الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بطبيعته غير قابل للحل

لا يبدو أن عملية “الجرف الصامد” التي أطلقتها تل أبيب ستحقق نتيجة أكثر من قتل الأبرياء وتدمير المنازل والساحات في القطاع. ولن تكون العملية الأخيرة للدولة العبرية في القطاع الفلسطيني رغم ما يحدث في إجتماعات القاهرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين لتأمين هدنة طويلة، ذلك أن “حماس” لن تبقى جامدة وستتسلح من جديد وستعود لضرب إسرائيل وإلّا ستفقد سبب وجودها.

حركة "حماس": لن تنهزم
حركة “حماس”: لن تنهزم

بقلم جورج فريدمان*

لقد قلنا منذ فترة طويلة بأن الصراع العربي -الإسرائيلي هو بطبيعته غير قابل للحل. الآن، للمرة الثالثة في السنوات الأخيرة، تُخاض حرب في قطاع غزة. الفلسطينيون يطلقون الصواريخ على إسرائيل مع الحد الأدنى من التأثير. والإسرائيليون يقومون بعملية أوسع نطاقاً لإغلاق الأنفاق على طول الحدود بين غزة وإسرائيل. مثل الحروب السابقة، فإن الحرب الحالية لن تسفر عن شيء. الإسرائيليون يريدون تدمير صواريخ “حماس”. لا يمكنهم أن يفعلوا ذلك إلا إذا إحتلوا غزة والبقاء هناك لفترة طويلة حيث يبحث المهندسون عن الأنفاق والمخابئ في جميع أنحاء القطاع. وهذا من شأنه توليد خسائر إسرائيلية على أيدي مقاتلي “حماس” االذين يقاتلون على أرضهم ولا مجال لهم للتراجع. لذلك سوف تستمر “حماس” في إطلاق الصواريخ، ولكن بين عدم الدقة البالغة للصواريخ ونظام دفاع القبة الحديدية لإسرائيل، فإن الحركة الإسلامية سوف تلحق أضراراً طفيفة بالإسرائيليين.

حرب بلا نتائج عسكرية

الجانب الأكثر إثارة للإهتمام في هذه الحرب هو أن كلا الجانبين على ما يبدو وجدها ضرورية، رغم علمه أنه لن يكون لها أية نتائج عسكرية حاسمة. وأثارت عملية خطف وقتل ثلاثة مراهقين إسرائيليين التي تلاها حرق صبي فلسطيني هذا الصراع. إن حجة الإنحدار النهائي تحتدم دائماً حول الخطيئة الأصلية: من الذي إرتكب الجريمة الأولى؟
بالنسبة إلى الفلسطينيين، كانت الجريمة الأصلية هجرة اليهود إلى فلسطين وإنشاء دولة إسرائيل في 1948 وطرد العرب من تلك الدولة. أما بالنسبة إلى إسرائيل، جاءت الخطيئة الأصلية بعد حرب 1967، حيث إحتلت الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان والقدس الشرقية. في تلك اللحظة، كان الإسرائيليون على إستعداد لمناقشة الصفقة، ولكن أعلن العرب يومها “ثلاث لاءات” شهيرة في مؤتمر عُقد في الخرطوم: لا تفاوض لا إعتراف ولا سلام. وهذا ما وضع الإسرائيليين بشكل متزايد في موقف جامد ومتزمت. وقد تبعت إعلان الخرطوم محاولات للتفاوض، وكلها فشلت، و”لا إعتراف ولا إتفاق ولا سلام” بقيت سليمة إلى حد كبير. وكان وقف إطلاق النار هو أفضل ما يمكن أن يأمل به أي مسؤول.
بالنسبة إلى “حماس”، على الأقل – وأظن بالنسبة إلى كثير من الفلسطينيين في الضفة الغربية – الحل الوحيد هو القضاء على إسرائيل. بالنسبة إلى كثير من الإسرائيليين، الحل الوحيد هو الإستمرار في إحتلال كل الأراضي التي إحتلتها حتى يرضخ الفلسطينيون إلى السلام الذي يريدونه والإعتراف بإسرائيل دولة يهودية. ولأن الإسرائيليين أنفسهم لا يعتقدون أن ذلك اليوم سيأتي في أي وقت، فإن الإحتلال سيصبح دائماً.
في ظل هذه الظروف، فإن حرب غزة هي بمعنى ما مسألة تدبير منزلي (ترتيب البيت). بالنسبة إلى “حماس”، إن الهدف من العملية هو التظاهر بأنه يمكنها إطلاق صواريخ على إسرائيل. هذه الصواريخ غير دقيقة، ولكن الشيء المهم هو أنه تم تهريبها إلى غزة، وهذا يشير إلى أن أسلحة أكثر خطورة سيتم في نهاية المطاف تهريبها إلى الأراضي الفلسطينية. في الوقت عينه، تود “حماس” التأكيد على أنها لا تزال قادرة على تحمل الخسائر مع الإستمرار في القتال.
بالنسبة إلى الإسرائيليين، إن هدف العملية هي أنهم على إستعداد للقيام بها. فهم يعتزمون معاقبة غزة، لكنهم لا يعتقدون أنهم يستطيعون فرض إرادتهم على غزة وإجبار الفلسطينيين للتوصل الى تسوية سياسية مع إسرائيل. إن هدف الحرب هو فرض الإرادة السياسية الخاصة بك على عدوك. ولكن ما لم يفاجئ الإسرائيليون العالم، لا شيء حاسماً سوف يخرج من هذا الصراع. حتى لو دمرت اسرائيل “حماس” بطريقة أو بأخرى، فإن منظمة أخرى ستظهر لملء الفضاء في النظام البيئي الفلسطيني. لا يمكن لإسرائيل أن تذهب بعيداً بما فيه الكفاية لكسر إرادة الفلسطيني في المقاومة. إنها تعتمد على طرف ثالث ودولة كبرى للمساعدة في تلبية الإحتياجات الأمنية الإسرائيلية. وهذا يخلق تناقضاً متأصلاً حيث تتلقى إسرائيل دعماً أميركياً كافياً لضمان وجودها ولكن بسبب المخاوف الإنسانية لا يُسمح لها بإتخاذ هذا النوع من العمل الحاسم الذي قد يحل المشكلة الأمنية.
وهكذا نرى عنفاً دورياً من مختلف الأنواع، حيث أن أياً منها يقصد أو يتوقع أن يحقق أي نتيجة سياسية كبيرة. أصبحت الحروب هنا سلسلة من الإيماءات الملطخة بالدماء. هناك بعض الغايات المحدودة للتحقيق مثل إغلاق الأنفاق الفلسطينية وإظهار القدرات الفلسطينية التي تجبر إسرائيل على موقف دفاعي مكلف. ولكن حماس لن تُهزم، وإسرائيل لن تقدّم أي تنازلات.
السيادة ومشاكل قابلية الدولة للحياة
وبالتالي فإن السؤال هو ليس ما الهدف من كل هذا بل – على الرغم من أنه موضوع رائع – ولكن أين كل هذا سينتهي. كل شيء إنساني له نهاية. الصراعات السابقة الطويلة الأمد، مثل تلك التي كانت بين فرنسا وإنكلترا، انتهت أو تغيّر شكلها على الأقل. وفقاً لذلك فإن إسرائيل وفلسطين سيتم حل نزاعهما في الوقت المناسب.
يعتقد كثيرون أن إنشاء دولة فلسطينية ستكون الحل، وأولئك الذين يعتقدون هذا في كثير من الأحيان يجدون صعوبة في فهم لماذا لم ينفّذ هذا الحل المعقول البديهي. السبب هو أن الحل المقترح ليس معقولاً كما قد يبدو للبعض.
قضايا قابلية الحياة والنمو والسيادة تحيط بالمناقشة حول الدولة الفلسطينية. إن الجغرافيا تثير تساؤلات حول جدوى أي نظام سياسي فلسطيني. لدى فلسطين مركزان سكّانيان هما قطاع غزة والضفة الغربية، وهما معزولان عن بعضهما البعض. المركز السكاني الأول، غزة، ضيق ومزدحم بشكل كبير. وقدرته على تطوير إقتصاد مستدام محدودة. والضفة الغربية لديها المزيد من الإمكانيات، ولكنها ستكون تابعة لديناميكية إسرائيل. وإذا توجهت قوة العمل الفلسطينية إلى الإقتصاد الإسرائيلي، فالمركزان الفلسطينيان يصبحان ملحقين بإسرائيل. في داخل حدودها الحالية، من المستحيل أن نتخيل فلسطين قابلة للحياة.
من وجهة النظر الإسرائيلية، إن إنشاء فلسطين على طول خطوط 1967 (نترك جانباً مسألة القدس) من شأنه أن يعطي الفلسطينيين أهدافا رائعة، بالتحديد تل أبيب وحيفا. بالنظر إلى تاريخها، فمن غير المرجح أن تأخذ إسرائيل هذا الخطر إلا إذا كان لها الحق في الإشراف على الأمن في الضفة الغربية بطريقة أو بأخرى. وهذا بدوره من شأنه أن يقوّض السيادة الفلسطينية.
فيما تقوم بدرس الإحتمالات في أي حل لإقامة دولتين، ستواجه المشكلة حيث أن أي حل من جانب سيكون غير مقبول ومرفوض من الآخر. إن الجغرافيا ببساطة لن تسمح بإقامة دولتين ذات سيادة. في هذا المعنى، فإن المتطرفين على كلا الجانبين أكثر واقعية من المعتدلين. ولكن هذا الواقع يواجه مشاكل أخرى.

إسرائيل والتغيرات المحتملة في المنطقة

حالياً، إن إسرائيل غير آمنة بالقدر الذي تبغيه ما لم تختفِ “حماس”، ولن تحل محلها منظمة مماثلة أخرى، وتصبح الضفة الغربية أكثر إستيعاباً لإرادة إسرائيل. أيٌّ من هذه التوقعات غير مرجحة. الإقتصاد الإسرائيلي تعلو أبراجه فوق جيرانه. الفلسطينيون ضعفاء ومنقسمون. أيّ من جيران إسرائيل يشكل أي تهديد بالغزو، وهو وضعٌ سارٍ منذ 1977 عندما تم تحييد مصر. والأردن وقع معاهدة سلام مع تل أبيب وله علاقات وثيقة مع إسرائيل، ولدى مصر معاهدة سلام وقّعها الرئيس أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، و”حزب الله” غارق في مستنقع سوريا. وبصرف النظر عن غزة، التي تشكل تهديداً طفيفاً نسبياً، فإن وضع إسرائيل من الصعب تحسينه.
لا يمكن لإسرائيل أن تحوّل تركيبتها السكانية جذرياً. إلا أن العديد من التطورات في المنطقة يمكن أن تتحرّك ضد إسرائيل. مصر يمكن أن تتغير الحكومات فيها التي قد تنبذ المعاهدة، وتعيد تسلحها ويدخل جيشها بأعداد كبيرة إلى شبه جزيرة سيناء. “حزب الله” يمكن أن يستخدم خبرته في سوريا لفتح جبهة في لبنان. سوريا يمكن ان تقود حكومتها “الدولة الإسلامية” وتهدّد مرتفعات الجولان. الإسلاميون يمكن أن يطيحوا النظام الملكي الهاشمي في الأردن ويشكّلون خطراً من الشرق. تركيا يمكن أن تتطور حكومتها إلى حكومة إسلامية متطرفة وترسل قواتها لتحدي إسرائيل. ثورة ثقافية يمكن أن تحدث في العالم العربي من شأنها أن تتحدى التفوق الإقتصادي الإسرائيلي، وبالتالي قدرتها على شن الحرب. إيران قد تقوم بتهريب صواريخ إلى غزة، وهلمّ جراً.
وتبعاً لذلك هناك عدم تناسق في الإحتمالات. ومن الصعب أن نتصور أي تطور على الصعد الفنية والسياسية أو الإقتصادية الذي من شأنه تحسين وضع إسرائيل المادي المهيمن بالفعل، ولكن هناك العديد من الأشياء التي يمكن أن تُضعف إسرائيل – بعضها بشكل كبير. كل واحد منها قد يبدو بعيد المنال في الوقت الحالي، ولكن كل شيء في المستقبل يبدو بعيد المنال. لا شيء غير وارد.
إن قاعدة السياسة والأعمال تقوم على المساومة من موقع قوة. إسرائيل هي الآن قوية بقدر ما ستكون. ولكن إسرائيل لا تعتقد أنه يمكن التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين من شأنه أن تضمن الأمن القومي الإسرائيلي، وهو رأي مبني على قراءة واقعية للجغرافيا. ولذلك، لا ترى إسرائيل أي غرض أو هدف يُذكر لتقديم تنازلات إلى الفلسطينيين على الرغم من وضعها النسبي القوي.
في هذه الظروف، فإن الاستراتيجية الإسرائيلية تكمن في الحفاظ على قوتها على المستوى الأقصى واستخدام ما لديها من نفوذ لمنع ظهور تهديدات جديدة. من هذا المنظور، فإن الإستراتيجية الإسرائيلية بشأن المستوطنات يبدو منطقياً. إذا لم تكن هناك محادثات، فإن على إسرائيل الحفاظ على ميزتها الساحقة، وخلق عمق إستراتيجي في الضفة الغربية موضوع حساس وغير معقول. سيكون أقل حساسية إذا كان هناك إحتمال وجود معاهدة سلام. يجب على إسرائيل أن تُلحق هزيمة مؤقتة ضد أي قوة فلسطينية ناشطة معادية من وقت لآخر لتأخيرها سنوات عدة وإظهار القدرات الإسرائيلية لأغراض (سيكولوجية) نفسية.
الموقف الفلسطيني في الوقت عينه يجب أن يحافظ على التماسك السياسي والإنتظار، وذلك بإستخدام موقعه لمحاولة الوقيعة بين اسرائيل ورعاتها الأجانب، خصوصاً الولايات المتحدة، ولكن لفهم التغير الوحيد في الوضع الراهن فهو سيأتي من التغييرات خارج المجمع الإسرائيلي -الفلسطيني. وتتمثل المشكلة الفلسطينية الأساسية في الحفاظ على نفسها ككيان متميز مع قوة كافية لمقاومة هجوم إسرائيلي لبعض الوقت. إن أي معاهدة سلام سوف تُضعف الفلسطينيين من خلال سحبهم إلى المدار الإسرائيلي وتقسيمهم. وبرفضهم لمعاهدة سلام، سيبقون متميّزين، إذا كانوا منقسمين. وهذا يضمن أنهم سوف يكونون هناك عندما تتغير الظروف.

وماذا بعد خمسين عاماً ؟

المشكلة الرئيسية بالنسبة إلى إسرائيل هي أن الظروف تتغير دائماً. إن توقع القدرات العسكرية للعالمين العربي والإسلامي بعد 50 عاما أمر صعب. على الأرجح، فإنهما لن يكونا ضعيفين كما هما اليوم، ويمكن تقديم حجة قوية هو أنه على الأقل أن العديد من دولهما سيكون أقوى. وإذا كان لدى بعضها أو كلها بعد 50 عاماً موقف عدائي ضد إسرائيل، فإن إسرائيل سوف تكون في ورطة.
الوقت ليس في صالح إسرائيل. عند نقطة ما، سيكون من المرجح أن يحدث شيء لإضعاف وضعها، في حين أنه من غير المرجح أن أي شيء سيحدث لتعزيز وضعها. وهذا عادة قد يكون حجة لدخول المفاوضات، ولكن الفلسطينيين لن يتفاوضوا على إتفاق من شأنه أن يتركهم ضعفاء ومنقسمين، وأن أي صفقة تريدها إسرائيل ويمكن أن تعيش معها تفعل ذلك تماماً.
ما نراه في غزة هو مجرد تدبير شؤون البيت، وها هو كل طرف يحاول الحفاظ على وضعه. الفلسطينيون بحاجة إلى الحفاظ على التضامن لفترة طويلة. والإسرائيليون يحتاجون إلى ضمان تفوقهم الإستراتيجي لأطول مدة ممكنة. ولكن لا شيء يدوم إلى الأبد، وبمرور الوقت، فإن القوة النسبية لإسرائيل ستتراجع. وفي الوقت عينه، فإن القوة النسبية للفلسطينيين قد تزيد، رغم أن هذا ليس أكيداً.
النظر إلى المخاطر النسبية، إن إجراء إسرائيل صفقة عالية المخاطر مع الفلسطينيين يبدو من الحكمة على المدى الطويل. ولكن الدول لا تتخذ قراراتها معتمدة على تلك الحسابات المجردة. إن اسرائيل سوف تراهن على قدرتها على البقاء قوية. من وجهة نظر سياسية، لا يوجد لديها خيار. من جهتهم الفلسطينيون سوف يراهنون على لعبة تدوم طويلاً. ليس لديهم خيار. وفي هذه الأثناء، فإن الدم يتدفق بشكل دوري.

• الدكتورجورج فريدمان هو رئيس “ستراتفور للإستخبارات الدولية “، وهي المؤسسة التي أنشأها في العام 1996 وصارت حالياً رائدة في مجال الإستخبارات والمعلومات العالمية.
• المقال كتب بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والمعلومات في “أسواق العرب”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى