروبي بلغ أكثر من 5 تريليونات يورو، أي ما يعادل 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو».
عندما ضربت كل هذه الأموال النظام المصرفي، قررت البنوك في المحيط الأوروبي أن أفضل رهان يكمن في شراء السندات السيادية المحلية. لقد بدا في حينه وكأن الخيار واضح: السندات الإسبانية ل10 سنين التي عرضت ما يقرب من 7 في المئة عوائد في العام 2012، في حين أقرض البنك المركزي الأوروبي بفائدة 1 في المئة. وراكمت البنوك الكثير من هذه السندات ذات العائد المرتفع المحلية وإستخدمت الأرباح لدفن كمية هائلة من القروض المتعثرة في موازناتها العمومية. لفترة من الوقت، بدا وكأنها فكرة جيدة.
خدمت السيولة العامة غير المحدودة بشكل جيد بلدان محيط منطقة اليورو. على الرغم من نموها المنخفض وتوليد سياسة التقشف مستويات ديون مرتفعة، فإن سندات ال10 سنين لهذه البلدان يتم تداولها الآن بالقرب أو أدنى قليلاً من السندات الأميركية التي تعادلها. فرنسا، على سبيل المثال، والتي لم تتمكن من تحقيق هدف العجز وإزالته والوصول إلى معدل 3% الذي يسمح به النظام الأوروبي في هذا المجال، تتداول سنداتها اليوم بما يقرب من نقطة مئوية كاملة تحت سندات الخزانة الأميركية لمدة 10 سنين. إن المستثمرين يعرفون الآن أن البنك المركزي الأوروبي سيدعم السندات السيادية الأوروبية، ونتيجة لذلك، إنخفضت العوائد كما تمت إستعادة السيولة.
لكن إذا كان هذا هو العلاج، فلا يزال الطريق طويلاً جداً الى الإنتعاش. إن حكام منطقة اليورو، وبخاصة البنك المركزي الأوروبي، يواجهون ما يمكن أن يسمى «المعضلة المعتدلة». إن عودة قوية للنمو يمكن أن تقوّض بشكل متناقض الموازنات العمومية المصرفية التي تم إصلاحها بسندات دول المحيط الأوروبي بينما القليل جداً منه يمكن أن يترك منطقة اليورو عالقة في ركود إلى أجل غير مسمى.
ويفيد أهل الخبرة بأنه إذا خُفّفت السياسات وسهّلت شروطها وتسارع النمو فسترتفع أسعار الفائدة. وإذا ما حدث ذلك، فإن البنوك في محيط منطقة اليورو التي في حوزتها هذه السندات السيادية التي تربح الآن سوف ترى قاعدة أصولها تتقلّص فيما العوائد ترتفع، وأسعار السندات تنخفض، وموازناتها تنهار. ونظراً إلى هذا، يحتاج البنك المركزي الأوروبي إلى معدلات فائدة منخفضة جداً، وعمليات إعادة تمويل طويلة الأمد أكثر، ومجموعة كبيرة من الحيل النقدية للسماح للبنوك بتنظيف موازناتها العمومية، قرض واحد متعثر في كل مرة، في بيئة من النمو البطيء.
وهنا تكمن المشكلة: إذا كان النمو بطيئاً جداً، لا يمكن لهذه السياسات أن تعمل. هناك حاجة إلى معدلات نمو أعلى للسماح للبنوك بإصلاح موازناتها العمومية، وقروض صحية جديدة تحل محل القروض المتعثرة. إن تحرك البنك المركزي الأوروبي الأخير بوضع أسعار فائدة سلبية على الودائع في البنوك، والجولة الجديدة من العمليات المستهدفة لإعادة تمويل طويلة الأمد (LTROs) يمكن أن يُعتبرا في ضوء ذلك وسيلة لتعزيز الإقراض بينما هو يسعى إلى التفاوض على هذه المعضلة. لكن لن يكون من السهل عليه العثور على وسيلة للخروج.
ونظراً إلى هذا التقييد – حيث لا يمكن أن يكون النمو ساخناً جداً أو بارداً جداً- وخصوصاً عندما يقوم البنك المركزي الأوروبي بمراجعة جودة الأصول في القطاع المصرفي، فإن أي تخفيف على التقشف يخاطر بتقويض السياسات التي أدّت إلى تخفيض العوائد وإعادة تصفية البنوك. وفيما مراجعة جودة الأصول قد تساعد على تنظيف أسوأ المخالفين في القطاع المصرفي في أوروبا، فإنها لن تكون بدورها خطوة ضد التقشف.
وتكمن المشكلة المؤسسية في أن الدافع الكبير إلى كل ذلك هو الجرح الذاتي المسمّى معاهدة الإستقرار والتنسيق والحوكمة التي دخلت حيّز التنفيذ في آذار (مارس) 2012. هذه المعاهدة هي على مستوى منطقة اليورو التي يريد رينزي بعض المرونة في تطبيقها. وهي تدعو إلى أن تكون الموازنات الوطنية «متوازنة أو في فائض» في المدى المتوسط ​​مع إنفاذ تكفله أحكام «يُفضَّل أن تكون دستورية» في الأطر القانونية الوطنية. إن الدول التي يلاحظ أن لديها «إنحرافات مهمة» عن الحدود المالية في المعاهدة سوف تُغرَّم. وهذا ما يقيِّد بما فيه الكفاية، ولكن ما يجعل الأمر أكثر سوءاً هو ما يسمى إجراء إختلالات الإقتصاد الكلي في صلب المعاهدة، الذي يضع بطاقة نتائج لمدى التحسّن الذي تقوم به البلدان.
ينص إجراء إختلالات الإقتصاد الكلي على أنه يمكن للدول أن تصل إلى حد أقصى للعجز في الحساب الجاري (الواردات على الصادرات) 4 في المئة أو فائض قدره 6 في المئة فقط. وبالنظر إلى أن الواردات والصادرات مجموعها صفر، لا بد من موازنة هذا الفائض من 2 في المئة بطريقة ما. ويمكن للبلدان التي تصدّر الكثير، مثل ألمانيا، الحد من فوائضها، ولكن هذا سيكون أمراً صعباً لبيعه إلى برلين وإقناعها به. الخيار الآخر يكمن في أن تعمد بلدان العجز، مثل إسبانيا والبرتغال، إلى تطبيق سياسات ضيقة بشكل دائم لتعويض الفائض في ألمانيا. هذا هو خبر سيئ لأي محاولة لتخفيف التقشف في محيط منطقة اليورو. وبينما يجب على البلدان أن يكون لديها موازنة (تقريباً) متوازنة وفقاً للمعاهدة، فإنها لا تحصل على وضع أفضل من قبل المفوضية الأوروبية حتى تصل البطالة إلى 10 في المئة، والتي، مرة أخرى، تشير إلى أن إرتفاع معدلات البطالة بشكل دائم سيكون الثمن المدفوع للإستقامة المالية على المدى الطويل. لا يبدو مثلاً أن اليونان ستتعافى في أي وقت قريب.
بين النظام المصرفي الخائف والمتحجر ومعاهدة الإكراه، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن لدول منطقة اليورو أن تخفف التقشف حتى لو أرادت: النمو المنخفض ليس فقط مسموحاً من الناحية القانونية، فهناك حاجة إليه بالنسبة إلى البنوك لكي تعود إلى الملاءة. وبالنظر إلى أن البلدان ذات الفائض في الشمال، ليس فقط ألمانيا، تعمل على ما يرام مع التنظيم الحالي، فإنه من غير الواضح لماذا تريد حقاً تخفيف التقشف على أي حال.
لذا لا بد من تحيتين لنصر رينزي ولتفسير أكثر مرونة للقواعد والقوانين. ولكن لا يبدو أن ذلك سيكون كافياً لإنهاء التقشف وإلتئام جروح أوروبا في أي وقت قريب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى