لبنان: المال والسلطة في صراع ما بعد الموازنة

بقلم البروفسور بيار الخوري*

أعتَقِدُ جازماً أني قد كتبت ما يُحيط بكل وضع الموازنة بما يتجاوز بشكل خاص حساب الأرقام ونِسَب العجز إلى الناتج الوطني الإجمالي، ومُجمل العناصر التأشيرة التي يصر عليها مجتمع المانحين والمجتمع المالي المحلي.
فمنذ وصول العماد ميشال عون إلى سدة رئاسة الجمهورية في أواخر العام ٢٠١٦، ظهَّرتُ مجموعة من المواقف المُرتبطة بالإقتصاد السياسي في الحقبة الراهنة، وأخصَّها إنتهاء قدرة النموذج الإقتصادي – السياسي اللبناني على إعادة إنتاج نفسه وإنتاج فوائض إقتصادية قادرة على تجديد شرعيته التاريخية.
لم يكن من الممكن إنتاج موازنة افضل لا بسبب جودتها، فهي موازنة سيئة جداً، ليست الأسوأ في تاريخ الموازنات، ولكنها تأتي في ظل أسوأ أحوال الطبقة السياسية ووصولها إلى عجز عن إعادة إنتاج نفسها من دون أن تؤذي الإقتصاد الوطني.
الصراعُ على الموازنة هو في الظاهر صراعُ أرقام وصراعٌ في سبيل نِسَب تأشيرية، ومحاولة تحميل فئات إجتماعية ضعيفة أعباء الأزمة وتبعاتها.
خلف الستارة يتحرك الصراع الكبير بين قوى المال وقوى الطبقة السياسية بتلويناتها المختلفة. مجموع هذه القوى هم شركاء، وقد استمرت هذه الشراكة مشكِّلةً إقتصاد ما بعد الحرب. شراكة يؤمن القطاع المالي بموجبها تمويل غير منتج مُدمَج بفساد الطبقة السياسية، وتؤمّن الطبقة بالمقابل أرباحاً إحتكارية لهذا القطاع بدأت مع فوائد بلغت ٤٨٪ في تسعينات القرن الماضي، واستمرت بضمان هوامش مرتفعة للفوائد في سوق بيروت كانت دائماً أعلى خمس نقاط من المعدلات الإقليمية والدولية بسبب الطلب الحكومي المتزايد على الإقراض.
حين يقول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن الهندسات المالية قد سمحت للمصارف بتوسيع قاعدة رساميلها للإلتزام بمتطلبات الملاءة الدولية، علينا أن نفهم كيف يعمل النظام المالي – السياسي في لبنان.
هناك مبدأ عام في الدَّين المصرفي يقول أن دراسة جدوى المشاريع هي العامل الحاسم في قرار الإقراض لا الكفالة الموازية. تحترم المصارف هذا المبدأ مع زبائنها ولا تُقيم له وزناً مع الدين الحكومي. كلنا يعرف ان المصارف دأبت منذ تسعينات القرن الفائت على التحذير من السياسات المالية الحكومية ومخاطرها على الإقتصاد والوضع المصرفي، ولكنها لم تتوقف يوماً عن الإقراض السخي للدولة بسبب قاعدة الأرباح التي تكلّمنا عنها أعلاه.
الآن هناك لحظة حقيقة يعتقد القطاع بموجبها أنه قادر على فرض شروط جديدة للعبة ستكون قاسية على الشركاء الفاسدين.
لم يعد القطاع المصرفي يخشى على أرباحه، ومُجمَل التنازلات التي قدّمها هي من “كيس” المودعين او من “كيس” مصرف لبنان (الدولة نفسها)، فهو يعرف ويُدرك أن دين دولة فاسدة لا يُمكن السيطرة عليه، وكلّما أصبح اكثر أذية أو إيذاءً للإقتصاد إرتفعت الفوائد، وبالتالي زادت أرباح القطاع شرط وجود أصول للحكومة قادرة على عدم تحويل هذه الديون إلى ديون سيئة.
فما هي أصول الدولة التي يُمكن أن تُشكّل ضمانة لديون الحكومة؟
إن استمرار التهوّر والتدهور في المالية العامة هما فرصة إستثنائية لوضع اليد على الموارد الاستراتيجية للدولة: قطاع الإتصالات، قطاعا الكهرباء والمياه، تسنيد المداخيل المستقبلية، والآخطر الرهان على الموارد النفطية. (من يعتقد أن في الكلام تهويل فلينتظر موازنة ٢٠٢٠).
أعتقد ان في الدولة من يعي خطورة هذا الوضع تماماً، ولكن الدولة عاجزة، وستُصبح اكثر عجزاً مع مرور الوقت، أللهم إلاّ اذا كان خلف الرهان على انتظار بداية إنتاج النفط استراتيجية مختلفة تُعيد تعديل ميزان القوى مع القطاع المالى، وتنزع إلى استعادة قدرة الدولة على الإمساك بوضعها المالي وقدرتها على الإنفاق الإستثماري، وربما السيطرة على منظومة الفساد. قد يكون ذلك كلام احلام ولكنه مُمكن.
هل لذلك علاقة بوساطة ترسيم الحدود مع الكيان الصهيوني؟ وما هي الشروط الجيوسياسية التي تسمح باستعادة الدولة القادرة؟ ذلك سؤال اخر.

• بروفسور بيار الخوري كاتب وخبير إقتصادي، وامين سرّ الجمعية الإقتصادية اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى