الإستثمارات لن تأتي قريباً إلى سوريا والأعمال فيها لن تسير كالمعتاد إلى حين!

إستناداً إلى الإعتبارات الفردية والظروف الأمنية والإقتصادية السائدة، ستكون إعادة الإستثمار في سوريا محدودة وقد تترتب عنها تأثيرات وتداعيات متفاوتة.

الحكومة السورية: تسيطر عليها قوات الأمر الواقع

بقلم كاثرين ناظمي وألكسندر دسينا*

إضطُرّ رجال وسيدات الأعمال السوريون، في مواجهة العنف والدمار منذ بدء النزاع، إلى إغلاق أنشطتهم أو خفضها، أو إلى مغادرة البلاد حيث أخذوا معهم قدراً كبيراً من الرساميل. اليوم، وعلى الرغم من أن النظام السوري تمكّنَ من الصمود وتخطّي النزاع، ومن أنه ربما تلوح في الأفق نهاية للحرب، يبقى مستقبل سوريا الإقتصادي مُلتبساً وغير واضح المعالم. وهكذا فإن قدرة البلاد على تحقيق “وضع إقتصادي طبيعي سويّ” جديد يكون واسع النطاق وشاملاً ومتاحاً لشرائح كبيرة من السكان، سوف تتوقف في جزء كبير منها على استئناف الأعمال الصغيرة والمتوسطة الحجم – التي كانت تشكل 95 في المئة من الإقتصاد السوري قبل الحرب – أنشطتها وإعادة إستثمار الرساميل في سوريا.
لقد أعربت دمشق من جهتها عن رغبتها في استقطاب الإستثمارات واستئناف النشاط الإقتصادي، وأطلقت بوادر عدة تجاه مستثمرين سوريين رفيعي المستوى في بلدان الإغتراب. فقد أرسل النظام وفوداً رسمية إلى مصر في شباط (فبراير) 2017 وإلى الإمارات العربية المتحدة في كانون الثاني (يناير) 2019، واستقبل وفوداً من رجال وسيدات أعمال سوريين في الإغتراب، وشجّع على تنظيم جولات في مواقع صناعية داخل البلاد. ولكن هذه المبادرات غير كافية على الأرجح لإقناع غالبية مجتمع الأعمال السوري – داخل البلاد وخارجها – بالإستثمار من جديد.
بدلاً من ذلك، تؤدّي مجموعة من الإعتبارات على المستوى الفردي، وتحديداً توزيع الأصول وحركيتها، وتكاليف إعادة الإستثمار ومخاطرها – إلى جانب الأوضاع الإقتصادية والأمنية الأوسع في سوريا – الأدوار الأساسية في تحديد ما إذا كان رجال وسيدات الأعمال سيُبادرون من جديد إلى الإستثمار في البلاد وكيف سيكون ذلك. ويتضح من المقابلات مع رجال وسيدات أعمال سوريين ومعاونين لهم، أن هذه الإعتبارات البراغماتية، بالإضافة إلى المخاوف على الأمن الشخصي ومكانة الشبكات العائلية والمجتمعية، هي العوامل الأساسية التي تحفّز قراراتهم. فالآفاق لا تُبشّر بعودة الرساميل على نطاق واسع في المستقبل القريب، لكن الطريقة التي ستتطور بها هذه العوامل سوف تؤثر في قرار إعادة انخراط مجتمع الأعمال.
خلال النزاع، سُجِّلت حركة هروب كثيفة للرساميل مع قيام السوريين بنقل أصولهم ومقتنياتهم إلى خارج البلاد، ولا سيما إلى تركيا ومصر ولبنان والإمارات والأردن. وبين العامَين 2011 و2017، سجّل المغتربون واللاجئون السوريون ما يزيد عن ستة آلاف شركة جديدة في تركيا، ومعظمها عبارة عن شركات تجارية وصناعية صغيرة ومتوسطة الحجم في غازي عنتاب واسطنبول وكِلِس وهاتاي. وتستضيف مصر أيضاً شركات متوسطة وصغيرة الحجم في معظمها، وعددٌ كبير منها نقل أعماله من المنطقة الصناعية التي مزّقتها الحرب في حلب. وقد تمكّن قسمٌ صغير من الأعمال التي انتقلت إلى الخارج من الإحتفاظ بأنشطة داخل سوريا، ولو تقلّصَ حجمها. فعلى سبيل المثال، أظهر مسحٌ أُجري في العام 2017 وشمل 230 شركة سورية في تركيا أن عشرة في المئة من الشركات التي كانت تمتلك أعمالاً وأنشطة في سوريا، حافظت عليها وواصلت تشغيلها.
فيما يدرس رجال الأعمال في إمكانية إعادة الاستثمار في سوريا ، فإن أولئك الذين لهم حضور في بلدان عدة سيكون لديهم مجال أكبر لاختيار البيئة الأكثر مؤاتاة لتركيز استثماراتهم وتوسيعها. إذا كانت الظروف في سوريا مناسبة، فسوف يستثمرون هناك، وإلا سيعطون الأولوية لأماكن بديلة. ومَن هم على استعداد لتحمّل مخاطر أعلى قد يكونون أكثر ميلاً لاختبار الأرضية بواسطة إستثمارات صغيرة، حتى لو كانت الأرباح ستقتصر على الحد الأدنى أو حتى لو اضطروا إلى تكبُّد خسائر، وذلك أملاً منهم بأن يتمكنوا من تأمين وصول أفضل إلى السوق والتفوق على أولئك الذين قد يعودون لاحقاً إلى البلاد، من خلال المبادرة باكراً إلى حجز مكان لهم والإطلاع على التحديات القائمة. أما مَن يمتلكون إستثمارات في سوريا ولا يريدون خسارتها – ولا سيما إذا كانت لديهم أصول ثابتة أو بدائل محدودة – فسوف يكونون أكثر استعداداً لتحمّل الظروف الصعبة، لكنهم لن يعمدوا بالضرورة إلى توسيع أعمالهم أو حتى الإستمرار في المدى الطويل.
لا تزال الظروف على الأرض تطرح عوائق خطيرة في المديين القصير والطويل. ولعلّ التأثير الأوضح يتمثل في ما أحدثه الدمار في مختلف أنحاء البلاد من أضرار كبيرة في البنية التحتية وخسارة الأرزاق وتعطيلها. وتتسبب أزمة المحروقات الراهنة بتقويض إضافي للنشاط الإقتصادي، ما يؤدّي إلى كبح الحركة وارتفاع أسعار السلع الأساسية. ويواجه المصنِّعون أيضاً صعوبات في الحصول على المواد الخام والآلات الضرورية لإعادة إطلاق عجلة الإنتاج. وتُسبّب العقوبات الواسعة الكثير من التأخير أو تدفع بهؤلاء المصنّعين إلى الإعتماد على قنوات السوق السوداء غير الشرعية لاستيراد البضائع والمعدات بأسعار أعلى بكثير.
وكذلك يؤدّي غياب الطلب في السوق، جراء هروب الرساميل والفقر المدقع وتراجع القدرة الشرائية، إلى تقويض الأعمال والشركات السورية. ونظراً إلى النقص في اليد العاملة – بسبب النزوح، فضلاً عن ملازمة الأشخاص منازلهم في بعض المناطق خوفاً من الإعتقال والحجز والتجنيد الإلزامي – تجد الشركات صعوبة في استخدام عمّال والاحتفاظ بهم حتى بعد قيامهم بـ”تسوبة أوضاعهم”.
علاوةً على ذلك، تواجه الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم في سوريا مجموعة من المُفترسين الجدد والقدامى الذين منحهم النزاع نفوذاً. فالميليشيات والفصائل العسكرية وعناصر الإستخبارات يفرضون على رجال وسيدات الأعمال دفع أموال عند نقاط تفتيش ثابتة ومتحركة تتركّز على الطرقات التجارية الأساسية وفي المناطق الصناعية. وعلى الرغم من أن التنقل بات سهلاً بعض الشيء في الأعوام القليلة الماضية، مع إعادة بسط النظام سيطرته على غالبية الأراضي، لا تزال نقاط التفتيش هذه تتسبب بعرقلة التنقلات، ما يثير غضب المستثمرين داخل البلاد و خارجها على السواء.
واتُّهِمت الميليشيات وجهات خاصة أيضاً بالسيطرة على الخدمات المحلية والحكومية وتعطيلها بغية إرغام السوريين على دفع الأموال مقابل حصولهم على الخدمات من أولئك الأفرقاء، إما بطريقة نظامية أو من خلال السوق السوداء. وقد عمدت الميليشيات إلى خطف أبناء رجال وسيدات الأعمال، وطالبت بفدية للإفراج عنهم، وحتى إنها بدأت شراء شركات وعقارات لتبييض أرباحها، ما يتسبب بعرقلة وصول المستثمرين المحتملين إلى السوق. وهكذا فإن الجهات المنافِسة والشبكات الجديدة والقواعد غير النظامية في النشاط الإقتصادي المحلي تولّد قدراً كبيراً من الإلتباس ومنافسة شديدة لرجال وسيدات الأعمال الراغبين في الإستثمار من جديد.
إنطلاقاً من هذه التحديات، ستبقى حركة إعادة الإستثمار محدودة، لكنها ستطبع البيئة والسياق للمستثمرين المحتملين في المستقبل. وقد مارست الأعمال العائدة بعض التأثير الإيجابي المحدود في المجتمعات المحلية، فساهمت في تحسين نوعية الحياة تحسيناً طفيفاً، والتخفيف من وطأة الظروف الإقتصادية الصعبة.
تُقدّم الروايات المتناقَلة بعض المؤشرات في هذا الصدد. فمنذ استعادة النظام السيطرة على حلب، مثلاً، تمكّن مالك إحدى الشركات – التي انتقلت إلى السعودية عند اندلاع النزاعم – من العودة وإعادة بناء مطعمه حيث يُقدّم الآن الطعام لما يزيد عن مئة شخص ليلياً. كذلك تمكّن مالك إحدى الشركات الصغيرة من فتح المقهى الذي يملكه من جديد، وهو يوظّف فريقاً صغيراً بدوام جزئي، مع العلم بأنه يدير المقهى الآن ضمن إمكانات محدودة، أي أقل بكثير مما كان عليه الوضع قبل الحرب، ويواجه صعوبات جمة في الحصول على الديزل وغيره من الموارد الضرورية. واستطاع مالك أحد المصانع ممّن نقلوا عملياتهم إلى تركيا خلال الحرب، من إعادة إطلاق مصنعه جزئياً في حلب مع 20 في المئة من الموظفين الذين كانوا يعملون لديه سابقاً، مع الإشارة إلى أن أرباحه شبه معدومة في الوقت الحالي. هو يأمل بأن يُوسّع أعماله ويتمكّن من إعادة أسرته إلى سوريا في المستقبل، لكنه لا يتوقّع أن يحدث ذلك في وقت قريب. بغض النظر عن التحديات، يُمكن أن تكون لاستثمارات صغيرة من هذا القبيل تأثيرات إيجابية، ولو متواضعة للغاية، بحيث تُساهم في استحداث بعض فرص التوظيف المحدودة، وتأمين الخدمات، وتوفير فضاءات للحياة الإجتماعية والمجتمعية.
وفي الوقت نفسه، تترتب عن عودة الرساميل تداعيات سلبية، فهي تولّد تدفقات جديدة من الأموال التي سيسعى الأفرقاء المسلّحون إلى الاستحواذ عليها. ومع تواصُل هذه النزعة، قد يصبح هؤلاء أكثر تجذراً ويحققون إكتفاء ذاتياً أكبر، ما يعني أن دمشق وروسيا ستواجهان صعوبة فائقة في جهودهما الهادفة إلى كبحهم. علاوةً على ذلك، يجد رجال الأعمال أنفسهم مضطرين إلى الاستمرار في شراء المحروقات من السوق السوداء، وتهريب البضائع، ودفع الرشاوى إلى المسؤولين بغية التعامل مع الظروف السيئة جداً، ما يؤدّي إلى تعزيز هذه الممارسات. وفي هذا الإطار، علّق تاجر دمشقي: “نعم، أنا جزء من اقتصاد الحرب. فأيّ خيارٍ أملك؟” وهذا سيؤدّي إلى اشتداد الحواجز حتى أمام دخول النشاط الاقتصادي الأساسي، ويُهدّد بحصر الفرص بالشبكات الضيّقة للأفرقاء النافذين أو الأثرياء.
في مختلف الأحوال، سوف تستمر نجاحات الرساميل العائدة باكراً إلى البلاد وإخفاقاتها، في ممارسة مفعول دوري، عبر التأثير بصورة مباشرة أو غير مباشرة في قرارات المستثمرين في الخارج، فهؤلاء يعوّلون على روابطهم داخل سوريا لدراسة الإمكانات التي تتيحها العودة والتحدّيات التي تطرحها. إذاً، من شأن الرساميل العائدة التي تحصد النجاح أن تُساهم في تعزيز الإستثمارات، غير أن التجارب السلبية تتسبب بثني المترددين عن الإستثمار.
سوف ينظر رجال وسيدات الأعمال الذين يريدون أن يحسموا قرارهم بشأن إعادة الإستثمار في سوريا، في هذه الإمكانات والقيود، ويتخذون الخطوات التي يعتبرونها الأكثر منطقية لحياتهم وأرزاقهم. وفي المجمل، سوف تشكّل هذه القرارات الفردية التي تُتَّخذ على ضوء الظروف الإقتصادية والأمنية السائدة، السواد الأعظم من النشاط الإقتصادي في سوريا بعد الحرب (أو قد تكون أيضاً عاملاً أساسياً في غياب هذا النشاط). وانطلاقاً من التحديات الراهنة، على الأرجح أن عودة الإستثمارات ستكون محدودة، وأن النجاحات الأولى لن تقود إلى إعادة انخراط منهجية ومنظّمة، إلا أنه من المهم ألا يُنظَر إلى الإقتصاد السوري بأنه يقف بين نقيضَين من خلال القول بأنه إما يسير نحو المعافاة الكاملة واستعادة نشاط ما قبل الحرب وإما يتجه نحو الإنهيار والركود بطريقة لا عودة عنها. لقد بدأ اقتصاد ما بعد الحرب بالتبلور في سوريا؛ وفي المستقبل المنظور، سيكون ملتبساً ومفكّكاً وشديد التقلب وغير متماسك.

• كاثرين ناظمي باحثة ومحللة مقيمة في العاصمة الأردنية عمان، تركّز في أبحاثها على المؤسسات والإقتصاد السياسي بعد النزاعات. ألكسندر دسيما زميل زائر في معهد غرب آسيا وشمال أفريقيا (WANA) في عمّان يُركز في أبحاثه على النزاعات بين الفصائل وتحديات بناء الدولة. لمتابعتهما عبر تويتر: @kwnazemi و@alexdecima . الآراء الواردة هنا تعبّر عن آراء الكاتبَين ولا تعكس وجهة نظر معهد غرب آسيا وشمال أفريقيا أو “أسواق العرب”.
• يستند هذا المقال إلى مقابلات أجراها الكاتبان مع رجال وسيدات أعمال سوريين ومعاونين لهم من كانون الثاني (يناير) إلى تموز (يوليو) 2019 في العاصمة الأردنية عمان والعاصمة اللبنانية بيروت وفي اسطنبول في تركيا.
• عُرّب هذا الموضوع من الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى