لماذا وصل العراق إلى هنا ؟

 العراق/ موضوع الغلاف

بغداد – علي قاسم

قسِّم وأحكم للدفاع عن الإقتصاد السياسي الليبرالي الجديد

يتجه العراق أكثر فأكثر إلى حرب أهلية قد تؤدي في نهاية المطاف إلى تقسيمه، خصوصاً مع رفض رئيس الوزراء نوري المالكي التنحي وترشيح نفسه لمرة ثالثة كرئيس للحكومة على الرغم من  دعوة المرجع الشيعي الاعلى آية الله العظمى السيد علي السيستاني الى الإسراع في تأليف حكومة تحظى بـقبول وطني واسع“. كما زاد الطين بلّة إعلان رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني عن عزمه إجراء إستفتاء حول إستقلال الإقليم. التقرير التالي يلقي الضوء على جذور المشكلة في العراق ولماذا وصلت بلاد الرافدين إلى هنا.

يُمكن أن تُعزى جذور الأزمة الأخيرة في بلاد الرافدين إلى الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في العام 2003 والتدخل الغربي في سوريا. والذي يبدو أنه على المحك حالياً هو المخطط الليبرالي الجديد في العراق بعد الغزو، الذي يُدافَع عنه الآن في محاولة للتنسيق بين حكومة بغداد وداعميها الغربيين.

من المعلوم أن ما هو اليوم تنظيم داعش، الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام، كان تأسس كإمتياز لتنظيم القاعدةفي العراق كإستجابة مباشرة للغزو الذي قادته أميركا. لقد إزدهرت الجماعة الجهادية في الفراغ الأمني ​الذي ولّده ​الغزاة بتفكيك الأجهزة الأمنية العراقية. في ذلك الوقت، إنتقدت منظمة العفو الدولية واشنطن لعدم إستثمارها بشكل كاف في أمن المدنيين، في حين تحرس حقول النفط على مدار الساعة. وغنيٌّ عن القول، حسب معظم الخبراء، كان النفط الدافع الرئيسي وراء الغزو.

 إستتبع تفكيك البنية التحتية الأمنية العراقية إقالة وتسريح أكثر من 400.000 من الجنود ورجال الإستخبارات. بشحطة قلم واحدة، أقدم بول بريمر الذي عيَّنه الرئيس جورج بوش رئيساً للإدارة المدنية (حاكماً) للإشراف على إعادة اعمار العراق— على منح الجماعات الجهادية الأرض الخصبة المحفّزة والأساسية للتجنيد: “جيشمن الرجال العاطلين عن العمل الذين يعرفون جيداً إستخدام الأسلحة. كانت فقط مسألة وقت قبل أن تبدأ مختلف الجماعات المسلحة الإنتعاش والعيث بالبلاد ونشر الخراب والفوضى عبرها. من بين هذه كان تنظيم دولة العراق الإسلامية، قبل أن يتوسّع إلى سوريا، فائزاً بمعظم الأعمال الشائنة بإستهداف الشيعة.

  ثم، كما هو الحال الآن، كانت التصاميم الغربية بالنسبة إلى العراق في جذور المنطق الطائفي للعنف. من مكتبه في أحد قصور صدام حسين السابقة، أصدر بريمر قرارهالأول، والذي حظّر على جميع موظفي القطاع العام التابعين لحزب البعثمن العمل الحالي والمستقبلي الحكومي، بمن فيهم غالبية أُجبرت على حمل عضوية الحزب خوفاً.

على الرغم من أنهم كانوا ضحية مثل كل المجموعات الأخرى، كان أهل السنة مفضّلين ومميّزين من قبل نظام صدام، وبالتالي إستهدفوا بشكل غير متناسب في حملة إلغاء البعثية وإجتثاث البعثيين. في الواقع، وفقاً لمجموعة الأزمات الدولية، وهي مركز أبحاث مقره بروكسل، لقد عومل العرب السنّة (…) كممثلين لبنية دولة قمعية في حاجة إلى تفكيك الأمر الذي بعث رسالة بأن إجتثاث البعث كان بمثابة إلغاء وإجتثاث أهل السنة“.

حتى عند تجاهل قرار بريمر الأول، كان عراق ما بعد صدام طائفياً حسب التصميم. وكما تشرح مجموعة الأزمات الدولية، لقد فرضت الولايات المتحدة إجراءات أمنية مشدّدة في المناطق المأهولة بالسكان السنة، حتى تلك المعادية تقليدياً للنظام السابق، وبنت نظاماً سياسياً على أسس عرقية وطائفية، موضحةً بأن العرب السنة سيتم إنزالهمالى دور ثانوي“.

في قيامها بذلك، فإن أميركا قد إستنسخت أساساً التركة الإستعمارية البريطانية لحكم العراق بواسطة التقسيم الطائفي، مع نتائج يمكن التنبؤ بها. على الرغم من تحييدها للحلفاء المفيدين بغض النظر عن الطائفة، فإن الحكومات المتعاقبة ذات الغالبية الشيعية قسّمت الوظائف العامة والموارد على أساس عرقي طائفي. وفي الوقت عينه، ساهمت قوانين إجتثاث البعث المرنة في حرمان العديد من العائلات السنية من العمل والمعاشات التقاعدية، في حين إستخدمت قوانين مكافحة الإرهابالمرنة هي الأخرى على قدم المساواة للقضاء على المعارضين السياسيين للنظام الجديد، بمن فيهم شخصيات بارزة في الطائفة السنية.

على هذه الخلفية، نُظِّمت إحتجاجات سلمية في المناطق ذات الغالبية السنية في العام 2012 بعد إعتقال حراس يعملون مع رافي العيساوي، وهو سياسي سني بارز. وتألف المحتجون أساساً من الناس العاديين الذين يطالبون بظروف عيش كريم ووضع حدٍّ لإستبعاد أبناء الطائفة السنية من قبل الحكومة، وكذلك من الفصائل السياسية، بدءاً من المتشدّدين ووصولاً إلى الذين يسعون إلى تنازلات من بغداد.

  ردّت الحكومة على ذلك بعنف. وبعد أربعة أشهر بدأت المظاهرات، وداهمت قوات الأمن مخيم الإحتجاج في الحويجة (محافظة كركوك) وتركت عشرات القتلى وأكثر من 100 جريح. وتصاعد العنف، الأمر الذي مكّن الجماعات المسلحة وقوّاها، في المقام الأول داعش“. ولم يمضِ وقت طويل، حتى إرتفع القتال الطائفي إلى مستويات لم يشهدها منذ مستوى الذروة الذي وصله مع الولايات المتحدة في أثناء الإحتلال، وبلغ عدد القتلى الشهري ما يقرب من ألف شخص بحلول كانون الثاني (يناير) من هذا العام.

الصعود الصاروخي الأخير لتنظيم داعشفي العراق، بعدما كان تم إحتواؤه بشكل كبير في جميع الأنحاء في 2010، يرتبط إرتباطاً وثيقاً بموقعه المكتسب حديثاً في سوريا. هناك، قام بتدريب مقاتلين جدد وجمع الأسلحة المتطورة ووجد موارد مالية جديدة إلى حد لا يمكن تصوره من دون دعم غربي واضح.

 ويفيد بعض المعلومات، بأن بعض القوات من داعشتلقى تدريباً على أيدي مدربين أميركيين في قاعدة سرية في الأردن. وعلى الحدود التركية مع سوريا، نشرت منظمة حلف شمال الأطلسي ممثلة بألمانيا والولايات المتحدة وهولندا صواريخ باتريوت و1200 جندي، مما دفع أي طيار سوري التفكير مرتين قبل أن يغامر ويصبح في متناول صواريخ حلف شمال الاطلسي في شمال سوريا، حيث تقع معاقل داعشالرئيسية. وبقول بعض الخبراء بأن أميركا قد ساهمت عن قصد في إرسال شحنات أسلحة إلى المعارضة التي تم تسليم معظمها الى المتشددين الجهاديين الذين يقاتلون نظام الرئيس بشار الأسد.

ولكن عندما سيطر تنظيم داعشعلى مساحات واسعة من الأراضي في غرب العراق، أرسلت الإدارة الأميركية بسرعة طائرات الأباتشي وطائرات من دون طيار وصواريخ جحيم النار” (hellfire) إلى النظام العراقي المحاصر الذي كانوا وضعوا أسسه وركّبوه سابقاً. إن إستهداف الأسد كان جيداً وطلوباً، ولكن أن تحوّل أسلحتك ضد حليف للولايات المتحدة فتلك مسألة مختلفة تماماً. إن الرجل المناضل في هذه الحالة يمكن أن يصبح هو عينه إرهابياً.

للسبب عينه، خصصت الصحف في نيويورك ولندن وباريس عناوينها الرئيسية لداعشعندما عاد إلى الظهور في العراق، ولكنها كانت صامتة وغائبة إلى حد كبير عندما إرتكب المحرّرون الإرهابيونعينهم الفظائع والأعمال الوحشية في سوريا، التي تتراوح بين الإعدام للمدنيين، وفرض قوانين معادية للمرأة وتجنيد الأطفال.

  وبالمثل، إن الفظائع التي إرتكبها الجيش العراقي خلال محاربته الإرهابقد حُجبت عموماً عن جمهور وسائل الإعلام السائدة. عندما رفعت قوات تنظيم داعشلافتاتها السود والبيض في الفلوجة، قُصفت المدينة بشكل عشوائي من قبل القوات العراقية التي تسلّحها الولايات المتحدة. فقد قتلت صواريخ نار الجحيم” (hellfire) التي تم الحصول عليها حديثاً المدنيين العزَّل، بمن فيهم الأطفال. مع هذا في الاعتبار، فرّ نحو 500،000 شخص من الموصل بعدما سيطر عليها تنظيم داعش، خوفاً من رد الحكومة أكثر منه من التطرف الجهادي.

الواقع إن نجاح بضعة آلاف من قوات داعشفي مواجهة الجيش المدعوم من أميركا، يعتمد على دعم المقاتلين السنة في العراق كما يعود أيضاً إلى بعض التسامح والتساهل من جانب السكان السنة المدنيين. بسبب نفورهم وغضبهم بشكل متزايد من أعمال العنف التي قامت بها الحكومة أخيراً وفي بعض الحالات من محض الدفاع عن النفس ضد القسوة العشوائية، شعر جزء كبير من الطائفة السنية بأنه مضطر إلى إبرام صفقة خاسرة مع داعشضد الحكومة المركزية. إضافة إلى إستغلال الجهاد، فإن تقدم داعشبالتالي يمثل المعارضة الشعبية على نطاق واسع ضد النخبة الحاكمة بعدما أحبطت المقاومة السلمية.

من جهة أخرى كانت التقارير العامة تنشر عن كل شيء لكنها كانت غافلة تماماً عما سبق ذكره، مقزّمة القضية بتحويلها برمتها إلى الأحقاد القديمةالمزعومة بين الشيعة والسنة. مع ذلك، ينبغي أن يكون هناك حسّ سليم. إن الطائفية، في العراق وغيره، هي الوسيلة المستخدمة أو المُعَدّة سلفاً من النخبة لتوجيه المعارضة الشعبية بطريقة تحافظ على الوضع الراهن. في حالة العراق، هذا يرقى إلى الحفاظ على المصالح الغربية على حساب عامة الشعب.

كان المتظاهرون في تكريت والأنبار يطالبون بوضع حد للفساد والفقر والبطالة والنقص في المياه والكهرباء. هذه المظالم هي في جذور وصلب السخط الشعبي وبالتالي في نجاح وتقدم داعش“. على الرغم من أن الأمر فُصّل بلغة طائفية، فإنهم إستهدفوا البنية الإقتصادية لمرحلة ما بعد الغزو في العراق.

تحت الإحتلال العسكري الأميركي، حوَّلت قرارات بريمر السيئة السمعة العراق إلى ليبرالية جديدة، جنة السوق الحرة. القرار رقم 39 على سبيل المثال، سمح تصدير الأرباح غير المقيّدة (الحرة) والمعفاة من الضرائب من قبل الشركات ومنحها 40 سنة تراخيص ملكية. كما رفع القرار رقم 12 كل أشكال الحماية عن الصناعات العراقية.

في الفنادق الحصرية، جرى بيع الشركات العامة بأسعار زهيدة للمستثمرين الأجانب والنخبة الموالية للولايات المتحدة التي وصلت حديثاُ إلى البلاد. الأهم من ذلك، لقد تم خصخصة النفط العراقي وإستغلاله من قبل الشركات المتعددة الجنسيات من دون موافقة برلمانية. وتراكمت حصة الأسد من الأرباح لشركات النفط العملاقة الغربية.

من وجهة نظر واشنطن، لا يهم من هو رئيس وزراء العراق طالما أنه يتم الحفاظ على الترتيب الحالي. هذا هو السبب في أنه قد يكون من المفيد بالنسبة إلى الولايات المتحدة أن يحلّ مكان نوري المالكي مديرآخر.

إن عواقب الليبرالية الجديدة في العالم الثالث معروفة. الشركات متعددة الجنسيات تملك عملياً الإقتصاد، وتتقاسم جزءاً منها مع النخبة المحلية التي تضمن إستمرار السياسات الليبرالية الجديدة. الفتات التي تسقط على مائدة العشاء يتم قذفها إلى السكان، وهو ما يترجم إلى مظالم، على سبيل المثال، للمحتجين في غرب العراق.

بطبيعة الحال، ليس هناك شيء سنيبالنسبة إلى هذه المظالم، والتي تعذّب كل العراقيين العاديين وتحرّضهم بشكل منتظم. هذا ما يفسر لماذا أيَّد العديد من قادة الشيعة علناً إحتجاجات الغالبية السنية. الرد المعتاد من النخبة الحاكمة، مع ذلك، كان لإعادة صياغة ووصف الإحتجاجات كتهديد وجودي للشيعة، وذلك على حساب التضامن الطائفي الداخلي. الحقيقة إن الفرص لحركة موحّدة مناهضة، التي من المحتمل أن تهدّد النظام الحالي في العراق، تناقصت بشكل كبير.

في هذا السياق، لقد بالغت الحكومة المركزية بالنسبة إلى تهديد الإرهابوإختارت قبضة من حديد بدلاً من تدابير أمنية حقيقية. على سبيل المثال، قبل الانتخابات، كانت الفلوجةعلى إستعداد لطرد الجهاديين إذا ضمنت أنها لن تواجه هجمات النظام“. لكن رئيس الوزراء نوري المالكي لم يأمر قواته بالتراجع لأنه كان، رهن إعادة انتخابه على حملة مكافحة الإرهاب مع مظهر طائفي خام، تقول مجموعة الأزمات الدولية.

وبصرف النظر عن تعميق الإنقسامات الطائفية، فإن ما سبق ذكره قد وحّد الشيعة وراء حكومة الوضع الراهن، لصالح المالكي ومؤيديه الأجانب، الذين يشاطرونه خطاب الإرهاب هو علينا‘. حتى أعضاء في حركة مقتدى الصدر، القوة المناهضة للنظام الأكثر شعبية في الطائفة الشيعية، يتطوعون الآن للقتال إلى جانب القوات الحكومية، ليدافعوا عن غير قصد عن فقرهم.

وفي الوقت عينه، لا تزال وسائل الإعلام الغربية السائدة تقزّم الأزمة إلى رجال عرب ملتحينيحملون بنادق الكلاشنيكوف واللحى وينشرون الرعب في مستنقع الطائفية. يقوم المستشرق مرتاحاً بحجب ما يكمن وراء الإضطرابات، ما يجعل الإرهاب والعنف الطائفي ظاهرة طبيعيةللعالم العربي منفصلة تماماً عن التورط الغربي. وهكذا، في حين أن العراقيين، الذين ذُبحوا بالآلاف، يتم تصويرهم متعصبين طائفياً، يمكن للقوى العظمى العسكرية الغربية أن تدّعي البراءة مرة أخرى.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى