هل يستطيع الأردن الصمود أمام تمدّد “الدولة الإسلامية”؟

السرعة التي نفّذ فيها تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام” (داعش) (والآن “الدولة الإسلامية”) هجومه وإجتياحه لشمال العراق رفعت الإهتمام لدى صانعي السياسات في الدول الغربية والمنطقة العربية إلى مستوى جديد. لقد فجّر الهجوم ورطة في وجه واشنطن وسياستها المعلنة القائمة على “طوق الإحتواء السوري” حيث تفضّل حلاً سياسياً مع تدابير محدودة لدعم المتمرّدين ضد نظام الرئيس بشار الأسد. وفيما التنظيم الإسلامي المتشدّد نما عددياً وتوسّع أرضياً، وأعلن بطموح عن إقامة خلافة إسلامية، تزايد القلق بين القادة والمواطنين في الجوار. الأردن، الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في المنطقة الذي يتقاسم الحدود مع الأراضي التي سيطرت عليها “الدولة الإسلامية” والتي تضم جزءاً أساسياً من الإمبراطورية السنية السلفية المرجوة، يبدو في وضع غير مستقر لوقوعه في عين العاصفة التكفيرية وعلى خط المواجهة مع حملة “داعش” العنيفة.

تنظيم "الدولة الإسلامية: هل يتابع المسيرة إلى الأردن؟
تنظيم “الدولة الإسلامية: هل يتابع المسيرة إلى الأردن؟

عمان – ليلى الشامي

يُنظر إلى الأردن بإنتظام من الناحية الإستراتيجية بأنه “دولة عازلة” بين إسرائيل وخصومها الإقليميين، وبين دول الخليج السنية و”الهلال الشيعي”، وكمضيف يتقبّل ويستقبل موجات من اللاجئين وسط الإضطرابات الإقليمية. ولكن في حين أن المملكة الصغيرة تمارس دورها بوصفها ممتصّة للصدمات الإقليمية، فإن الحروب الأهلية مع ضعف الحكم والسلطة في دولتين جارتين هيمن عليهما طويلاً رجال أقوياء (سوريا والعراق)، تمثّل تحدّياً جديداً. وعلاوة على ذلك، يشكّل الإضطراب والوضع الراهن الهش في المناطق المجاورة الأخرى (مصر، لبنان، إسرائيل وفلسطين) “طوق نار” جغرافياً يقلق المواطنين والمسؤولين على حدّ سواء.
وقد حذر الرئيس الأميركي باراك أوباما في الشهر الفائت من أن الفراغ الأمني الذي يخلّفه توسّع “داعش” يثير إحتمال “أن يمتد عدم الإستقرار الى بعض حلفائنا مثل الأردن”. والأسئلة هنا: إلى أي حد تبدو المملكة الهاشمية عرضة لتمدد صراع العنف المجاور؟ وما هي العوامل التي تخلق مخاطر أمنية فورية لهذا البلد؟ وبالتالي ما هي الخيارات المتاحة للتخفيف من المخاطر التي تواجه هذا الحليف الحاسم للولايات المتحدة؟

التطلع الإسلامي الى الأردن

هناك بعض الجدل حول تهديد “الدولة الإسلامية” (داعش سابقاً) لدول أخرى غير سوريا والعراق، بما في ذلك الأردن المجاور. هذه المنظمة التكفيرية التي تركت أعداء تقريباً في كل منظمة سياسية أوعسكرية لم تبايع وتعلن الولاء ل”الدولة الإسلامية” وقائدها أبو بكر البغدادي، الذي نصب نفسه “الخليفة إبراهيم”، تنشغل بالسطو والسيطرة على الأراضي في شمال وشرق سوريا وشمال وغرب العراق. ويتوقع بعض المحللين نجاحاً قصير الأجل للمجموعة (والخليفة) قبل أن تنتكب بسبب إستراتيجيتها المتطرفة التي تتبعها في حكمها ورفضها الوساطات لحل النزاعات مع المجموعات المتمردة الأخرى. ويجادل هؤلاء بأن الوحشية والتطرف اللذين حوّلا العشائر السنية ضد تنظيم “القاعدة في العراق” إلى “مجالس الصحوة” في 2007 سوف ينأيا أيضا بالسكان المحليين عن “الدولة الإسلامية” اليوم.
لكن آخرين يدعون إلى الجدية حول قدرات “الدولة الإسلامية” التوسعية والبقاء في السلطة. إن مفاجأة التوغل في العراق إبتداء من الموصل والسير المنهجي هبوطاً على ضفاف دجلة، أكدت أن أهداف وقدرات “الدولة الإسلامية” لا تقتصر على سوريا. يذكر أن أصول “الدولة الإسلامية” في حرب العراق وأسلوب الحكم الإستبدادي لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي جعلا التحرك شرقاً أقل إثارة للدهشة. في محاولة لتعزيز مكاسبه والدفاع عنها ضد إستجابة وردود فعل متعددة الأطراف لتقدمه، قد يكون لدى تنظيم “داعش السابق” قدرة محدودة لمواصلة مسيرته خارج العراق وسوريا.
ومع ذلك، إن أهداف التنظيم التكفيري عبر الوطنية واضحة ومقلقة. وقد ذكرت مصادر محلية قريبة من الدوائر الجهادية أخيراً أن البغدادي ناقش مع كبار القادة “إمكانية التوسع وخلق ملاذ آمن في بلد ثالث في حال إنهزموا في سوريا أو العراق”، وخصوصاً الأردن وسيناء أو قطاع غزة. كما أن تصريحات التنظيم الجهادي المتشدّد حددت الأردن كهدف لإهتمامه وتطلعاته. من جهة أخرى يُظهر العديد من أشرطة الفيديو المتشدّدين ينددون بالنظام الملكي الهاشمي كنظام “إجرامي ومرتد”. كما أنه في أشرطة فيديو حيّة إنتشرت في الربيع، ظهر مسلحون يحتفلون بمقاتل فتى في سوريا لأنه مزّق وحرق جواز سفره الأردني وهدد المملكة بسيارات مفخخة؛ في حين أن مقاتلاً آخر يرتدي حزاماً ناسفاً هدّد بذبح الملك عبد الله الثاني.
إن تركيز تنظيم “الدولة الإسلامية” على الأردن كهدف وشيك ليس مستغرباً. لقد تأسست المنظمة في البداية بوصفها فرع تنظيم “القاعدة” في العراق بقيادة الأردني أبو مصعب الزرقاوي من الزرقاء، المدينة الصناعية المزدحمة بالسكان التي تقع الى الشمال الشرقي من عمان. وقد نمت العداوة الأردنية تجاه الزرقاوي و”القاعدة” في العراق بعدما حاول مرات عديدة تنفيذ هجمات داخل المملكة. كانت محاولات الزرقاوي للمهاجمة داخل الأردن ناجحة في نهاية المطاف، وبلغت ذروتها في تفجيرات منسّقة لثلاثة فنادق في عمان في 2005. وقتل في العام التالي في عملية أميركية أردنية مشتركة. بعد وفاته، وصلت إلى “القاعدة في العراق” قيادة جديدة حيث غيرت إسمه إلى “الدولة الإسلامية في العراق” وبعد ذلك، في سياق الحرب الأهلية السورية صار “الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام” (داعش).

عرض وطلب

لحشد المؤيدين وجذب المجنّدين المحتملين، نشر تنظيم “داعش” أهدافه الأوسع بإستخدام موضوعات وإشارات تعبوية رمزية التي يتردد صداها عبر الحدود. فقد حذف إشاراته إلى العراق وبلاد الشام في تغيير إسمه إلى “الدولة الإسلامية”، معلناً بأن معاهدة “سايكس بيكو” ملغاة وباطلة، ووجه رسالة رمضانية إلى الأمة الإسلامية في العالم، كل ذلك من أجل إظهار حسن نية عابرة الوطنية للمنظمة. الدهاء في تعزيز الذات من خلال إنتاج أشرطة فيديو عالية الجودة، والإستخدام البارع لوسائل الإعلام والتواصل الإجتماعية، وسّع متناول المنظمة وإنتشارها إلى مناطق بعيدة من ساحة المعركة. وقد إستغل تنظيم “الدولة الإسلامية” أيضاً الصراع الدائر في غزة لنشر الهدف الأكبر المتمثل في “تحرير فلسطين من الصهاينة” من خلال جبهات مزدوجة في سوريا والأردن، والذي يتطلب في هذه الحالة زعزعة إستقرار المملكة الهاشمية. القدرة على التعبئة لهذا النزاع تبدو قوية بشكل خاص في الأردن، حيث أن غالبية السكان هي من أصل فلسطيني، كما أن معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن التي لا تحبذها جميع شرائح المجتمع يمكنها أن تصب الزيت على نار الإحتجاجات.
مع ذلك، على جانب العرض، يبدو تنظيم “الدولة الإسلامية” نقطة محورية قوية بالنسبة إلى أنصاره الإيديولوجيين المتضرّرين المتمثلين بالشباب المحافظين ذهنياً. فهو يقدم لهم مصدراً للإلهام والتوجيه والغرض. وهذا هو مصدر قلق بالغ بالنسبة إلى الأردن. إن نجاح التنظيم التكفيري في أرض المعركة، وتطبيقه للقوانين والأعراف – مهما تكن بدائية – على معاقله، ومتناوله الأوسع للإعلان الذاتي تزيد قوته بينما يجذب أيضاً أتباعاً محتملين داخل المملكة.
الحجم قابل للنقاش، ولكن هناك شريحة من الشعب الأردني تضم هذا الجانب من الطلب. وقد أشارت تقارير في الشهر الفائت إلى أن تنظيم “الدولة الإسلامية” إفتتح فرعاً داخل الأردن. لكن محامياً للجهاديين الإسلاميين في عمان إستبعد وجود “داعش” في المملكة مع الإعتراف بأن هناك أعداداً كبيرة من أنصار ومؤيدي التنظيم في صفوف شباب الحركة السلفية الجهادية الأردنية. عند النظر في إحتمال تمدد عدم الإستقرار ليطغى في الأردن، فإن قدرة “الدولة الإسلامية” نفسها لشن حملات من العنف ليست هي الشاغل الوحيد أو حتى الأساسي. في هذا السياق، يميل مراقبو الوضع في الأردن إلى التركيز في الغالب على المدينة الجنوبية “معان”.

حالة معان: الفلوجة الأردنية؟

الأحداث الأخيرة تشدّ الإنتباه مرة أخرى إلى المركز التقليدي للتنافر والنزاع والذي ينذر أحياناً بإضطرابات أكثر إنتشاراً – المدينة الجنوبية التاريخية “معان”.
ومدينة معان، التي تبعد 216 كيلومتراً جنوباً من عمان، هي عاصمة محافظة “معان” أكبر محافظات المملكة الهاشمية مساحة وأول منطقة دخلها الإسلام في بلاد المشرق العربي. سكانها ينقسمون إلى قسمين: بدو وحضر. وقد بدأت منها الثورة العربية الكبرى كما دخل الأمير فيصل إلى الأردن من خلالها. وجعلها الهاشميون موئلاً لقدمهم بعدما نزل الأمير عبد الله ا(لأول) فيها في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 1920 حيث إستقبله أشرافها وشيوخها مرحبين مهللين، وكان وصوله بعد أربعة أشهر من إعتداء الفرنسيين على إستقلال سوريا.
هذه المدينة (والمحافظة) حالياً قبلية السكان وفقيرة، وقد كانت مسرحاً لأعمال شغب متكرّرة وإضطرابات وإشتباكات مع قوات الأمن الأردنية. خلال التوترات الماضية، رفع أهلها العلم السعودي في تحدّ للنظام الملكي الهاشمي، وقدّموا الملاذ لزعيم السلفية الجهادية “أبو سياف” بعدما طاردت الشرطة سيارته.
في نيسان (إبريل) الفائت، تدهور الوضع الأمني فيها بسرعة فيما كانت قوات الأمن تجتاح المدينة للعثور وإلقاء القبض على مطلوبين قتلوا شاباً في التاسعة عشرة من عمره في ظل ظروف غير مؤكدة أو واضحة. وتحوّلت الإحتجاجات إلى أعمال شغب وإشتباكات بين السكان وقوات الأمن. وقد طالب المتظاهرون على أثرها بإستقالة رئيس الوزراء عبد الله النسور وحكومته، ولإهانة الملك عبد الله الثاني، رفعوا لافتة كتب عليها “معان: نحن لن نركع إلا أمام الله”. في غضون أيام، تجمّع زعماء القبائل من جميع أنحاء البلاد للتوسط لتهدئة الوضع ودعا وجهاء البلدة إلى مسيرات للتنديد ب”داعش”. مع ذلك، جاء تحذير بصوت عال من بعض الحكماء إلى لحكومة يطالبها بعدم الإقتراب من معان بطريقة قد تثير “درعا جديدة” – إشارة إلى المدينة السورية الجنوبية التي إندلعت منها الإنتفاضة ضد تكتيكات نظام الأسد الخرقاء في بداية الثورة السورية.
بعد غارة أخرى قامت بها قوات الأمن ضد عصابات إجرامية في نهاية حزيران (يونيو) الفائت، إندلعت أعمال الشغب والإشتباكات مجدداً في المدينة. لكن هذه المرة، وبالتزامن مع مكاسب “داعش” في العراق، سارت إحتجاجات أضخم ورفعت شعارات طائفية وأعلنت بصوت عال الدعم ل”جبهة النصرة” و”داعش” مع رفع العلم الجهادي الأسود في كل مكان مع لافتة كبيرة كتب عليها “معان الفلوجة الأردنية”. الإشارة هي إلى مدينة الفلوجة العراقية التي سيطرت عليها الميليشيات القبلية الثورية وقوات “داعش” وطردت منها الجيش العراقي في كانون الثاني (يناير) الفائت. إلا أنها ما زالت مسرحاً لقتال مستمر.
السبب المباشر للإنفجار الأخير يرتبط بالأمن والشرطة. لقد شجّعت الصراعات في الدول المجاورة على إنتعاش إقتصاد الحرب على نطاق صغير في المناطق التي تنتشر فيها نسبة عالية من الفقر والبطالة مثل معان التي تسهّل أعمال الجريمة المنظمة من خلال تهريب الأسلحة والمخدرات والسيارات. لذا تهاجم قوات الأمن المدينة بإستمرار لإعتقال المجرمين المطلوبين حيث تستخدم، على حد قول السكان، الأساليب التعسفية والقوة المفرطة، الأمر الذي يؤدي إلى تحريض الأهالي وإعلان إستيائهم من هذه التكتيكات والتوغلات بالغضب والإحتجاجات.
لكن أكثر العوامل المستمرة تخلق العداء وتولّد الحقد، والظروف التي أدّت إلى النوبات الأولى من الإضطرابات في معان تستمر اليوم. محمد أبو رمان، الخبير في شؤون الجماعات الإسلامية في الأردن، حثّ أخيراً المسؤولين على مراجعة منشور مهم صدر في 2003 عن مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية بعنوان “معان: أزمة مفتوحة”. يتناول الكتاب الأسباب المباشرة والدائمة لخمس أزمات متلاحقة في معان (1989، 1996، 1998، 2000، 2002). ثلاث نقاط تبرز. أولاً، التفاوتات الإجتماعية والإقتصادية المستمرة وإنعدام الفرص تنتج مظالم محلية. إن تصور سكان معان بأن محافظتهم محرومة من الدعم الحكومي والتنمية يساهم في تعزيز إحساس غامر بعدم المساواة. في إستطلاعات سابقة، كان سكان معان عرضة مرتين أكثر من الأردنيين الآخرين لوصف البلاد بأنها غير متكافئة وغير عادلة على الرغم من النمو الإقتصادي الوطني و25 عاماً طويلة من “مسيرة الديموقراطية”.
ثانياً، تراجعت الدولة من معان ومحافظات أخرى بشكل ملحوظ في ظل الحكومات الاولى التي تشكلت بعد وصول الملك عبد الله الثاني إلى السلطة. وتزامن تقشف الدولة مع كل من خطط الخصخصة التي توسعت في ظل هذه الحكومات التكنوقراطية الجديدة، وأكثر مباشرة، مع الإحتجاجات المؤيدة للإنتفاضة الفلسطينية الثانية المطالبة بإغلاق السفارة الإسرائيلية، وإطلاق سراح السجناء، و”تحرير الأقصى”. إن فرض القانون والنظام قد إنخفض بشكل كبير، وخلق فراغاً أمنياً وزيادة في الإجرام. وإستغلّت الجماعات السلفية الفرصة لمحاذاة مصالح الشارع مع مصالحها الخاصة، وتأكيد نفوذها، وزيادة قدرتها على تفعيل الشارع ضد الحكومة المركزية في عمان.
أخيراً، حاولت الدولة إعادة تأكيد نفسها جزافاً بمعالجتها الوضع في معان كمشكلة أمنية بدلاً من مشكلة تنمية. يسود الشعور لدى المواطنين بأن جميع سكان معان متورطون بالنسبة إلى قوات الأمن الحكومية التي تقوم بغارات متفرقة، في حين لا تظهر الحكومة إهتماماً يُذكر في معالجة التخلف على المدى الطويل. بدلاً من ذلك، فإن الدولة إستخدمت العمالة في القطاع العام والتمثيل الأكثر في المناصب التشريعية لإسترضاء هذه المناطق. إن كل واحد من هذه العوامل يساهم في القطيعة بين أهل معان والدولة. على المدى الطويل، تصبح البيئة من دون التدخل البنّاء للدولة حاضنة للإجرام وللسلطة غير الحكومية. إن الصراعات المجاورة الحالية تخلق فرصاً للأسواق والأنشطة غير المشروعة التي تتطلب التدخل الحكومي. اإن لتدخل العدواني، يهدر إستراتيجيات التنمية الدائمة أكثر من مواجهة النزعات التخريبية. إذا كان الخلاف الأخير سيتطور إلى شيء أكثر أم لا، فهي ليست المرة الأخيرة التي سوف تواجه الدولة تحديات تشعل الإضطرابات في معان. نظراً إلى قيمتها الرمزية كمركز لتحدي الدولة وتظلم المواطن (حيث يحيي المتظاهرون هنا ذكرى إحتجاجات 1989)، فإن الإضطرابات في المستقبل لديها القدرة على الإنتشار.
الأهم من ذلك، ينبغي أن يوسّع المحللون أيضاً دائرة نظرتهم. التركيز الضيِّق جداً على معان كمركز لعدم الإستقرار ينتج رؤية نَفَق. في الواقع، إن المدينة الجنوبية توضّح عوامل الخطر الرئيسية في المملكة. مع ذلك، وبدرجات متفاوتة فإن الظروف عينها التي أنتجت الإضطرابات في معان موجودة في أي مكان آخر في البلاد، كما هي الحال في مراكز التنسيق والنشاط السلفية الجهادية بما فيها مدن السلط والزرقاء وإربد وبعض مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. على عكس البلدات الريفية النائية مثل معان والطفيلة والمفرق، فإن هذه المناطق الحضرية ذات الدخل المنخفض ممثلة تمثيلاً ناقصاً سياسياً وفي وظائف القطاع العام. فليس من المستغرب إذن أن الأحياء الفقيرة في هذه المدن الكبرى تورّد معظم الجهاديين الأردنيين إلى سوريا.

التحديات والردود

“مغناطيس التشدّد” الذي خلقته الصراعات المجاورة يشكّل تحدياً متعدّد المستويات ويتطلب إستجابات وردوداً متعددة المستويات. يحتاج الأردن بمؤازرة الولايات المتحدة إلى النظر إلى ردود سياسية طارئة متعددة تشمل هجوما” مباشراً من “الدولة الإسلامية”، وخطر التطرف الداخلي، وإضطرابات واسعة النطاق.
الهجوم المباشر: إن هجوماً مباشراً من متشدّدي “الدولة الإسلامية” ممكن ولكن ليس وشيكاً. الأسئلة تكمن في ما إذا كان تنظيم “الدولة الإسلامية” سيقوم بخطوة إستراتيجية لتنفيذ هجوم في الأردن، وما إذا كان في إستطاعة المملكة الهاشمية صد مثل هذا الهجوم إذا حدث. رداً على إستيلاء التنظيم التكفيري على الجانب العراقي من معبر الكرامة – طرايبيل الحدودي، عزز الأردن بشكل كبير الدفاعات على حدوده. ومع خطر عبور المتشدّدين الحدود لتحدّي الحكم الملكي، أطلق الجيش الأردني حملة تجنيد جديدة لتعزيز عديده وزيادة التنسيق مع المملكة العربية السعودية.
إعتمد تنظيم “الدولة الإسلامية” بشكل كبير على القبائل والميليشيات الثورية في هجومه في العراق، لكنه يفتقر هذه الفرصة للتنسيق في الأردن. إن عدم رضى وتذمر وإستياء القبائل موجودة منذ بعض الوقت، ولكن لا يوجد سبب للقلق بأنها ستنشقّ وتلتحق بجماعة متطرفة مثل “الدولة الإسلامية”. هناك مساحات شاسعة من الصحراء تفصل المنطقة الحدودية مع العراق عن المراكز السكانية في الأردن، الأمر الذي يعطي العسكريين الوقت الكافي للإعتراض سلفاً. الجيش الأردني، بدعم من الآخرين إذا لزم الأمر، لن يسمح بذلك النوع من التنظيم الذي نفذ حول الموصل. وعلاوة على ذلك، فإن الجيش الأردني الذي يتميز بمهنية عالية لن يلقي السلاح ويلوذ الفرار كما حدث مع الجيش العراقي في العديد من المناطق العراقية.
مع ذلك، فيما يَجمع تنظيم “الدولة الإسلامية” بشكل متزايد “جيشاً كاملاً”، يعرف الأردن أن حراسة الحدود بشكل كاف يتطلب دعماً دولياً وإقليمياً. في هذه الحالة على الولايات المتحدة أن تضمن دعماً لا لبس فيه للحكومة الاردنية ووضع “خط أحمر حقيقي” في ما يتعلق بأي توغل خارجي إلى المملكة. أقرب إلى البلاد، سوف يحتاج الأردن إلى التنسيق مع العشائر العراقية في المنطقة الحدودية ووحدات “الجيش السوري الحر” في جنوب سوريا، وكلاهما مألوفان لدى الجيش الأردني. وعلاوة على ذلك، ينبغي على عمان العمل على تحسين علاقاتها مع بغداد بعد إحتضان العاصمة الأردنية أخيراً لمؤتمر شخصيات المعارضة العراقية الأمر أدى إلى إندلاع توترات بين البلدين.
التطرف في الداخل: على الرغم من تطمينات الملك عبدالله الثاني والحكومة وكبار المسؤولين العسكريين للجمهور الأردني، فإن خطر هجمات على نطاق أصغر يبدو عالياً. إن إمكانية مجموعات صغيرة داخل البلاد في إحداث إضطراب خطير لا تضيع على أحد. الواقع أن الجهاديين الأردنيين الذين يعودون من ساحة المعركة يشكّلون تهديداً مباشراً بينما يخدمون أيضاً كمصادر للتطرف لزيادة عدد السلفيين الجهاديين في البلاد. هناك خوف من أن “النار تحت الرماد” الداخلية سيتم إشعالها بمزيج من السخط المحلي والتظلمات الإقليمية، والنجاحات الميدانية للمتشددين الراديكاليين الذين يلهمون تفكير الشباب الثوري. زعيم السلفية الجهادية أبو سياف، الذي ينسّق إرسال الأردنيين للقتال في سوريا، أوضح أنه مع قدرة أكبر “هذا النظام [في الأردن] لن يُترك ولن يبقى”.
من جهة أخرى، إن الإنشقاق بين الجهاديين التقليديين (بما في ذلك أنصار “القاعدة”) وأنصار تنظيم “الدولة الإسلامية” يدور رحاه إقليمياً. في الأردن، سار النزاع في إتجاهين حددتهما تداعيات حصلت في السجن منذ سنوات بين منظر الحركة السلفية الجهادية أبو محمد المقدسي، الذي يمثل الخط الجهادي الأكثر تقليدية، وتلميذه الأكثر راديكالية وطائفية أبو مصعب الزرقاوي. لذا، منتهزة الوضع، يستخدم النظام الأردني القادة الجهاديين الذين لا يؤيدون “تنظيم “الدولة الإسلامية” وينادون بالجهاد ولكن يتجنبون الهجمات داخل البلاد وإستهداف مسلمين آخرين. وقد أفرجت الحكومة أخيراً عن إثنين من القادة السلفيين الرفيعي المستوى الذين ينتقدون بشدة تنظيم “الدولة الإسلامية” وإعلانها الخلافة. أبو محمد المقدسي، وهو زعيم جهادي مؤثر، أطلق تصريحات معادية لتنظيم”الدولة الإسلامية” (داعش سابقاً) من السجن مع بيان يسخر فيه من “الدولة الإسلامية” وإبطال إعلان الخلافة. كما أُفرج أيضاً عن وجه بارز جهادي آخر من تنظيم “القاعدة” هو أبو قتادة الذي، مثل غيره من قادة السلفية البارزين أبو سياف وإياد قنيبي، أدان إجراءات تنظيم “الدولة الإسلامية”. ورداً على ذلك تنصّل أنصار “داعش” الأردنيون، تحت إسم “أبناء نداء التوحيد والجهاد”، من المقدسي وأبو قتادة وبايعوا “الدولة الإسلامية”.
في ضوء الخلاف السلفي الجهادي الطارئ، فإن من الحكمة أن يتبع النظام في الأردن إستراتيجية فرّق تسد. هذا النزاع الداخلي يقوّض التنسيق وقدرة الجماعات المتطرفة داخل المملكة ويحرم “الزرقاويين” الجدد من خطوط الدعم الجهادية التقليدية. وعلاوة على ذلك، يجب على الحكومة أن تتوخى الحذر في تطبيقها لقانون جديد وتوسعي لمكافحة الإرهاب. إن الإنفاذ المفرط أو التعسفي سوف يؤدي إلى إستعداء نشطاء المعارضة الإسلامية في الوقت الذي ينبغي على الحكومة الإستفادة من سبل التعامل مع مجموعة واسعة من الإسلاميين، بما في ذلك القادة الجهاديين الذين يرفضون العمل السلفي الجهادي المتشدّد داخل الأردن. وفي علامة إيجابية، تم إنشاء لجنة من سبعة أشخاص يمثلون الحركة الإسلامية في الأردن الشهر الفائت مهمتها تكمن في “التواصل المفتوح المباشر مع الحكومة” وتحقيق المطالب لا سيما تلك التي لها صلة بالعفو عن قادة سلفيين محدّدين.
إضطرابات على نطاق واسع: إن التهديدات على المدى الطويل للإستقرار في الأردن ليست أقل تحدياً من مشكلتها الأمنية المباشرة، بل تضيف إليها. إن منظمات مثل “الدولة الإسلامية” تأمل بأن تؤدي المشاعر الإنفصالية عن الدولة بين أعداد صغيرة من المتطرفين إلى توليد وإنشاء فروع جديدة وتسهيل التجنيد داخل البلاد. كما في حالة معان، التقشف الحكومي هو مشكلة صنعت على مدى سنوات عدة وتتطلب إستراتيجيات تنموية طويلة الأجل للتخفيف من المخاطر المرتبطة بها. بقدر ما تحتضن الحكومة الاردنية فكرة أن المشاكل الأمنية هي مشاكل حكم، فسوف تكون في وضع أفضل لتقريب المسافة بين الدولة والأجزاء المعادية في المجتمع.
حتى قبل الثورات والحروب الأهلية والحروب المجاورة، كانت التأكيدات بأن ضعف الأردن سيؤدي إلى عدم الإستقرار منتشرة. وإعتبر بعض الخبراء بأن المملكة الهاشمية “إلى الأبد على حافة الهاوية”. وخلال موجة الإنتفاضات في المنطقة، توقع العديد من المراقبين أن النظام الملكي الأردني قد يكون “حجر الدومينو المقبل للسقوط”. هذه المخاوف تؤكد إلى حد كبير إمكانية حدوث سخط محلي، تثيره أحياناً أزمات اللحظة السياسية، لتتجلّى في إندلاع حركة شعبية تهدّد النظام.
الواقع أن الحرب الأهلية في سوريا فاقمت هذا القلق فيما أثار مئات الآلاف من اللاجئين تحديات أمنية جديدة للمملكة. إن إدارة الأزمة الإنسانية، وشبكات التهريب، وأعمال الشغب في المخيمات، والقضايا الفورية الأخرى المتعلقة باللاجئين هي مرهقة حتى قبل النظر في الآثار الهيكلية في الإقتصاد والمجتمع الأردنيين. ومع إستمرار تدفق اللاجئين بلا هوادة، حيث بلغ عددهم الآن أكثر من 600،000 مع أكثر من 80 في المئة يعيشون في المجتمعات الأردنية خارج المخيمات، بدأت التوترات الطائفية في الظهور. إن تدهور الأوضاع في العراق يزيد من إحتمال حدوث موجة جديدة من اللاجئين التي ستجلب المزيد من القلق للبلاد التي تعاني من نقص الموارد. وكانت الإضطرابات الإقتصادية دائما نقطة إنطلاق لفتنة في البلاد، وبالتالي فإن الحكومة سوف تضطر إلى سن سياسات تخفف من الأثر الإقتصادي لل”الطوارئ” الذي يشعر به مواطنيها، خصوصاً أن البطالة آخذة في الإرتفاع. في هذا المجال تستطيع الراعية الرئيسية للمملكة الولايات المتحدة أن تساعد من خلال الإستمرار بإعطاء المنح المباشرة وحث الدول التي إلتزمت بتقديم الأموال لجهود الإغاثة للاجئين في الأردن لتحويل مدفوعاتها.
على المنحى الآخر، إن التكرار الحالي للأزمة الإسرائيلية الفلسطينية يشكّل أيضاً خطراً على الإستقرار الداخلي في الأردن. لقد شهدت المملكة إضطرابات كبيرة تزامناً مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، بما في ذلك أعمال شغب وإشتباكات داخل مخيمات اللاجئين العديدة. إن المسؤولين الأردنيين قلقون بحق من التوغل الإسرائيلي في غزة الذي يعتبرونه بمثابة أداة للتعبئة والتطرف. سيواصل الملك عبد الله الثاني التحدث بقوة ضد عملية “الجرف الصامد” الإسرائيلية وإظهار الدعم لمحمود عباس. طالما هذه الجولة من الصراع ما زالت مستمرة، فإن الحكومة في الأردن تواجه ضغوطاً داخلية صوتية وربما حازمة على نحو متزايد.
إذا وصلت الإضطرابات الداخلية إلى نقطة حرجة – سواء من هرج ومرج في معان أو مظاهرات ضد إسرائيل أو إحتجاجات سياسية وإقتصادية – سيجد الملك عبد الله أنه من المناسب إستخدام بطاقة لُعبت كثيراً في المملكة – إقالة رئيس الوزراء وحكومته. إن رئيس الحكومة عبد الله النسور، مثل رؤساء الوزراء قبله، يمكن أن يكون إمتصاصاً للصدمات الداخلية وتخفيف التوترات المحلية مؤقتاً. لكن هذا التكتيك يتطلب إستخدام الحذر لتجنب نتائج عكسية في هذا الوضع المتوتر بشكل خاص. هذه الخطوة لن تهدّئ المتطرفين، ولكن يمكن أن تسترضي قواعدهم المجتمعية الداعمة، والمعارضة التقليدية، وبعض الجالسين على الحياد. على هذا النحو، يمكن هذه الخطوة أن تنجح في مواجهة الإضطرابات الاجتماعية ولكن ليس تمرّد المتشدّدين.
والسؤال هنا: ما هي الخلاصة ؟
الراديكالي والسادي في أساليبه، يقوم تنظيم “الدولة الإسلامية” بإتخاذ خطوات عقلانية وفقاً للفرص والقيود التنظيمية؛ إن إستغلاله العسكري كان رد فعل على الفراغات في سلطة الدولة والحكم. كانت الحرب الأهلية في سوريا مناسَبة رئيسية لإحياء التنظيم بعدما ضعف جراء حملة مكافحة التمرد في 2006-2008 في العراق. لكن السياسة الطائفية والإستبدادية لنوري المالكي في العراق رفعت غطاء الشرعية عن الحكومة في المناطق ذات الغالبية السنية وسهّلت عودة “داعش” لقاعدتها الشرقية سابقاً. بغض النظر عن خطاب التنظيم، إن توغلاً مباشراً في الأردن من شأنه أن يتحدّى المنطق الإقليمي الحالي، خصوصاً وأنه يركّز حالياً على تعزيز المكاسب التي حققها في العراق وسوريا. لكن تنظيم “الدولة الإسلامية” قد فاجأ من قبل، فهو يملك موارد وافرة، والمنطق الإقليمي يمكن أن يفسح المجال لإستراتيجيات هجومية أخرى بما في ذلك، على سبيل المثال، هجمات رمزية لأغراض التوظيف الإعلامي والتجنيد. من جهتها تدرك الولايات المتحدة القيمة الجيو-إستراتيجية للأردن، وتتعاون معه منذ فترة طويلة بشأن المسائل الديبلوماسية والأمن؛ على هذا النحو، ينبغي أن تضمن عمان الدعم الأميركي غير المشروط والفوري في حالة حدوث مثل هذه الطوارئ المعادية.
يبقى، أن إستراتيجية تنظر إلى الداخل هي أكثر إلحاحاً بالنسبة إلى الأردن، والتي يمكن أن تسفر عن فوائد أمنية قصيرة وطويلة الأجل. لدى المملكة مؤسسات قوية، لكنها أيضاً إقصائية وتخفي مظالم محلية. إن إحراز تقدم في القضايا الأساسية للتمثيل والفرص – نوقشت طويلاً ولكن مع تقدم قليل ملموس – سيساهم في قدر من الإستقرار في المملكة كما الجيش والشرطة. يعرف المسؤولون والمحللون أن هذا يبدأ بتنفيذ الأجندة الوطنية لعام 2005، ولكن ما زالت المصالح الضيقة وعدم الرغبة في تقاسم السلطة يقفان في الطريق. الفشل المستمر لتحقيق ثمار مبادرات للتنمية والإصلاح أكثر شمولاً يضعف الثقة في الحكومة ويقوّي العناصر المخرّبة في المجتمع. إن القوانين والممارسات التي تقمع النشاط السياسي والتعبير تخلقان العداء بالضبط في الوقت الذي يجب أن تكون الحكومة توافقية تجاه الأصوات المعارضة المشروعة. من دون هذا التقدم، فإن الحكومة تخاطر بتهميش نفسها أكثر من الفصائل المتطرفة التي تحتاج إلى التهميش.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى