من الآبار: إستراتيجية حرارية للبنان

3agaqa 1بقلم البروفسور جاسم عجاقة*

لا يخفى على أحد أن الطاقة الأحفورية بدأت بالنضوب في معظم الدول النفطية. وهذا الأمر سيكون له تداعياته على الإقتصاد العالمي نظراً إلى تعلق هذا الأخير بالطاقة الأحفورية. وبدأت الإستراتيجيات الوطنية لكل دولة تتمحور حول كيفية ضمان إستدامة النمو الإقتصادي في ظل خطر إنخفاض كميات الطاقة الأحفورية.

والأرقام تُشير إلى أن ذروة الإنتاج ستحصل في العام 2036، ما يعني أن الإنتاج العالمي من الطاقة الأحفورية سيبدأ مرحلة إنخفاض ستؤدي، وبغياب أي طاقة بديلة، إلى رفع هيكلي في أسعار النفط والغاز والفحم. وهذا ما دفع العديد من الدول، وعلى رأسها الدول المُتطورة إقتصادياً والدول النامية التي تشهد إقتصاداتها نمواً كبيراً، إلى وضع إستراتيجيات لتنويع مصادر الطاقة وإشمالها الطاقات المُتجددة. وتمر الإستراتيجية الحرارية لكل الدول بتخفيض الإستهلاك للطاقة مع زيادة نسبة الكفاءة الحرارية للدورة الإقتصادية بكل أنواعها من معامل كهربائية، وشبكات التوزيع، والمصانع، وقطاع النقل مروراً بالإستهلاك المنزلي من برّادات وغساّلات وإضاءة وغيرها من الأدوات التي تستهلك الطاقة بشكل كبير.

لكن تخفيض إستهلاك الطاقة وترشيدها يتطلب تغييرات جذرية في طريقة إستهلاكها كما وفي طريقة إنتاجها. بمعنى أخر يتوجب الإستثمار بشكل كبير في البنية التحتية لكي تتمكن من إستيعاب أنواع عدة من الطاقة بما فيها الطاقة المتجدّدة والأحفورية. وهذا ما لا تستطيع فعله معظم الحكومات بسبب الكلفة العالية لهذه المشاريع. إلا أن الشراكة بين القطاعين العام والخاص تسمح من منطلق إمتلاك هذا الأخير الخبرة العملية والقدرة على تمويل المشاريع. وهذا ما يُلخص بالعبارة التالية إستخدام خبرة وقدرة التمويل لدى القطاع الخاص على المنصة العامة“.

لكن نضوب الطاقة الأحفورية ليس السبب الوحيد الذي يُبرّر تقليص الإستهلاك الحراري، فهناك القدرة التنافسية لإقتصاد البلد والتي تمرّ إلزامياً بتخفيض فاتورة الطاقة على الإقتصاد، والتي تُقاس بدورها بالناتج المحلي الإجمالي لكل دولار من النفط أو الغاز أو غيرهما. كما أن هناك التلوث البيئي وخصوصاً الإنبعاثات الحرارية التي تزيد من حرارة الكرة الأرضية وبالتالي تؤدي إلى إرتفاع مستوى مياه المحيطات. أضف إلى ذلك أنه وفي بعض الدول، كلبنان مثلاً، يأخذ التلوث منحى دراماتيكياً مع إنبعاثات لغازات سامة تُسبب بعض الأمراض المميتة كمرض السرطان وأمراض رئوية.

وفي لبنان، تعيش الخزينة تحت عجز مزمن من جراء قطاع الكهرباء، الذي يسبب أكثر من ثلثي العجز مباشرة (التحويلات من الخزينة إلى شركة كهرباء لبنان) وغير مباشرة (فوائد الديون التي تسببها شركة الكهرباء). وفي التفاصيل يتم تحويل ثلاثة آلاف مليار ليرة لبنانية سنوياً إلى مؤسسة كهرباء لبنان مع نفقات تفوق الخمسة آلاف مليار ليرة لبنانية، مما ينتج عنه عجزاً بقيمة ألفي مليار ليرة التي تُشكّل ثلث العجز في الموازنة. أضف إلى ذلك فوائد الديون المتراكمة نتيجة هذا العجز والتي تبلغ 36 مليار دولار أميركي متراكمة منذ العام 1992.

أيضاً نرى أن لبنان مصنفاً في المراتب الأولى إقليمياً من ناحية غلاء أسعار المشتقات النفطية. والسبب الرئيسي يعود إلى الفساد الذي يضرب هذا القطاع، والذي يتمثل بكارتيل نفطي يتحكم بإستيراد النفط ومحمي من قبل أصحاب النفوذ.

من هنا تظهر أهمية أخرى للإستراتيجية الحرارية والتي لا تنطبق إلا على الدول التي يتغلغل فيها الفساد، والتي تتمثل بمحاربة الفساد والسيطرة على النفقات غير المجدية وإستبدالها بإستثمارات من قبل القطاع الخاص عبر الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

كما نلاحظ أن لبنان يفتقر إلى الإستثمارات الحرارية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، بلغت نسبة الإستثمارات منذ العام 1992 حتى العام 2013، نحو 1.6 مليار دولار مقارنة بعجز متراكم يبلغ 36 مليار دولار في الفترة عينها. أيضاً يُمكن إعطاء مثال الخزّانات التي تحوي المشتقات النفطية والتي تنتشر على طول الساحل اللبناني بين الأبنية السكنية والتي تفتقر إلى الصيانة والتأهيل وذلك منذ عقود، مما يجعل من أقل حادث كارثة بشرية بسبب وجود هذه الخزانات بين الأبينة السكنية.

من هنا نرى أهمية كبيرة لإستراتيجية حرارية تتمحور حول :

تخفيض سعر الطاقة على الشركات والأسر لأن كلفة عالية تؤدي إلى تخفيض القدرة التنافسية للإقتصاد اللبناني؛

تنويع مصادر الطاقة وعدم حصرها بالنفط فقط (كما هي الحال في لبنان) لأن التعلق بالنفط فقط يجعل من لبنان عرضة لتقلبات الأسعار العالمية؛

زيادة الكفاءة الحرارية في الإنتاج والنقل والإستهلاك وذلك عبر إستثمارات يقوم بها القطاع الخاص مع الحكومة؛

إنشاء مخزون إستراتيجي من أنواع الطاقات التي يتم إختيارها لمنع أي صدمة على الإقتصاد اللبناني؛

تخفيض نسبة التلوث الناتجة عن إستهلاك الطاقة وخصوصاً تلك الناتجة من معامل توليد الكهرباء الحرارية والسيارات والمصانع.

هذه النقاط تُشكل أهداف الإستراتيجية التي بالطبع يجب ترجمتها إلى خطة عمل مع أولويات بحسب الحاجة. وإذا كان وزير الطاقة والمياه السابق قد أصدر ما يُسمّى بـ إستراتيجية القطاع الكهربائيوالتي تحتوي على الكثير من النقاط الإيجابية إلا أن هذا المستند يُمثل مجموعة مشاريع تهدف إلى تحسين وضع قطاع الكهرباء، وبالتالي يفتقد إلى البعد الإستراتيجي للقطاع الحراري، من هنا محدودية هذا المستند.

من دون أدنى شك، إن كل تأخير في وضع إستراتيجية حرارية للبنان، يُكلف الخزينة اللبنانية مبلغاً يفوق الـ 8 مليارات دولار سنوياً منها 5 مليارات دولار ثمن المشتقات النفطية المستوردة، والباقي على شكل هدر في الطاقة نتيجة إنعدام الكفاءة الحرارية.

  • خبير إقتصادي وإستراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى