موسكو تبحث عن مستقبلها في مستقبل السودان!

بعدما توصُّلت الحكومة والمعارضة في السودان إلى اتفاق بشأن الإنتقال السياسي، تسعى موسكو إلى الحفاظ على نفوذها السياسي والاقتصادي في تلك البلاد.

فلاديمير بوتين وعمر البشير: في هذا اللقاء الأخير طلب الثاني من الأول إقامة قاعدة عسكرية في السودان

سامويل راماني*

إنضمت روسيا، في الرابع من حزيران (يونيو) الفائت، إلى الصين في تعطيل إقرار مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يُدين قتل الحكومة العسكرية السودانية للمدنيين ويُناشد القوى العالمية الدعوة إلى وقفٍ فوري للعنف. ومن أجل تبرير موقف موسكو، وصف نائب المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة، ديمتري بوليانسكي، مشروع القرار بأنه “بيان غير متوازن من شأنه أن يتسبّب بإفساد الوضع”. وبعد يومَين، دعم نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف كلام بوليانسكي مُضيفاً أن موسكو تعارض “التدخل الخارجي في السودان”.
يُظهر الدفاع الروسي المُستميت عن المجلس العسكري الإنتقالي في السودان داخل مجلس الأمن الدولي، الأهمية المتزايدة التي يكتسيها الإصطفاف الروسي إلى جانب الخرطوم إنطلاقاً من مصالح موسكو الإقتصادية وتطلعاتها الجيوسياسية في أفريقيا جنوب الصحراء. وعلى ضوء الأهمية المتنامية للشراكة بين موسكو والخرطوم، عمدت روسيا إلى نزع الشرعية عن المعارضة السودانية من خلال بذل سلسلة من الجهود تمثّلت في شن حملة تضليل متطورة، وإرسال مجموعة من شركات التعاقد العسكرية الخاصة لتدريب الضباط العسكريين السودانيين، وإقامة شراكة مع الحلفاء الإقليميين الأقرب إلى المجلس العسكري الانتقالي لقمع التظاهرات. وفي المدى الطويل، تأمل روسيا بترسيخ نفوذ المجلس العسكري على العملية الإنتقالية في البلاد، فيما تتملّص من الإتهامات الموجّهة إليها بأنها حرّضت المجلس على اللجوء إلى القمع الذي تسبّب حتى تاريخه بمقتل ما لا يقل عن 129 شخصاً.
وعلى الرغم من أن موجبات جيوسياسية متعددة تدفع بروسيا إلى دعم المجلس العسكري الإنتقالي، تكتسي العقود البارزة التي وقّعتها روسيا مع الحكومة السودانية وخططها لبناء قاعدة على البحر الأحمر أهمية خاصة. فقد وافق المجلس العسكري الانتقالي على الإبقاء على العقود الروسية الضخمة في قطاعات الدفاع والتعدين والطاقة في السودان، علماً بأن هذه العقود توسّعت إلى حد كبير في الأعوام الأخيرة. وفقاً لمعهد استوكهولم الدولي للأبحاث عن السلام، تأتي السودان في المرتبة الثانية في قائمة الدول الأفريقية التي تشتري الأسلحة الروسية، بعد الجزائر، ويُشار في هذا الصدد إلى أنها اشترت 50 في المئة من أسلحتها من روسيا في العام 2017. وحصلت شركة التعدين الروسية “أم إنفست” ( M Invest) على وصول تفضيلي إلى احتياطات الذهب السودانية في العام 2017، بعد انعقاد اجتماع بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السابق عمر البشير في سوشي. وبما أن البنى التحتية السودانية تساهم في نقل النفط من جنوب السودان إلى الأسواق العالمية، أعربت موسكو عن اهتمامها ببناء معمل لتكرير النفط في السودان بغية زيادة أرباحها من صفقات التنقيب عن النفط في جنوب البلاد.
وإلى جانب هذه العقود، تتطلع روسيا إلى بناء قاعدة في الساحل السوداني المطل على البحر الأحمر لزيادة تأثيرها في القرن الأفريقي وتوسيع حضورها في مضيق باب المندب. وكان الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير قد طلب من روسيا النظر في بناء قاعدة على البحر الأحمر في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، بسبب المخاوف من تدخلات أميركية مناوئة في الشؤون الداخلية السودانية. وقد تلقّفت روسيا هذه الدعوة بحماسة شديدة لأنها تعتبر أن تردّي علاقات الحكومة السودانية مع الولايات المتحدة يعزّز من حظوظها للحصول على تفويض من حكومة البلاد من أجل بناء قاعدة في الساحل السوداني المطل على البحر الأحمر. ولكن نظراً إلى غياب الإستقرار المستمر في السودان، لم تتطرق النقاشات العلنية، منذ كانون الثاني (يناير) الفائت، إلى احتمال بناء قاعدة روسية. بيد أن الإنتقادات التي يوجّهها جون بولتون، مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى حملات القمع التي يشنّها المجلس العسكري الإنتقالي ضد المتظاهرين قد تدفع بالمجلس إلى تبنّي خطاب البشير وفحواه أن الولايات المتحدة هي قوة مناوئة تتدخل في الشؤون السودانية. ومن شأن إحياء هذا الخطاب من جديد أن يُعبّد الطريق أمام روسيا لإنشاء قاعدة في السودان.
بما أن مصالح موسكو الاستراتيجية في السودان تتوقف على إبقاء المجلس العسكري على هيمنته السياسية، قامت روسيا بخطوات ناشطة لنزع الشرعية عن المعارضة السودانية من خلال شنّ حملة تضليل. فقبل سقوط البشير، حضّ ييفغيني بريغوزين، وهو حليف مقرّب من بوتين، الحكومة السودانية على وصم المحتجين بأنهم مناصرون لإسرائيل ومناهضون للإسلام ومؤيدّون للمثلية الجنسية والتحوّل الجنسي وازدواجية الميول الجنسية. لم يطبّق البشير هذه التوصيات تطبيقاً كاملاً، لكنها ألهمت الشرطة السودانية ودفعت بها إلى توقيف طلاب في إقليم دارفور بتهمة التحريض على الحرب الأهلية. ومع اشتداد وتيرة الإحتجاجات بعد الانقلاب، أطلق كبار صنّاع السياسات الروس تصريحات في العلن نزعوا فيها الشرعية عن المعارضة. والمثل الأبرز عن استراتيجية نزع الشرعية التي تنتهجها الدولة الروسية كان في السادس من حزيران (يونيو)، عندما حضّ بوغدانوف السلطات السودانية على قمع “المتطرفين والمخرّبين”.
كذلك ألقت وسائل الإعلام المؤيدة للكرملين بشكوك حول صحة الكلام عن لجوء المجلس العسكري إلى القمع، وزعمت أن المجلس مستعد لتسهيل حدوث انتقال سلمي وديموقراطي في البلاد. وفي مواجهة الإدانات الدولية لحملة القمع التي شنها المجلس العسكري ضد المتظاهرين، وصفت وسائل الإعلام الروسية مرتكبي أعمال العنف ضد المحتجين السودانيين بأنهم أشخاص مجهولو الهوية يرتدون بزّات عسكرية، وشدّدت على التزام المجلس بمعاقبة المجرمين. وبعد المجزرة التي ارتكبها الجيش بحق المتظاهرين السودانيين في الثالث من حزيران (يونيو)، والتي أسفرت عن سقوط 35 قتيلاً على الأقل، اقتصرت تغطية الأخبار المتعلقة بضلوع المجلس العسكري في أعمال القمع على الصحف الليبرالية إلى حد كبير، على غرار “نوفايا غازيتا” (Novaya Gazeta). وسلّطت وسائل الإعلام الموالية للدولة، ومنها وكالة الأنباء الروسية، الضوء على القرار الذي اتخذه رئيس المجلس الانتقالي عبد الفتاح البرهان بإجراء تحقيق في أحداث 3 حزيران (يونيو)، وعلى إشادة وزارة الخارجية الروسية بالخطة التي وضعها المجلس العسكري لإجراء الانتخابات في العام 2020.
صحيح أن حملة التضليل التي شنّتها روسيا ضد المعارضة السودانية لم تُخفِّف من زخم التظاهرات، لكن موقع “آر تي” العربي يتمتع بمكانة بارزة كونه يحتل المرتبة الثانية بين المواقع الإخبارية الدولية الأكثر انتشاراً بعد “الجزيرة”، ما يعني أن حملة التضليل الروسية وصلت إلى أعداد كبيرة من السودانيين دون سن الثلاثين. والأهم من ذلك، تكشف المساعي التي تبذلها روسيا لتجريد المعارضة السودانية من الشرعية، عن تضامنها مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة اللتين تُعتبران الداعمتَين الإقليميتين الأساسيتين للمجلس العسكري، فالدول الثلاث تُعارض إطاحة الأنظمة السلطوية من طريق الإنتفاضات الشعبية. وقد أعرب وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش، على وجه الخصوص، عن دعمه العلني والشديد لقدرة المجلس العسكري الانتقالي على المساهمة في الاستقرار في السودان في المدى الطويل.
وقد تنبّهت وسائل الإعلام في موسكو إلى الأهمية الاستراتيجية المُحتمَلة التي يكتسبها الالتقاء في المواقف بين روسيا والسعودية والإمارات في الملف السوداني. فقد ورد في مقال نشرته صحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” (Nezavisimaya Gazeta) البارزة المؤيدة للكرملين، أن مواقف موسكو “تنسجم مع مواقف الدول العربية في الخليج الفارسي”، وأن أزمة السودان تُقدّم مثالاً عن التقارب بين موقف موسكو وموقف الدولتَين اللتين تُعتبران حليفتَين تقليديتين للولايات المتحدة. وفيما تخشى الرياض وأبوظبي أن يخضع تحالفهما مع واشنطن إلى تدقيق أكبر في حال فوز الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية في العام 2020، تأمل موسكو بأن يساهم التقاء موقفها مع الموقفَين السعودي والإماراتي في الأزمات الإقليمية على غرار الأزمة السودانية والأزمة الليبية، في تعزيز شراكتها مع الأنظمة الملكية الخليجية.
وكي تتمكّن روسيا من زيادة تأثيرها لدى حلفاء الولايات المتحدة في الخليج وتعزيز مصالحها في السودان في المدى الطويل، تريد أن يحتفظ أنصار الكرملين في الجيش السوداني بالسيطرة. وقد اكتسب هذا الأمر أهمية متزايدة منذ إبرام إتفاق الخامس من تموز (يوليو) بين المجلس العسكري الإنتقالي والمعارضة السودانية، والذي نصّ على التناوب على الرئاسة وإنشاء مجلس حكم مدني-عسكري. وكي تحافظ روسيا على تأثيرها الحالي في السودان، بعد انتهاء ولاية المجلس العسكري الممتدة لـ21 شهراً، ينبغي على موسكو رأب علاقاتها مع تيارات المعارضة السودانية.
على الرغم من أن بوغدانوف أصرّ على أن بلاده انخرطت في حوار مع أعضاء في المعارضة السودانية بعد حملة القمع في الثالث من حزيران (يونيو)، لقد تشوّهت صورة موسكو لدى خصوم المجلس العسكري بسبب إقدامها على نشر شركات تعاقد عسكرية خاصة في السودان. وفي هذا الإطار، شدّدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، على أن الكرملين لا يتولى تشغيل هذه الشركات، وأكّد النائب في مجلس الدوما الروسي يوري شفيتكين أن شركات التعاقد العسكرية الخاصة موجودة لتطبيق اتفاق عسكري-تقني مع الخرطوم. ولكن كُشِف لاحقاً أن هذه الشركات وافقت على حملات القمع التي يشنّها المجلس العسكري شرط أن تقتصر “الخسائر في الأرواح على حد أدنى مقبول”. ومع إطلاق شخصيات معارضة بارزة مثل عبد الواحد نور، زعيم حركة تحرير السودان في دارفور، تحذيرات على الملأ من مغبة التدخل الروسي في السودان، سوف يُلحق الكشف عن هذه المعلومات مزيداً من الأذى بصورة موسكو.
فيما يساهم استعداد المجلس العسكري الإنتقالي للإبقاء على العقود التي أُبرِمت في عهد البشير والحفاظ على تعاون عسكري وثيق مع موسكو، في منح اندفاعة للتطلعات الروسية إلى ممارسة نفوذ في السودان والبحر الأحمر، غالب الظن أن روسيا سوف تحاول الحفاظ على تأثيرها ومكانتها عبر مساعدة برهان على تمييع بنود اتفاق الخامس من تموز (يوليو) وتفريغها من مضمونها. كما أن قدرة روسيا على التأثير في الظروف في السودان هي رهنٌ بالدعم التآزري الذي تقدّمه الإمارات والسعودية، وعجز المعارضة السودانية المستمر عن رصّ صفوفها حول زعيم واحد أو فصيل مسيطر. وإذا استمرت هذه الظروف على حالها، فسوف تبقى روسيا لاعباً مؤثّراً في السودان في المستقبل المنظور.

• سامويل راماني طالب دكتوراه في العلاقات الدولية في كلية سانت أنطوني في جامعة أكسفورد يتخصص في العلاقات بين روسيا والشرق الأوسط. لمتابعته عبر تويتر @samramani2.
• عُرِّب هذا الموضوع من الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى