هل يَتَحوَّل الصيفُ الحار في العراق إلى صيفِ غضب؟

مع وصول فصل الصيف مع حرارته المرتفعة إلى العراق، تتأهب حكومة بغداد لمواجهة الإستياء الشعبي المُحتمَل في جنوب البلاد ووسطها، بسبب النقص في الكهرباء والخدمات الأساسية والمواد لأولية الأخرى، كما حدث في صيف العام الفائت.

وحدات الحشد الشعبي: وضعها يقلق الكثيرين في العراق

بقلم ريناد منصور*

على مدار فصول الصيف القليلة الماضية، حيث كانت تلتقي الحرارة الشديدة مع استياء شعبي متزايد من عجز الحكومة عن توفير الخدمات الأساسية وفرص العمل، خرج العراقيون إلى الشوارع للإحتجاج. حدثت هذه المظاهرات بشكل أساسي في جنوب العراق وفي بغداد، حيث تم احتواء العنف نسبياً منذ سنوات عدة حتى الآن. بالنسبة إلى العديد من العراقيين، الإحتجاج هو الصوت الوحيد الباقي لهم. إنهم ينظرون إلى العملية السياسية والإنتخابية الرسمية على أنها مجرد تعزيز للنُخَب نفسها التي فشلت مراراً وتكراراً منذ الغزو الأميركي في العام 2003 الذي أطاح صدام حسين.
غير أن احتجاجات الصيف الفائت في البصرة غيّرت ديناميات هذه الإحتجاجات العامة. على عكس السنوات السابقة، قام المُحتجّون بمسيرة ضد جميع جوانب الطيف السياسي العراقي – بما في ذلك الجماعات شبه العسكرية الشيعية المدعومة من الدولة والمعروفة باسم “وحدات الحشد الشعبي”، والتي كانت تُعتبر سابقاً منظمة “مُقدّسة” في البصرة لمشاركتها الحاسمة في تحرير العراق من تنظيم “الدولة الإسلامية”. لقد جاء حوالي ثلث مقاتلي الحشد الشعبي من البصرة. على عكس السنوات السابقة، لقد عارض المتظاهرون في العام 2018 دعوات من رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، الذي كان دافع عن حركة الإحتجاج في الماضي لكنه كان في حينه يقوم بالمشاركة في تشكيل الحكومة، بعد أن فاز ائتلافه السياسي في الانتخابات البرلمانية للعام 2018. والأهم من ذلك أن الإحتجاجات تحوّلت إلى العنف، حيث تم إحراق مكاتب الأحزاب السياسية وقتل ما لا يقل عن 23 متظاهراً في اشتباكات مع قوات الأمن.
هذا العنف لم ينهِ الإحتجاجات فحسب؛ لقد غيّر طبيعتها بزيادة عنصر الخوف. الآن، يتعيّن على المُحتجّين أن يُقرروا ما إذا كانوا مستعدين للمخاطرة بحياتهم في النزول إلى الشوارع، وعلى الأحزاب السياسية القوية والجماعات المسلحة أن تقرر مدى استخدامها للعنف لقمع المتظاهرين.
مع اقتراب هذا الصيف، حاولت حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الجديدة، التي تم انتخابها في الخريف الفائت ولكن لم يتم تشكيلها بالكامل، وقف الإضطرابات من خلال تقديم وعود بإجراء إصلاحات. ومع ذلك، فإن كلاً من حكومته الجديدة، التي لا تزال غير مُزوَّدة بالموظفين بالكامل، والهيئة التشريعية الجديدة (البرلمان)، كانتا بطيئتين في التنفيذ. وعبد المهدي، على الرغم من تعهداته بأن يكون نوعاً مختلفاً عن رؤساء الحكومات السابقين، إلّا أنه كان مألوفاً للغاية، حيث ركّز على استرضاء المصالح السياسية المتنافسة في بغداد، وتقسيم الفطيرة الوطنية بين النخبة الراسخة المعتادة. في الشهر الماضي، بعد أكثر من عام على الإنتخابات، تمكّن عبد المهدي أخيراً من تعيين وزيرين للدفاع والداخلية. لكن منصب وزير العدل لا يزال شاغراً، والأهم من ذلك أن هناك وزيرة واحدة فقط في حكومته.
الكثير من الحقائق التي أدّت إلى الإحتجاجات في الصيف الماضي ما زال موجوداً ولم يختفِ. لا تزال غالبية العراقيين تفتقر إلى الخدمات الأساسية الكافية، ولا تزال مُهَمشّة من قبل حكومة لا تُمثّلها حقاً.
وقد أشّر انخفاض عدد الناخبين واشتداد الإحتجاجات في العام الفائت إلى دعوةٍ لتغيير جذري لهذا الوضع الراهن المُعَطّل بعد العام 2003. رداً على ذلك، ركّزت الطبقة السياسية في بغداد على تشكيل حكومة جديدة تضم ما يسمى بوزراء تكنوقراط، الذين تم اختيارهم على أساس الجدارة بدلاً من الإنتماء الحزبي السياسي. كانت الفكرة أن هؤلاء التكنوقراط فهموا ما يجب القيام به ولن يخدموا ببساطة المصالح الفاسدة في كثير من الأحيان لأحزابهم. بالنسبة إلى العديد من المراقبين، بدا ذلك مساراً إيجابياً للعراق.
ولكن بعد أكثر من عام، لم يؤدِّ هذا النهج من أعلى إلى أسفل إلى إصلاح حقيقي. بدلاً من ذلك، يشكو العديد من الوزراء من أنهم لا يستطيعون تنفيذ جداول أعمالهم، نظراً إلى أنهم يفتقرون إلى دعمِ حزبٍ سياسي، ويتم تقويضهم وعرقلتهم من قبل المُعَيَّنين الحزبيين في وزاراتهم. داخل كل وزارة، لا يزال هناك مئات عدة من الوكلاء المزعومين يخدمون مصالح الأحزاب السياسية. في حين وعدت حكومة عبد المهدي بإنهاء هذا النظام، الذي يُمثّل السلطة المطلقة التي تمارسها الأحزاب السياسية في العراق، يواصل البرلمان تأخير أي حركة لإصلاحه.
نتيجة لذلك، لا يتمتع وزراء حكومة عبد المهدي التكنوقراطيين بالضرورة بالقوة أو السلطة المطلوبة، حيث انتهى بهم المطاف في بعض الحالات إلى العمل كمسؤولين صوريين. “لقد أصبحت اجتماعات مجلس الوزراء مُملّة”، كما أخبرني موظف حكومي قديم في بغداد. “في الماضي، كان هناك نقاش حول الإقتراحات. لكن الآن، نادراً ما يناقش الوزراء الإقتراحات. إنهم فقط يصوّتون جميعاً لصالح ما تمت الموافقة عليه”.
وهناك قضية سياسية رئيسة أخرى تكمن في إصلاح قطاع الأمن ومستقبل وحدات “الحشد الشعبي” التي هي منظمة شاملة تضم حوالي 50 مجموعة منذ تشكيلها رسمياً برئاسة رئيس الوزراء نوري المالكي في العام 2014 ، بعد انهيار الجيش العراقي في مواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية”. ومع ذلك، فقد أعرب نشطاء المجتمع المدني في العام الفائت عن قلقهم من قيام بعض الجماعات المسلحة داخل “الحشد الشعبي” بإطلاق النار على زملائهم المتظاهرين وقتلهم في الشوارع. كما ألقى الناشطون باللوم على وحدات “الحشد الشعبي” بالنسبة إلى سلسلة من الإغتيالات ضد نشطاء المجتمع المدني، وبخاصة النساء، في جنوب ووسط العراق. وتوافق قيادة الحشد الشعبي، بقيادة أبو مهدي المهندس، على وجود فصائل سيئة داخل المنظمة تحتاج إلى معالجة. كان هدف المهندس هو توحيد المنظمة مع التركيز على مركزية هيكل القيادة.
إستجابةً للمخاوف العامة المحيطة بوحدات الحشد الشعبي، أصدر رئيس الوزراء عبد المهدي مرسوماً في الأول من تموز (يوليو) لإدماج هذه الجماعات شبه العسكرية رسمياً في الدولة. وبموجب خطته، ستخضع المجموعات لسيطرة هيئة الحشد الشعبي، التي تجلس داخل مجلس الأمن القومي في مكتب رئيس الوزراء. ويدعو المرسوم إلى إنهاء أسماء المجموعات الفردية وتوحيد شبكة فضفاضة من القوات شبه العسكرية.
ومع ذلك، فإن وحدات الحشد الشعبي هي أصلاً منظمة حكومية رسمية، وفقاً لمرسوم سابق أصدره رئيس الوزراء في ذلك الوقت حيدر العبادي في شباط (فبراير) 2016. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2016، أقرّ البرلمان العراقي أيضاً قانوناً يعترف بوحدات الحشد الشعبي كمنظمة حكومية مستقلة تابعة لإشراف مكتب رئيس الوزراء. وبدلاً من دمجها فعلياً في الدولة، فإن هذا المرسوم الجديد يرتبط بمحاولة قيادة الحشد الشعبي لتحويل المنظمة من قوة في فترة الحرب إلى قوة في فترة السلم. للقيام بذلك، يحتاج المهندس إلى معالجة صراع داخلي على السلطة بين مختلف قادة الحشد الشعبي.
لمتابعة توحيد القوة، يسعى المهندس إلى العمل مع رئيس الحكومة ومكتبه. لقد وصل عبد المهدي إلى السلطة إلى حدٍّ كبير بفضل دعم الكتلة السياسية لوحدات الحشد الشعبي “إئتلاف الفتح”. منذ ذلك الحين، عمل المهندس مع موظفي الخدمة المدنية لكسب النفوذ داخل حكومة عبد المهدي. لذا، فإن المرسوم الجديد يخدم خطة المهندس للحشد الشعبي، حتى لو كانت المؤسسة خاضعة إسمياً لسيطرة الدولة المباشرة.
بالنظر إلى هذا الواقع، لا يعتقد الكثير من العراقيين أن الحكومة الجديدة قادرة أو مستعدة لمحاربة الفساد أو إصلاح القطاع الأمني، حيث لا تزال غالبيتهم تنظر إلى عبد مهدي على أنه ضعيف أمام مختلف الأحزاب السياسية التي جعلته رئيساً للوزراء. ولكن هل سينزل العراقيون إلى الشوارع للإحتجاج مرة أخرى؟ أم أن عنف العام الفائت قد خلق شعوراً بالخوف الذي يُمكن أن يردعهم؟ يبقى هذا السؤال مطروحاً لأن الإجابة عنه لم تتم من اضطرابات الصيف الماضي. أخبرني العديد من الناشطين، من البصرة إلى الموصل، أنهم يخشون الآن من الطريقة التي ستستجيب بها القوات شبه العسكرية المُعترَف بها من الدولة بالنسبة إلى المظاهرات. ولكن حتى مع هذا الخوف، ما زال الكثيرون منهم يشعرون بأن الإحتجاجات هي الطريقة الوحيدة التي ستوصل لهم صوتهم إلى مَن يهمه الأمر.

• ريناد منصور هو زميل باحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز الأبحاث “تشاتام هاوس”، وزميل زائر في معهد الدراسات الإقليمية والدولية في الجامعة الأميركية في السليمانية – العراق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى