حين تُسيطر الأطراف على المركز في العراق

بعد هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية”، تغيّر ميزان القوى في محافظة نينوى العراقية، ورغم ذلك يسعى بعض القوى في الموصل إلى المطالبة بتحويل المحافظة إلى إقليم بحكمٍ ذاتي للتحرر من سيطرة بغداد.

فالح الفياض: لقد تغير ميزان القوى في الموصل

بقلم حارث حسن*

في 13 أيار (مايو) الفائت، إنتخب مجلس محافظة نينوى محافظاً جديداً بعد استقالة المحافظ السابق نوفل العاكوب، بعد اتهامه بالفساد وسوء الإدارة. كانت الإنتخابات مثيرة للجدل، حيث عارض العديد من سكان الموصل، عاصمة نينوى، إنتخاب محافظ ليس من المدينة. لقد احتقروا العاكوب ليس فقط بسبب أدائه السيىء، ولكن أيضاً لأنه ينحدر من قرية ريفية صغيرة في قضاء الحضر.
أكاديمي من الموصل قام بتغليف الحالة المزاجية في المدينة بقوله إن الموصل يُهيمن عليها اليوم محيطها. وكان يشير بذلك إلى الميليشيات العرقية والدينية والقبلية التي تشكل الجزء الأكبر من الجماعات شبه العسكرية العاملة في محافظة نينوى. لا يزال بعض سكان الموصل يعتقد أن معظم مقاتلي “الدولة الإسلامية” الذين استولوا على مدينتهم في العام 2014 وتسببوا في تدميرها، جاء من المناطق الريفية المحيطة وكان مدفوعاً بالكراهية لأهل مدينة الموصل الحَضَريين.
هؤلاء يلومون أيضاً سكان تلعفر على الكارثة التي أعقبت سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” على الموصل. في الواقع، جاء العديد من قادة “داعش” من تلعفر، بمَن فيهم عبد الرحمن مصطفى القادولي –المعروف أيضاً ب”أبو علي الأنباري” و”أبو علاء العفري” — الذي كان يُنظَر إليه على نطاق واسع على أنه الرجل الثاني في المجموعة المتشددة، وفاضل أحمد عبدااله المعروف ب “أبو مسلم التركماني”، وهو عضو بارز في قيادة “الدولة الإسلامية”، الذي قُتل في العام 2015. ولهذا السبب رأى بعض أهل الموصل أن تنظيم “داعش” يُمكّن ويُقوّي سكان نينوى في الريف أو المحيط، على الرغم من انضمام بعض سكان المدينة إليه، كما إنضم العديد من سكانها إلى جماعة متمردة أخرى، تُدعى “جيش رجال الطريقة النقشبندية”، التي يُهيمن عليها البعثيون بقيادة عزة ابراهيم الدوري.
غالباً ما يطغى على هذه الروايات المحلية التركيز على الإنقسامات العرقية والدينية والطائفية في نينوى، الأمر الذي أدى صعود تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى تسييسها وعسكرة أكثر. مما لا شك فيه، أن الصراع العسكري ضد التنظيم الإسلامي المُتشدّد قد عزز الحدود الإثنية الدينية، لكنه أدّى أيضاً إلى إهمال الإنقسامات الأخرى، وهي تلك التي تفصل بين المركز والمحيط. لقد أدّى انهيار هيمنة الموصل على أطرافها في السنوات الأخيرة، سواء كنتيجة لاستيلاء تنظيم “الدولة الإسلامية” أو ما تلا ذلك من ظهور جماعات شبه عسكرية منتصرة، إلى زيادة الإنسياب في العلاقات بين الموصل وضواحيها.
الموصل هي المدينة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في نينوى (مليونان ونصف المليون نسمة)، وكانت قلب القوة السياسية والإقتصادية والثقافية في المنطقة. على مر القرون، طوّرت هوية إجتماعية وثقافية مُعيّنة، بما في ذلك لهجة فريدة من نوعها ومطبخ. إن علاقات الموصل التاريخية مع سوريا، ولا سيما حلب، وجنوب تركيا، قد شكّلت تصوّرها الجماعي الذاتي. كان الإسلام السني والقومية العربية أساسيين في تشكيل هوية الموصل، على عكس المجتمعات المتعددة غير المسلمة و “غير المتجانسة” في المناطق المجاورة.
كما هو الحال في المراكز الحضرية الأخرى، كانت العلاقات القبلية غالباً ضعيفة في الموصل. لقد لعبت العائلات السنية البارزة من العصر العثماني أدواراً مؤثرة حتى منتصف القرن العشرين، عندما عزز الإندماج في الدولة العراقية دور بغداد وأجهزتها المدنية والعسكرية. أسامة النجيفي، الذي أصبح رئيساً للبرلمان بين العامين 2010 و2014، وشقيقه أثيل، محافظ الموصل من العام 2009 حتى سقوط المدينة في أيدي “الدولة الإسلامية”، ينتميان لعائلة بارزة وأصبحا سياسيين بارزين في الموصل بعد العام 2003. ومع ذلك، تسبب مجيء “داعش” والنزاع اللاحق في خسارة كل منهما لرأسماله السياسي، مما سمح لمجموعات جديدة، غالباً من خارج الموصل، بملء الفراغ.
كان هذا مرئياً وواضحاً في نتيجة التصويت لمحافظ جديد لخلافة العاكوب. لقد حلّ مكانه منصور المرعيد، الذي ولد في القيارة على بعد حوالي 60 كلم جنوب الموصل. ودعمت ترشيحه ثلاث مجموعات ليست من المدينة – حركة العطاء، بقيادة فالح الفياض رئيس قوات الحشد الشعبي؛ المجموعة الثانية بقيادة البرلماني أحمد الجبوري، وخميس الخنجر الحاكم السابق لمحافظة صلاح الدين وهو سياسي ورجل أعمال مؤثر من محافظة الأنبار؛ والحزب الديمقراطي الكردستاني. بالنسبة إلى كثير من أهل الموصل، كان سبب انتخاب المرعيد تدخل وتطفل خارجيين في شؤونهم، على الرغم من أن البعض إعترف بأن ذلك كان مُمكناً بسبب فشل السكان في الإتحاد خلف قوة سياسية متماسكة.
جرّاء هذا التصوّر للتدخل الخارجي، دعا بعض السياسيين والمهنيين في الموصل، وليس للمرة الأولى، إلى تحويل نينوى إلى منطقة تتمتع بالحكم الذاتي. ويسمح الدستور العراقي للمحافظات بأن تصبح مناطق إتحادية. وقد تم تبنّي هذا المطلب في السابق أثيل النجيفي في 2012-2013، لكن تم رفضه من قبل رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي، الذي حددت لجنة تحقيق برلمانية نزاعه مع النجيفي كسبب رئيس لسقوط الموصل في العام 2014. في العام 2013، قاوم المالكي طلب النجيفي بالقول إن حكومته ستُقسّم نينوى إلى أربع محافظات – الموصل، تلعفر، سنجار، وساحل نينوى. ومع ذلك، فإن ذلك لم يتحقق.
يعتقد دعاة إنشاء منطقة فيديرالية جديدة في نينوى أنه إذا حصلت على مزيد من الحكم الذاتي من بغداد، فإن ذلك سيُقلّل من تأثير الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة والجماعات التي تدعمها إيران. لذلك، لم يكن مفاجئاً أن تتعاطف القيادة الكردية في أربيل مع المشروع وتوفّر منصة لمن يدافعون عن منطقة تتمتع بالحكم الذاتي. يتوقع الحزب الديمقراطي الكردستاني أنه في حالة حدوث ذلك، سيكون من السهل على إقليم كردستان ضم المناطق المتنازع عليها في المحافظة، مثل سنجار، الحمدانية، زمار، وتلكيف.
أولئك الذين يريدون أن تصبح نينوى منطقة فيديرالية يعتقدون أيضاً أن مثل هذه الخطوة ستساعد الموصل على ترسيخ سلطتها كمركز إقليمي، مما يعزز موقعها تجاه محيطها. إنهم يريدون تكرار تجربة إقليم كردستان، وهم يعتقدون أن الموصل ستكون تحت تصرفها موارد كافية لإحياء علاقاتها مع تركيا، وعلاقات عمل مع المناطق الكردية، لتصبح المحور الاقتصادي والثقافي لشمال غرب العراق.
ومع ذلك، فإن الحقائق السياسية الحالية لا تجعل هذا الأمر مُرجَّحاً. من ناحية، تحصل نينوى على معظم مواردها من بغداد، مما يمنح الحكومة المركزية نفوذاً في تحديد العلاقة بين الجانبين. من ناحية أخرى، كما ذكر فالح الفياض، لقد تغيّر ميزان القوى في نينوى تغيراً جذرياً بعد هزيمة “الدولة الإسلامية”. لقد توسع نفوذ فياض على نينوى بعد تعيين محافظ جديد من حركة عطا التي يرأسها. كما أن رغبة الموصل في إعادة تأكيد سيطرتها لا يتقاسمها سكان المناطق المحيطة. إن الأقليات غير المسلمة، مثل اليزيديين والمسيحيين، تتطلع إلى مزيد من الحكم الذاتي وحماية مناطقهم، ولا تريد إعادة الإندماج في الموصل التي يهيمن عليها السنّة، حيث سيكون لها وضع ثانوي. من جهتهم يمبل الأكراد أكثر إلى أن يكونوا جزءاً من إقليم كردستان، بينما يفضل الشيعة علاقات أقوى مع بغداد. العرب السنة والقبليين العرب في مناطق مثل رابعة وحترة والبعاج إما غير مُبالين أو يسعون إلى بناء النفوذ في الموصل من خلال التحالفات مع الميليشيات الشيعية القوية أو الحزب الديمقراطي الكردستاني.
تمر نينوى بعملية إعادة بناء طويلة التي ستستمر في إنتاج فائزين وخاسرين جدد. لكن حتى الآن، أولئك الذين يلتزمون بمنظور مركزية الموصل يجدون أنفسهم في الجانب الخاسر. حتى لو لم يوافق المحافظ الجديد وإدارته على هذا المنظور، فسيتعيّن عليهم التعامل مع مسألة علاقة الموصل بأطرافها. وهذا ستكون له في النهاية تداعيات على علاقات نينوى مع بقية العراق.

• حارث حسن هو زميل كبير غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، حيث يُركّز بحثه على العراق والطائفية وسياسة الهوية والجهات الفاعلة الدينية والعلاقات بين المجتمع والدولة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى