التقشّف ليس هو الحلّ!

بينما يتصارع لبنان مع دينه العام الذي بلغ حافة الهاوية الإقتصادية والمالية، فإن حكومته تتجنّب إستخدام أكثر الوسائل فاعلية لتأمين إيرادات أكبر. ما هي هذه الإيرادات؟ وهل يُمكن تنفيذها؟

الدين العام في لبنان: قنبلة موقوتة

بقلم ليديا أسود*

وصل الدين العام في لبنان إلى نسبة 150 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في العام 2018، مما دفع البلاد إلى حافة أزمة إقتصادية ومالية كبرى. لمواجهة المشكلة والتخفيف من وقعها، إعتمدت الحكومة أخيراً تدابير تقشّفية في موازنتها للعام 2019. وهذا أمرٌ مؤسف بالنظر إلى أن الوضع الإقتصادي الحالي يتميّز ببنية تحتية للدولة متدهورة إلى حد كبير، وفقر متفشٍ، وواحد من أعلى مستويات عدم المساواة في العالم.
لمعالجة أزمة الديون، أعلنت الحكومة عن مجموعة واسعة من التدابير في الموازنة تشمل: تخفيضات في أجور القطاع العام والرواتب والمعاشات التقاعدية؛ زيادة الضرائب على المنتجات المستورَدة وضريبة الخروج من مطار بيروت؛ رسوماً إضافية على ترخيص لوحات السيارات الخاصة، ونوافذ السيارات الملوّنة الداكنة، وكذلك تصاريح حمل الأسلحة النارية؛ وخفض التمويل للمنظمات غير الحكومية.
إن التدابير الجديدة هامشية وغير مترابطة وغير متماسكة، ومن المحتمل جداً أن تكون غير فعّالة. والأهم من ذلك، أن عبء التدابير الجديدة سوف يقع بشكل غير متناسب على عاتق أضعف الفئات الإقتصادية، ومن المرجح أن يزيد من تدهور مستوى معيشتها. إن الإصلاحات التي تستهدف الأغنياء – مثل الرسوم المُقترحة على نوافذ السيارات الملوّنة الداكنة، والتي غالباً ما تكون مرتبطة بأولئك الذين يتمتعون بعلاقات سياسية جيدة – تُعدّ رمزية أكثر من كونها مُوجَّهة لتقليل العجز بشكل كبير. في الواقع أن الأكثر ثراءً، والمسؤولين في المقام الأول عن مديونية البلاد، لم تطلب منهم الدولة حقاً المشاركة في تخفيض الديون العامة.
ما هي البدائل؟ إن إختيار سياسات لتخفيض الدين العام ليس سهلاً، ويعتمد على المؤسسات والتاريخ والوضع الإقتصادي لكل بلد. بالنظر إلى خصائص الإقتصاد اللبناني – إرتفاع الفقر وعدم المساواة وغياب الدولة – هناك بدائل أكثر ملاءمة من تدابير التقشف المُقترَحة.
إن فرض ضريبة جديدة أبسط وأكثر تقدمية على الدخل والثروة يُمكن أن يكون خطوة رئيسة نحو تخفيض فعّال للديون. القاعدة الضريبية الحالية صغيرة، وتجنّب دفع الضرائب والتهرّب منها سهل. قد يكون التدبير الأَولَى هو استبدال النظام الحالي لجدول ضريبة الدخل الشخصي – الذي يفرض الضرائب على كل مصدر للدخل بشكل مُنفصِل – بفرض ضريبة عامة على جميع مصادر الدخل، ولا سيما جميع أنواع الأرباح. هذا من شأنه تبسيط النظام وجعل تحصيل الضرائب أسهل. إضافة إلى ذلك، فإن النظام المعمول به حالياً تراجعياً، حيث أن فرض الضرائب على كل مصدر من مصادر دخل الفرد بشكل منفصل يُحقق عائداً أقل من تطبيق المعدّل على إجمالي الدخل المُكتَسَب.
يجب أن يكون هذا الإصلاح مصحوباً بزيادة في أعلى معدلات الضرائب الهامشية، والتي تُعتبَر حالياً مُنخفضة للغاية وفقاً للمعايير الدولية. في هذا الصدد، فإن التدابير المالية في الموازنة العامة الجديدة، والتي تشمل زيادةً في أعلى معدلات الضريبة الهامشية على الأجور وأجزاء من الأرباح التجارية إلى 25 في المئة، هي خطوة في الإتجاه الصحيح، لكنها لا تزال غير كافية. علاوة على ذلك، فإن زيادة ضريبة الشركات في لبنان، التي هي من بين أدنى الضرائب في العالم، ستزيد بسهولة من الإيرادات العامة.
في ما يتعلق بالثروة، هناك طريقة أخرى فعّالة لدفع الدين العام تتمثّل في تطبيق ضريبة استثنائية على رأس المال الخاص، وخصوصاً على العقارات. على سبيل المثال، في البلدان الغنية مثل الولايات المتحدة أو فرنسا أو الصين، يُمثّل رأس المال الخاص في المتوسط 600 في المئة من الدخل القومي. وبالتالي فإن فرض ضريبة ثابتة بنسبة 15 في المئة على رأس المال الخاص من شأنه أن يُحقق دخلاً وطنياً لمدة عام تقريباً ( بالتحديد 90 في المئة). في لبنان، من الصعب تقدير قيمة إجمالي رأس المال الخاص. لكن بالنظر إلى بيانات “فوربس” حول ثروة أصحاب المليارات والملايين – المصدر الوحيد المُتاح للبلاد والعديد من البلدان الأخرى – يبدو أن الأثرياء اللبنانيين أصحاب الملايين والمليارات هم على خير ما يرام. فقد مثّلت ثرواتهم في المتوسط 20 في المئة من الدخل القومي بين العامين 2005 و2016، مقابل 2 في المئة في الصين، و5 في المئة في فرنسا، و10 في المئة في الولايات المتحدة.
حقيقة أن ثروة الأثرياء اللبنانيين تُمثّل حصة أعلى من إجمالي الدخل القومي مما هي عليه في هذه البلدان الثلاثة لا تُشير فقط إلى أن الثروة تتركّز بشكل كبير في لبنان، ولكن أيضاً أن إجمالي رأس المال الخاص كحصة من الدخل القومي قد يكون قريباً أو أعلى من مثيله في فرنسا أو الولايات المتحدة أو الصين، حيث يقترب من 600 في المئة من الدخل القومي. بمعنى آخر، يمكننا أن نفترض أنها تمثل ما بين 400 إلى 700 في المئة من الدخل القومي، وهذا ليس مفاجئاً بالنظر إلى ديناميكية القطاعين المصرفي والعقاري. إذا فعلنا الحسابات عينها كما من قبل، فإن فرض ضريبة ثابتة على الثروة في لبنان يمكن أن يُحقق 60 إلى 110 في المئة من الدخل القومي، أي ما بين 30 إلى 60 في المئة من إجمالي الدين العام (يمكن إجراء الحسابات باستخدام البيانات المتاحة على “World Inequality Database”).
لا شك أن للإصلاح المالي الرئيس العديد من المزايا المهمة. في الوقت الحالي، يقوم النظام الضريبي اللبناني بعمل ضعيف في عملية زيادة الإيرادات. في السنوات الأخيرة، مثلت الإيرادات الضريبية في المتوسط 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 34 في المئة في بلدان منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية. إن الضرائب في لبنان على الدخل والثروة تُمثّل أقل من 6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. وبالتالي، هناك مجال كبير لرفع الضرائب والإيرادات. ومن شأن هذا الإصلاح أن يجعل الجميع يساهمون بالتساوي في جهود تخفيض الديون العامة ومنع أي زيادة أخرى في مستوى عدم المساواة والفقر، مما قد يؤدي إلى أزمة إجتماعية وسياسية كبيرة. لذلك يجب أن يكون هذا الأمر أولوية رئيسة للحكومة اللبنانية.

• ليديا أسود خبيرة إقتصادية لبنانية، وزميلة في مركز كارنيغي للشرق الأوسط حيث تركز أبحاثها على الإقتصاد العام والسياسي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى