كيف دمّر نوري المالكي العراق ؟

عمّم الفساد ودعم المحسوبية والطائفية

منذ وقت ليس بعيداً، بدا الإستقرار والأمن في العراق ممكناً. لكن حالياً لم يعد هناك أي أمل في تحقيق ذلك بعدما بدّد فساد رئيس الحكومة نوري المالكي والمقربين منه الفرصة.

بغداد – أحمد العمري

عندما سقطت الموصل في أيدي الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام” (داعش) في 10 حزيران (يونيو) الفائت، أُصيب معظم العراقيين، مثل بقية العالم، بصدمة. ولما سقطت مدينتان أخريان بعد أيام لاحقة بحد أدنى من المقاومة من قوات الأمن العراقية، كانت الإستجابة رعباً. كيف في غضون بضعة أيام يمكن لمنظمة سرطانية متطرفة هزيمة قوات أمن درّبتها الولايات المتحدة في العراق، والتي تعد أكثر من مليون جندي وعامل في صفوفها وحصلت على ما يقرب من 100 مليار دولار من التمويل منذ العام 2006؟

الحقيقة هي، أن لا شيء يثير الدهشة حول التطورات في العراق في الوقت الراهن. ولم يكن أيّ من هذا مستبعداً.

قبل أربع سنوات، صار لدى العراق أخيراً وضعاً أمنياً جيداً نسبياً، وموازنة دولة سخية، وعلاقات إيجابية بين الطوائف العرقية والدينية المختلفة في البلاد بعد سنوات من الفوضى عقب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في العام 2003. ولكن النخب السياسية في العراق أهدرت هذه الفرصة. فسادها وجوعها إلى السلطة صرفاها عن الإهتمام ومواجهة الأزمات الناشئة مثل صعود تنظيم داعش“- الأمر الذي وضع الأسس لما يحدث الآن.

بحلول العام 2008، لم تعد الميليشيات التابعة لتنظيم القاعدةوفرق الموت تتدفق إلى البلاد من سامراء إلى الموصل كما كان الحال قبل عامين فقط. لقد توصل مسؤولون أميركيون وأجهزة أمن الدولة العراقية والقوات القبلية وبعض الجماعات المسلحة إلى إتفاق للعمل معاً ضد الجماعات الأكثر تطرفاً التي تروِّع سكان العراق. وإمتلآت الطرق الرئيسية في تلك المناطق بأعلام مجالس الصحوة، وقرر المقاتلون المحليون حماية العراقيين العاديين من تنظيم القاعدة“. في الوقت المناسب، تم نشر الجيش العراقي في جميع المدن الكبرى حيث أقام نقاط تفتيش كل بضعة أميال.

على الرغم من أن البطالة، والفساد، وغياب الخدمات العامة كانت لا تزال مشاكل رئيسية، فإن العراقيين العاديين في الأماكن التي كان يهيمن عليها تنظيم القاعدةتنفسوا معاً أخيراً الصعداء. يمكنهم العودة إلى العمل، وإستئناف دراستهم، والإسترخاء في الهواء الطلق من دون خوف من إطلاق النار في الخلفية. إصطحبت الأسر أطفالها إلى النهر، حيث سبحوا وتنزهوا، بينما قام الشبان برحلات منتظمة إلى كركوك أو بغداد لتخزين البيرة المحلية العراقية.

كان هناك أيضاً في ذلك الوقت إجماع على أن الجيش العراقي يتألف من الشرفاء والجنود الوطنيين الذين عاملوا السكان المحليين بإحترام. ونما الشعب عدائياً تجاه تنظيم القاعدةوغيره من الجماعات المتمردة ووقف إلى جانب الدولة وجيشها. وقد خيّمت أجواء مريحة على المدن الصغيرة مثل تكريت، وإختلط الناس العاديون عرضاً مع الجنود والشرطة، وكانوا يتبادلون النكات والمجاملات.

كان مناخاً جديداً وكان مليئاً بالوعود.

كان العراقيون يطالبون من ساستهم أكثر من مجرد البقاء على قيد الحياة. أنشأ رئيس الوزراء نوري المالكي تحالفاً سياسياً جديداً، تحالف دولة القانون، والذي أطلق من خلاله برنامج حملته الإنتخابية الذي يقوم على إعادة بناء مؤسسات دولة قوية، والحدّ من الفساد، وتوفير الخدمات الملائمة للشعب. “تحالف العراقية، إئتلاف واسع آخر الذي شكل حديثاً آخر، دعم برنامجاً مماثلاً. لقد بدا في حينه أن الآفاق المحيّرة لإنشاء بيئة سياسية جديدة وإقامة دولة مستقرة هي في متناول اليد.

لكن، لم يحدث ذلك أبداً. بدلاً من توطيد هذه المكاسب، بدأت عوامل عدة تعمل ضد اللحمة الوطنية العراقية في أوائل العام 2010. لقد إستخدم المالكي قوانين إجتثاث البعث، التي سُنّت للحفاظ على أعضاء نظام صدام حسين خارج الدولة والحكومة، لإستهداف معارضيه ولكن ليس العديد من حلفائه، الذين كانوا أيضاً أعضاء بارزين في حزب البعث. وتحوّلت عملية تشكيل الحكومة في 2010 إلى أن تكون فرصة أخرى للسياسيين من جميع المشارب لمنح أنفسهم المناصب العليا التي يمكن أن تُستخدم لنهب الدولة. عندما نزل عشرات الآلاف من العراقيين الى الشوارع في شباط (فبراير) 2011 إحتجاجاً على الفساد، وُصفوا بالإرهابيين وتعرضوا إلى هجوم وضرب على أيدي قوات الأمن والبلطجية المتعاقدين، الأمر الذي أدّى إلى قتل العشرات وإعتقال الآلاف وتعريض بعضهم للتعذيب حتى تلاشت الإحتجاجات. وفي الوقت عينه، على الرغم من أن الجماعات الإرهابية لم تكن تعمل بشكل علني كما من قبل، واصلت قتل المئات من المدنيين في كل شهر، وخصوصا في بغداد، مما حرم العراقيون في أجزاء عديدة من البلاد حتى من فترة وجيزة من الحياة الطبيعية.

في ذلك الوقت، بدأ المالكي الإشارة الى نفسه علناً بأنه القائد العسكري البارز في العراق. وعندما لم تتوافق نتائج إنتخابات 2010 مع توقعاته، طالب بإعادة فرز الأصوات بصفته قائداً عاماً للقوات المسلحة“. وعندما أقال كبار مسؤولي مكافحة الفساد من مناصبهم، تذرّع مرة أخرى بشكل غير لائق بمؤهلاته العسكرية. كان يتحدث إلى الضباط على هواتفهم النقّالة لمطالبتهم بتنفيذ إجراءات محدّدة أو أن يتم القبض عليهم، متجاوزاً لنظام سلسلة الأوامر. بعد تشكيل الحكومة الجديدة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010، رفض تعيين وزيري الداخلية والدفاع، مفضلاً ملء المنصبين معاً بنفسه. كما عيَّن كبار القادة العسكريين مباشرة، بدلاً من الحصول على موافقة البرلمان على النحو المطلوب في الدستور.

كان هناك أيضاً الكثير من الحديث عن القوات الخاصةالتابعة لرئيس الوزراء، بما في ذلك قيادة عمليات بغداد. وألقي القبض على مجموعة من الشبان في موجات من الحملات، وغالباً في منتصف الليل، حيث تمّ نقلهم إلى سجون سرية، وغالباً ما غابت أخبار هؤلاء إلى الأبد. وإستهدف جميع ضباط الجيش السابقين وأعضاء في مجالس الصحوة، والناشطين الذين إشتكوا كثيراً من الفساد، والعراقيين الملتزمين الذين يصلّون قليلاً في كثير من الأحيان في المساجد المحلية. وكثيرون منهم لم يتهموا أبداً بأي جريمة أو يمثلوا أمام قاض. وبحجة محاولة وقف التفجيرات العادية التي تعاني منها بغداد، تعرّض هؤلاء الأفراد للإيذاء والتعسّف الشديد.

بحلول العام 2012، كانت الأجواء في تكريت تغيّرت. المزح مع رجال الشرطة والجيش قد إنتهى. كان أهلها يبحثون بإستماتة عن أقارب محتجزين، ولكن كان من المستحيل تقريباً الحصول على أية معلومات حتى بواسطة الرجال الذين لهم إتصالات وثيقة بالدولة. علاقة الثقة التي كان بناها الجيش مع السكان عامة خُرّبت وفُقدت بسبب أنشطة القوات الخاصة“.

بعد ذلك كان هناك الفساد. قطاع الأمن، الذي يتمتع بموازنة سنوية أكبر من موازنات وزارات التعليم والصحة والبيئة مجتمعة، كان يخضع إلى أدنى حدًّ من المراقبة. كانت الرواتب الشهرية تُدفع إلى الجنود من دون واجب الحضور إلى العمل. وتم شراء معدات مستعملة بعضها مصاب بأعطال بأسعار مبالغ فيها بإستخدام معايير غامضة. وقد منح تمويل لدورات تدريبية على الورق ولكن لم تجرِ قط على أرض الواقع. وتم تسييس التعيينات. ضباط مقربون من مكتب رئيس الوزراء الذين فشلوا في التحقيق وإيجاد أدلة على الهجمات الإرهابية لم يتعرضوا أبداً للمساءلة عن أفعالهم. حتى أعظم وأبشع المهمات الفاشلة، بما في ذلك سلبية الجيش في مواجهة هجمات منتظمة ضد المسيحيين في نينوى على مدى سنين عدة، فلت المسؤولون عنها من العقاب. كانت الروح المعنوية بين الضباط أصحاب الرتب العالية وضباط الصف والأفراد منخفضة، وكان هناك القليل جداً من الرغبة في تحمل المخاطر نيابة عن النخب السياسية التي كان يُنظر إليها على أنها فاسدة بشكل واسع وعميق.

على هذه الخلفية، فإن العديد من العصابات المسلحة التي روّعت السكان المحليين بين 2005 و2007 وجدت الآن فرصتها للعودة إلى الظهور. فهي لا تزال لا تستطيع العمل في وضح النهار، لكنها فهمت أن قوات الأمن يمكن التلاعب بها، لذا قامت في تحديد الحلقة الأضعف في كل مؤسسة. أولئك الضباط الذين يمكن بسهولة رشوتهم أو الذين كانوا على استعداد للمشاركة في أنشطة غير مشروعة ضمتهم إلى عملياتها؛ أولئك الذين يمكن أن يتأثروا بالترهيب هددتهم؛ وأولئك الذين كانوا الأكثر إحتمالاً بمقاومة عملياتها إستهدفتهم في منازلهم، لترويع أسرهم.

بحلول العام 2012، كانت الجماعات المسلحة مرة أخرى تطلق هجمات منظمة ومنسقة بشكل متصاعد ضد المؤسسات الرسمية الرئيسية في وضح النهار. مع مرور الوقت، أصبحت الهجمات متكرّرة بحيث إستُهدف ضباط كثر يومياً في تكريت وحدها. وهناك إتجاه واضح كان ينمو، ولم تفعل الحكومة شيئاً للتصدي له. تحوّلت المدينة فجأة إلى مكان خطر جداً حتى بالنسبة إلى زيارة عائلية قصيرة، وعاد الناس العاديون إلى حجز أنفسهم مرة أخرى داخل منازلهم.

إن العاصفة التي فجّرت في الواقع الوضع الأمني بعيداً قد هبّت من الصراع في سوريا الذي وفّر لتنظيم القاعدةوالتنظيمات الجهادية الأخرى فرصة جديدة للإنتعاش. بعد وقت قصير من بدء الحرب الأهلية في بلاد الشام في 2011، أعاد مقاتلون مرتبطون بالقاعدة، الذين إضطروا إلى وقف عملياتهم في العراق في العام 2008، التعبئة وحوّلوا إسمهم إلى الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام” (داعش). وقد ظلوا نشطاء بشكل خاص في الموصل، حيث أداروا عملية إبتزاز لا تصدّق وإستمروا في ضرب القوات الحكومية بقساوة.

عندما صعّد تنظيم داعشمعركته مع هجوم كامل على الموصل في الشهر الفائت، إنكشفت كل أمراض الدولة العراقية معاً في عاصفة من الفساد وعدم الكفاءة. وهذا ترك المدينة من دون دفاع تقريباً. وأفاد أناس وجنود في الموصل أن توافقاً تشكّل على مدى الأيام القليلة الماضية بأمر أعضاء من رتب عسكرية عالية وضباط صف للتخلي عن مناصبهم والهرب إما قبل فترة وجيزة أو مع بداية هجوم داعش“. لكن لا يزال هناك سر كبير لماذا حدث هذا الإنسحاب في المقام الأول. لقد سرت شائعات متعددة. وأطلق المالكي وحلفاؤه إتهام غريب يفيد بأن حكومة إقليم كردستان تواطأت مع داعشضد الدولة العراقية.

لقد إستخدم المالكي قوانين إجتثاث البعثلإستهداف معارضيه ولكن ليس العديد من حلفائه، الذين كانوا أيضاً أعضاء بارزين في حزب البعث. وتحوّلت عملية تشكيل الحكومة في 2010 إلى أن تكون فرصة أخرى للسياسيين من جميع المشارب لمنح أنفسهم المناصب العليا التي يمكن أن تُستخدم لنهب الدولة

وقد تأكد عدم كفاءة قوات الأمن العراقية أكثر في الأيام التي تلت سقوط الموصل. فيما بدأ الجهاديون المضي قدماً، توقّع المقيمون في تكريت، على بعد حوالي 130 ميلاً إلى الجنوب، أن يجتاح داعشمدينتهم في أي لحظة. أي شخص كان موجوداً في تكريت كان يعرف أنه سيكون من السهل للغاية درء غزو مسلحي داعش، لأن هناك أساساً طريقاً وحيداً يمر عبر وسط المدينة. كل ما كان لازماً لحمايتها هو وضع عدد قليل من العربات المدرعة، مع دعم جوي محدود، على طول الطريق السريع. ولكن لم يكن هناك أي رد فعل من بغداد، التي لا تبعد سوى مجرد ساعتين بالسيارة. لقد تمت السيطرة على تكريت في بضع ساعات، وإحتجز مئات من المجندين في الجيش كرهائن. وبعدما تم التخلي عنهم من قبل حكومتهم، تم إعدام الكثير من هؤلاء الجنود كما يبدو.

إن فشل الطبقة الحاكمة في العراق وقوات الإحتلال الأميركي – في إنشاء مؤسسة وطنية واحدة مستقرة سيطارد البلاد لسنوات آتية عديدة. في اليوم الذي سقطت تكريت، تغيّر العراق فجأة: الميليشيات العنيفة المدعومة من الحكومة سُمح لها فجأة بالعمل بشكل علني في بغداد وبعقوبة، وبإقامة نقاط تفتيش وتنظيم الأمن من دون أي رقابة. جاء قادة كبار من العسكريين الإيرانيين إلى بغداد للمساعدة في تنظيم الدفاع في المدينة. وأخيراً، في محاولة لحشد قاعدته ضد داعش، دعا المالكي المتطوعين لحمل السلاح ضد المتشددين والمتطرفين متجاهلاً حقيقة أن مشكلة الجيش لم تكن أبداً النقص في عديده.

كان أوضح قبول ممكن بالفشل. لقد أدار المالكي شؤون قوات الأمن الصغيرة والكبيرة لسنوات، وبعد فترة وجيزة لم يعد يثق بها، لقد إختار بدلاً من ذلك دعوة ميليشيات مدعومة من الخارج ومتطوعين غير مدربين للدفاع عن العاصمة. وفي الوقت عينه، وبعد أسابيع عدة على سقوط تكريت، لم تفعل بغداد شيئاً لتحريرها من داعش، متخلية عن مواطنيها حيث تركتهم لمصيرهم والسماح للمتشددين بتعزيز مواقعهم من دون تدخل.

لقد أفادت الولايات المتحدة بوضوح أن واشنطن تنظر الآن إلى حكومة المالكي كجزء من المشكلة. “يجب على الزعماء العراقيين الترفع عن خلافاتهم والتوصل معاً إلى [صياغة] خطة سياسية لمستقبل العراق، قال الرئيس باراك أوباما في مؤتمر صحافي في الشهر الفائت. وقام على الأثر بإرسال وزير الخارجية جون كيري بزيارة الى الشرق الاوسط للمساعدة في تحقيق المصالحة السياسية بين الفصائل العراقية الذي قام بزبارته وحاول وفشل في تحقيقها. ولكن يبقى أن الضرر الذي أحدثه رئيس الوزراء ورفاقه في الجسم العراقي لا يمكن أن يعالج بسهولة وسوف تكون له أثار في مستقبل العراق السياسي. والنتيجة لسلسلة الأخطاء السهلة التي لا تنتهي في بلاد الرافدين يكاد يكون من المؤكد أنها ستكون مدناً مدمّرة أكثر، ومئات الآلاف من المشردين، والمزيد من الضرر للشعور الشعبي من المجتمع. أيّ حل هناك لمنع هذه المأساة، إذا كانت الطبقة السياسية العراقية لا تعترف بأصغر الأخطاء التي إقترفتها؟


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى