لماذا ما زال “داعش” يُهدّد العراق؟

على الرغم من محاولة القوات العراقية القضاء التام على تنظيم “الدولة الإسلامية”، يبدو أن الإنقسامات الداخلية في صفوفها وعدم وجودها في القرى والبلدات النائية، خصوصاً السنية منها، يُهدد بعودة “داعش” إلى الإنتعاش والتمرد وإحداث القلاقل.

الجيش العراقي: يستطيع أن يقضي على “داعش” عسكرياً ولكن..

أبو طيبان (العراق) – بِشا مجدي*

كل يوم، يخشى القرويون في قرية أبو طيبان العراقية من حلول الظلام.
“في الليل، يُهاجموننا”، قال دخيل إبراهيم رميد، أحد القادة المحليين، في إشارة إلى عودة تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى هذه المنطقة الصحراوية في محافظة الأنبار. وبعدما أشار إلى الأرض القاحلة المُتاخمة لمجموعة صغيرة من المنازل التي تُشكل القرية وإلى منزل قريب منسوف مُهدّم. قال رميد، الذي سُجن ثماني مرات تحت حكم الجماعة المتشدّدة ويعرف وحشيتها عن كثب، أن “داعش” يمكن أن يخرج ويأتي من أي مكان.
وتابع: “لقد وضعنا كاميرات على المنازل، وحراساً على الأسطح، وأفرادنا يحرسوننا حتى الصباح لأننا نحتاج إلى النوم ولا توجد قوات أمنية”.
يبدو أن تنظيم “الدولة الإسلامية” يعود إلى التمرّد في العراق أو يُحاول ذلك. منذ سقوط باغوز، آخر معاقل “داعش” في سوريا، في آذار (مارس) الفائت، يُشتَبَه في أن ما لا يقل عن ألف مسلح عبروا الحدود إلى العراق. ويُعتقد أن أبو بكر البغدادي، الزعيم الروحي للمنظمة، كان في الأنبار ذات الغالبية السنية عندما أصدر أول فيديو له منذ خمس سنوات في الشهر الفائت. يعيش العديد من المُتشددين في شبكات أنفاق بناها تنظيم “داعش”، وهم يُخزّنون المواد الغذائية والملابس اللازمة، ويعملون في خلايا من خمسة إلى عشرة أشخاص.
بعدما استولى التنظيم المتشدّد على أجزاء كبيرة من العراق على مدى ثلاث سنوات، قام الجيش العراقي، بمساعدة الولايات المتحدة، بطرد الخلافة المُعلَنة ذاتياً بحلول نهاية العام 2017. لكن القوات العراقية ما زالت مُنقَسمة ومُقسَّمة داخلياً بين عدد كبير من الفصائل المسلحة. وبينما تم القضاء على “الدولة الإسلامية” إلى حد كبير، فلا تزال جيوب المنظمة المتطرفة نشطة وتُهدد المناطق النائية في العراق، حيث لا وجود لقوات الحكومة إلّا نادراً. قد تكون المراكز المدنية مثل بغداد آمنة، ولكن طالما كانت المحافظات في خطر، فإن البذور التي سمحت ل”الدولة الإسلامية” بالتجذر ستظل قائمة.
على الرغم من انقساماتها الداخلية، فقد شحذت القوات المسلحة العراقية من نواح كثيرة عملياتها ضد “الدولة الإسلامية” منذ سقوط الموصل في أيدي المنظمة المتطرفة في العام 2014. وقال مايكل نايتس، وهو زميل بارز متخصص في الأمن في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، إنه على الرغم من جهود تنظيم “الدولة الإسلامية” لإعادة تأكيد تأثيره، “فقد رأينا … القوات الخاصة الأميركية والعراقية تُسرّع بشكل كبير نموذج عملياتها، بما في ذلك العمليات في الليل. لقد رأينا أيضاً زيادة عدد قوات الأمن العراقية … ويمكنك أن ترى أن ذلك كان له تأثير إيجابي”.
في الوقت عينه، لكل فصيل من القوات المسلحة أساليبه الخاصة في محاربة “الدولة الإسلامية”، وفي المدى الطويل، فإن هذه الإنقسامات ستُكلّفها على الأرجح على نحو فعال. تشمل الفصائل المسلحة جهاز مكافحة الإرهاب العراقي، وقوات الحشد الشعبي، والجيش العراقي، والميليشيات القبلية. وقد انضم العديد من المقاتلين السنّة، الذين هم ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، إلى قوات الحشد الشعبي، والتي بدأت كمجموعة من الميليشيات المؤقتة الشيعية إلى حد كبير، حيث أُنشئت لمحاربة “داعش” في العام 2014. منظمة بشكل فضفاض عشوائي وغالباً على خلاف مع بعضها البعض، فإن ميليشيات الحشد الشعبي، التي يتلقى الكثير منها دعماً إيرانياً، تشارك بعمق في الحرب ضد “الدولة الإسلامية” ولكن نادراً ما تُنسق مع جهاز مكافحة الإرهاب العراقي.
وقال ريناد منصور، باحث وزميل في مركز “تشاتهام هاوس” (Chatham House): “إن جهاز مكافحة الإرهاب العراقي وقوات الحشد الشعبي لا يتحدّثان مع بعضهما البعض. إنهما حتى لا يجلسان في الغرفة عينها لأن الثاني ينظر إلى الأول على أنه وكيل أميركي والأول ينظر إلى الثاني على أنه وكيل إيراني. من المفترض أن تكون هاتان المجموعتان على الجانب ذاته تُقاتلان “داعش” وتتأكدان من أنه لن يعود. لكن بالطبع لن تتشاركا المعلومات الإستخباراتية مع بعضهما البعض”.
وأشار منصور إلى التغيير في المواقف بين أهل الموصل كمثال على عدم اليقين المُتبقّي. “بعد التحرير، كان الموصليون سعداء للغاية بانتهاء الخلافة، لكنك الآن تتحدث إلى الأشخاص أنفسهم وسيخبرونك أن الأمر كان منذ عام ونصف، ما يقرب من العامين، وما زلنا لم نرَ بعد حكومتنا حتى الآن”.
لكن حكومة بغداد، على الرغم من إنقساماتها الحالية، لديها أمر واحد مختلف تماماً عن آخر مرة: عراقيون كثيرون جداً عانوا عن كثب وعرفوا ما هو تنظيم “الدولة الإسلامية” حقاً، وهم يخشونه ويكرهونه.
في العام 2014، دعم 90 في المئة من القبائل تنظيم “داعش”. قال الشيخ قطري السمرمد، أحد زعماء الميليشيات القبلية في محافظة الأنبار، الآن لا يوجد حتى 1 في المئة منهم يدعم ويريد “داعش”.
وقال إنه على الرغم من أن قبيلته كانت واحدة من القلّة التي لم تدعم “الدولة الإسلامية”، إلّا أنها كانت استثناء وليس القاعدة بعد سنوات من الإهمال من قبل حكومة الغالبية الشيعية في بغداد. بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، عزلت الحكومة التي يقودها الشيعة المجتمعات ذات الغالبية السنية، مما خلق الغضب والإستياء اللذين جعلا الكثيرين يرون “الدولة الإسلامية” كخيار بديل قابل للتطبيق.
لكن السمرمد قال أنه عندما تحوّلت “الدولة الإسلامية” من حركة تمرد إلى سلطة حاكمة في العام 2014، واستولت على ثلث العراق، “إكتشفت القبائل أنها كانت منظمة إجرامية، وأن المهم بالنسبة إليها لم يكن ما إذا كنت سنياً أو شيعياً – المهم هو القتل والدمار”.
إن وحشية حكم تنظيم “الدولة الإسلامية” قلّصت بشكل كبير قاعدة المُجندين لديه، وبدأ عدد كبير من القبائل والمدنيين في تبادل المعلومات الإستخباراتية مع أجهزة الأمن العراقية.
“ما هو سبب سقوط المحافظات (في أيدي تنظيم “الدولة الإسلامية)؟ إن أفراد القوات (العراقية) كانوا خائفين لأنهم شعروا أن الناس من حولهم لا يحبونهم، ولا يريدونهم، لذلك تركوا أسلحتهم وغادروا”، قال اللواء تحسين الخفاجي، مدير مكتب الإعلام في وزارة الدفاع العراقية. مضيفاً أن “القصة الآن هي عكس ذلك. الآن يريدون الجيش. الآن هم مع الجيش. لقد ساعدوا الجيش في عملياته أثناء التحرير. وبالتالي فإن التعاون أعلى بكثير مما كان عليه من قبل”.
ومع ذلك، فإن تنظيم “داعش” عاد إلى طُرُق التهديد والقتل التي يُتقنها في العراق. في أحدث عملياته، إستهدفت المجموعة المتطرفة قادة محليين مثل رميد؛ في أوائل أيار (مايو) الفائت، هاجمت المجموعة منزل زعيم محلي في محافظة نينوى الشمالية، مما أدى إلى مقتله وأربعة من أقاربه؛ في نيسان (إبريل)، أدى انفجار قنبلة على جانب الطريق إلى مقتل زعيم قبلي في المقاطعة عينها.
وعلى الرغم من أن تنظيم “داعش” أضعف مما كان عليه منذ عقد، إلّا أنه يُغيّر نمط عملياته ويؤكد وجوده في عمليات اغتيال مُستَهدَفة تهدف إلى إظهار المجتمعات أن الخلافة ما زالت قائمة. بالنسبة إلى قوات الأمن العراقية، هذا يعني لعبة القط والفأر أثناء محاولتها تعقب خلايا “الدولة الإسلامية” المتبقية داخل المناطق الصحراوية الشاسعة في غرب العراق، وجبال حمرين في محافظة ديالى، والمناطق الريفية النائية في نينوى.
لقد تحسّنت الإستخبارات العراقية منذ آخر مرة تعاملت فيها مع تنظيم “داعش” كتمرد في العام 2010؛ ومع ذلك يبقى تركيزها عسكرياً. ولكن في جميع أنحاء العراق بدأت حربٌ مزدوجة: واحدة عسكرية وأخرى إجتماعية. إن الجيش العراقي يفوز وينتصر في الحرب المادية، لكن طالما بقيت قرى مثل أبو طيبان معزولة ومُهدَّدة بالخطر، فإن الإستياء سينمو، وفي هذا الغضب تكمن جذور عودة “الدولة الإسلامية”.
يتراوح عدد أعضاء تنظيم “داعش” الذين ما زالوا يعملون في العراق من أقل من 1000 إلى 3000 شخص أو أكثر، وهو انخفاض كبير في أعدادهم من ذروة تنظيم “الدولة الإسلامية”، عندما قاتل ما يقدر بنحو 100,000 مقاتل لصالح الجماعة المتطرفة.
“حتى [في] 2009-2010، عندما كان تنظيم “القاعدة في العراق” أو تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” في دورة تراجعية، كان لا يزال تمرداً واسع النطاق تقريباً فعلياً. في أجزاء معينة من العراق، كان التمرد لا يزال الصناعة الوحيدة داخل المنطقة”، يقول مايكل نايتس.
الآن تضاءل عدد الإنفجارات التي سببها تنظيم “الدولة الإسلامية” مع عودة المجموعة إلى القالب الأكثر كلاسيكية للتمرد. “”داعش” ليس لديه قادة أو القدرة على احتلال مدينة أو مساحة كبيرة … الآن ، عاد “داعش” إلى حالته السابقة بعمليات محدودة وخلايا نائمة”، قال الجنرال محمد العسكري، المستشار في وزارة الدفاع العراقية.
وقال نايتس: “الآن أصبح إنضمام الأشخاص للتمرّد أكثر صعوبة. في الوقت الحاضر، إن التمرد صار ضيّقاً للغاية يضم عدداً صغيراً جداً من الناس، ونتيجة لذلك، يتعيَّن عليه الذهاب إلى نهج أكثر جودة”.
ويعني بكلمة “الجودة” أنه بينما انخفض عدد هجمات تنظيم “الدولة الإسلامية” بالكامل، فإنه يعتقد أن الجماعة تركز على أهداف استراتيجية ستُظهر مدى قوتها.
“لقد تعلّموا الكثير من الدروس من الماضي، وأحدها هو كيفية تبنّي نهج الجودة والكمية بنجاح. لذلك، على الرغم من أن “الدولة الإسلامية” يشن عدداً صغيراً جداً من الهجمات مقارنةً بسجله التاريخي، إلا أنه قادر على القيام بأشياء مثل حملات الإغتيالات الريفية للمخاتير ورؤساء البلديات والزعماء المحليين”، على حد قوله.
السمرمد، زعيم ميليشيا قبلية، ينحدر من بلدة تدعى بغدادي في محافظة الأنبار. حارب في الحرب ضد “الدولة الإسلامية” وفقد المئات من رجال قبائله في الحرب والإحتلال. كل أسبوعين، يجمع السمرمد رجاله ويصطحبهم إلى الصحراء لملاحقة بقايا “الدولة الإسلامية” بالتعاون مع القوات المسلحة العراقية. إنهم يعتمدون على الإستخبارات والمعلومات المحلية التي قادتهم إلى العثور على جيوب من خمسة إلى 15 عضواً يعيشون في المناطق الأكثر عزلة. يختبئ البعض في كهوف، والبعض الآخر في أنفاق، والبعض الثالث يستأجر منازل.
يعمل السمرمد مع كل من الجيش وجهاز مكافحة الإرهاب، اللذين يعتمدان عليه بالنسبة إلى المعرفة والإتصالات المحلية. علماً أن الميليشيات القبلية تشكل جزءاً من الجماعات المسلحة العديدة العاملة في المنطقة، وقال السمرمد إنه يتمتع بعلاقات جيدة مع كلٍّ منها. لكن منصور قال إن المجموعات مليئة بالإنقسام الداخلي الذي يأتي على حساب أمن وسلامة المواطنين المُستَضعَفين والمُعرَّضين.
“ما لديك الآن – وهو أمر أكثر إثارة للقلق بالنسبة لي على الأقل في الأنبار وغيرها من المناطق المحررة أخيراً – هو أن هناك العديد من الجماعات المسلحة المختلفة … جميعها تتنافس مع بعضها في الوقت عينه. لا يوجد إحساس بأن هؤلاء هم المحررون. إذا كان الأشخاص الذين يُفترض أن يفرضوا الأمن يتنافسون مع بعضهم البعض على الأرض، وعلى الغنائم الإقتصادية للحرب، فسيظل الناس دائماً مُبعَدين وعلى الهامش”، يقول منصور.
إعترف السمرمد أن هناك مناطق لا تتجرّأ قوات الأمن على الخروج فيها ليلاً، ويتعيّن على السكان المحليين التعاون مع “الدولة الإسلامية” أو دفع عواقب ذلك. لا يرى القرويون أن الأجهزة الأمنية تعمل لصالحهم، ولا يزال الكثيرون يفتقرون إلى الخدمات الأساسية. وقال منصور إنه رغم استمرار ذكريات ما فعل تنظيم “الدولة الإسلامية” من مساوىء في الأذهان، فإن هذه العناصر هي السبب الحقيقي وراء صعوبة هزيمة التمرد. “في الوقت الحالي، ما زال “داعش” يُمثل نقطة مُظلمة للغاية في تاريخ العراق، لذلك من الصعب للغاية رؤية الناس يقبلون به أو يدعمونه، لا سيما من منظور إيديولوجي. لكن … ما رأيناه في العراق هو أن الصراع دائماً دورياً”.
الآن ما زالت مناطق مثل أبو طيبان مهجورة، وما زالت أجزاء كبيرة من الموصل مُهمَلة من دون خدمات أو موارد حكومية. قد يكون الأمر مجرد مسألة وقت حتى تفقد الحكومة موجة الدعم التي نشأت من هزيمة “الدولة الإسلامية”. “يصبح التحدي محاولة التعامل مع مجموعة مثل “داعش” كما لو كانت مشكلة عسكرية فقط. لذا، فإن الحل العسكري لا يعالج سوى الأعراض، وهي “داعش”، لكنه لا يستطيع أن يعالج جذور سبب ظهور هذه الجماعات. التحدّي الذي يواجهنا الآن هو أنه لا يوجد أحد يعالج هذه الجذور”، يقول منصور.

• بِشا ماجد صحافية مستقلة تقيم في بغداد. يُمكن متابعتها على تويتر: @PMagid
• كُتِب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى