“رؤية المملكة 2030” تولّد أزمة في السياسات العامة وتُضعِف المؤسّسات الحكومية في السعودية

صُمِّمت “رؤية المملكة 2030” بهدف تحقيق الحوكمة الفاعلة والكفوءة، مع اقتصادٍ متنوّع ومزدهر منفتح على الإستثمار الطويل المدى. لكن وفي حين أن الرؤية طموحة، يُثير تطبيقها تساؤلات عدّة.

3 محاور تُعزز “رؤية المملكة 2030”: هل تتحقق؟

بقلم هادي فتح الله*

في 17 آذار (مارس) الفائت، أطلق وزير البيئة والمياه والزراعة السعودي عبد الرحمن الفضلي برنامج “قطرة”، وهو برنامج وطني جديد للحفاظ على المياه بغية ترشيد إستهلاكها في المملكة العربية السعودية التي تُعتبَر من البلدان الأكثر جفافاً في العالم وثالث أكبر مستهلك للمياه بالنسبة إلى الفرد الواحد. في الأسبوع التالي، أعلن مكتب الإدارة الاستراتيجية ل”رؤية 2030” إطلاق العديد من المشاريع الجديدة الكبرى في العاصمة لبناء مساحات خضراء، منها حديقة الملك سلمان ومشروع الرياض الخضراء. الهدف من المشروعَين هو تحويل قلب الرياض إلى الحديقة المدينية الأكبر في العالم. تبلغ كلفة مشروع الرياض الخضراء 23 مليار دولار، ويشتمل على حديقة مائية تمتد على مساحة 14 هكتاراً وقناة بطول 3.5 كليومترات. سوف تستهلك الحديقة المُزمَع إنشاؤها ما لا يقل عن ربع مليون متر مكعّب من المياه يومياً، ما يؤدّي إلى استنفاد كميات المياه التي يُمكن إدّخارها بموجب برنامج “قطرة” في منطقة الرياض. إن هذه المشاريع والبرامج المتعارِضة تُبصر النور في معظم القطاعات الحكومية؛ وتُسلّط الضوء على سوء تنظيم عملية صنع السياسات في المملكة وعلى الحاجة الملحّة إلى تعزيز هذه الآلية.
صُمِّمت “رؤية المملكة 2030” بهدف تحقيق الحوكمة الفاعلة والكفوءة، مع اقتصادٍ متنوّع ومزدهر منفتح على الإستثمار الطويل المدى. لكن وفي حين أن الرؤية طموحة، يُثير تطبيقها تساؤلات عدّة. التحدّي الأساسي الأول المشترك بين هذه المشاريع الإنمائية المحلية هو أن الحكومة السعودية تتعاطى معها إستناداً إلى تفكير إداري، وليس إلى مبادئ في السياسات العامة. في سياق الأعمال، تضع القيادة أولاً استراتيجيةً (خطة رفيعة المستوى)، ثم تضع الخطط والسياسات (القواعد) اللازمة لتطبيقها. وفي السياق الحكومي، “السياسات العامة” هي المبادئ الأعلى مستوى التي تقود وتُوجِّه الحوكمة والإدارة العامة، ثم يتم بعدها تطوير الإستراتيجيات لتنفيذها.
للقيادة الحكومية السعودية استراتيجية متفاوتة (من اختصاص المستشارين الإداريين) في التعاطي مع السياسات العامة (التي هي من اختصاص موظّفي الخدمة المدنية). في الحكومة، الإستراتيجية هي عبارة عن خطة عمل ذات مخرجات ونتائج ومؤشّرات محدّدة مسبقاً. “رؤية المملكة 2030” مليئة بالبنود عن إعادة الهيكلة الحكومية والخصخصة والتحوّل الوطني وما شابه. أما السياسات فهي مبادئ للعمل، إنها بمثابة دليل لاتخاذ القرارات وتحقيق النتائج. فعلى سبيل المثال، تقوم السياسة النفطية السعودية على الحفاظ على التوازن في أسواق النفط العالمية. تُملي هذه السياسة الموجِّهة الآلية التي ينبغي على السعودية إعتمادها لضبط الصادرات وتحديد الأسعار والإستثمار في المشاريع النفطية. إستناداً إلى هذه السياسة، تصوغ السعودية استراتيجيات وتُطبّقها، على غرار تعزيز أنشطة المصب والمنبع من خلال شركة النفط الوطنية “أرامكو” أو زيادة الوصول إلى الأسواق في آسيا. معظم ما يُنظَر إليه بأنه سياسة حكومية سعودية، باستثناء السياسة النفطية على الأرجح، هو في الواقع عبارة عن وثائق في الاستراتيجيات لا ترتكز إلى مبادئ سليمة في السياسات. تُعِدّ جهات استشارية أجنبية – غربية في معظمها – هذه الوثائق التي تضعها الحكومة السعودية في عهدة البيروقراطيات الوزارية لتطبيقها من أعلى الهرم إلى أسفله.
من الأسباب التي تقف خلف غياب سياسات عامة واضحة ومتماسكة لتطبيق الإستراتيجيات هو وجود شبكة معقّدة من التحديات البيروقراطية، بدءاً من المركزية الشديدة لعملية صناعة القرارات وصولاً إلى تداخل الإختصاصات والصلاحيات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية. غالباً ما يجد الموظفون الحكوميون ذوو الرتب المتدنّية صعوبة في تحقيق الأهداف والنتائج، ويرفعون تقارير عن سير العمل إلى مكاتب إدارة المشاريع في وزاراتهم، وعلى هذه المكاتب أن ترفع بدورها تقارير عن تطبيق الاستراتيجية إلى فريق “رؤية المملكة 2030″ الملحَق بالديوان الملكي.
تُلقي القيادة السعودية بضغوط شديدة على هؤلاء الموظفين الحكوميين لإنجاز المشاريع ضمن مهلٍ زمنية ضاغطة. وهذه الإلحاحية تُحرّكها عوامل إقتصادية خارجية متعددة منها التقلبات في أسعار النفط، فضلاً عن العمليات الإنتقالية السياسية أو إعادة التنظيم داخل النظام الملَكي. وهكذا تحوّلت صياغة السياسات، وهي آلية طويلة وبطيئة بطبيعتها – بدءاً من التحاليل المعمّقة للسياسات وإجراء إستشارات وصولاً إلى تطوير أدوات سليمة في السياسات وبناء أطر عمل للتنسيق – إلى مجرد عصف ذهني يُستخدَم لتقديم وثائق استراتيجية أو صياغتها.
لقد باتت آلية صناعة السياسات مُشابهة للإدارة الصغرى للأعمال – حتى إن مكتب الإدارة الاستراتيجية ل”رؤية 2030” شكّل “مركز الإنجاز والتدخل السريع” للتدخل عند الإقتضاء بهدف دعم التطبيق – عندما تمتنع البيروقراطيات والوزارات عن أداء هذه المهمة. فبدلاً من تسليم الموظفين الحكوميين سياسات مُحَدَّدة (مبادئ توجيهية واضحة عن صناعة القرارات)، يتوجّب على هؤلاء الموظفين، سواءً على المستوى المركزي أو المحلي، تحقيق نتائج محددة لا يعرفون الكثير عنها، والأهم من ذلك لا رأي لهم في بلورتها. على سبيل المثال، في حالة حديقة الملك سلمان ومشروع الرياض الخضراء، وبدلاً من قيام هيئة تطوير مدينة الرياض والمجلس البلدي بتصميم سياسة إنمائية مدينية وطنية واضحة وتنفيذها، إلتفّ مركز الإنجاز والتدخل السريع على هذين الجهازَين البيروقراطيين وعمدَ إلى إنشاء هيئات منفصلة وشبه مستقلة للإشراف على المشروعَين تحت مظلة “رؤية 2030”.
فضلاً عن ذلك، وفي حين يقوم المستشارون بوضع الاستراتيجيات، تتعاقد الحكومة معهم أيضاً لتولّي مهمة التنفيذ إنطلاقاً من فرضية أنهم مُطّلعون على الاستراتيجيات أكثر من سواهم. وهذا الإلتفاف على موظفي الخدمة المدنية والتكنوقراط والمسؤولين الحكوميين المنتخَبين أو المعيّنين، لا يَحدّ وحسب من تطوّرهم المهني، إنما يُقوّض عملية بناء القدرات على نطاق أوسع لتعزيز الخبرات الوطنية في مجال السياسات العامة. إذا لم تتم المبادرة عاجلاً إلى معالجة هذه المسألة، فسوف يحول ذلك دون قدرة الحكومة السعودية على تحقيق الأهداف والتطلعات الواردة في “رؤية 2030”.
حتى الآلية التي اعتُمِدت لوضع الرؤية همّشت عملية صنع السياسات العامة. وبما أن المستشارين الاستراتيجيين أقحموا أربعة أنواع من الأهداف في السياسات – التوزيعي والتأسيسي والتنظيمي وإعادة التوزيع – أصبحت أجندة السياسات مُثقَلة جداً بالأعباء وغير منسَّقة. على سبيل المثال، حاول برنامج الخصخصة السعودي، من دون أن يفلح في ذلك إلى حد كبير، خصخصة الكيانات العامة في مرحلةٍ شهدت إنهياراً في القيَم التخمينية بسبب الأزمة الإقتصادية. لم تنطلق خصخصة أي من المطارات التي نصّ نموذج الشراكات بين القطاعَين العام والخاص على خصخصتها في مدينتَي الرياض والطائف في العام 2017. ولا يزال مشروع الشراكات مُجمَّداً، لا سيما بسبب غياب آلية السياسات، والإكتفاء بخطة للإنجاز.
بما أن المُستشارين يشرفون على إعداد الاستراتيجية وتنفيذها على السواء، ونظراً إلى ارتفاع معدّل تبدّلهم بسبب المهل الزمنية القصيرة للمشاريع، تفتقر الوزارات إلى الذاكرة المؤسسية وتتعرض لمزيد من التهميش والإقصاء من الإنخراط في السياسات العامة. هذا فضلاً عن ندرة البيروقراطيين المؤهَّلين أكاديمياً وذوي النوعية الفائقة الذين يستطيعون تنسيق السياسات في المدى الأبعد، وكثرة المستشارين الرفيعي المستوى الذين يقودون المشاريع الحكومية لكنهم يغادرون الوزارة عندما يتبدّل الوزير. على سبيل المثال، عندما أقال الملك وزير الاقتصاد والتخطيط عادل فقيه في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، غادر معظم المستشارين الوزارة أيضاً، ومنهم هاني خوجة، الشريك سابقاً في شركة “ماكنزي”. وقد اضطُرّ الفريق الجديد بقيادة الوزير محمد التويجري إلى توظيف مزيد من الأشخاص، وفي بعض الحالات، البدء بالمشاريع من جديد.
يتطلب تعزيز آلية صناعة السياسات العامة في السعودية تمكين الكيانات الحكومية وغيرها من أصحاب الشأن، لا سيما الخدمة المدنية المهنية. يقتضي ذلك تطوير إمكاناتهم في تحليل السياسات وإعدادها، واستخدام موظفين حكوميين مؤهّلين ويتقاضون رواتب جيدة، وتأمين مشاركتهم وتمكينهم في إطار الآلية الكاملة لصناعة السياسات العامة – بدءاً من وضع الأجندة وصياغة السياسات وصولاً إلى اتخاذ القرارات بشأن تلك السياسات وتطبيقها وتقييم النتائج. من شأن ذلك أن يساهم في تعزيز الدور الطبيعي لوزارة الإقتصاد والتخطيط في صناعة السياسات المحلية.
ومن شأن السعودية أن تُفيد أيضاً من مأسسة لوبي السياسات العامة ودمقرطته، بما يُفسح في المجال أمام مشاركة مجموعات المصالح المختلفة في عملية التأثير في الحكومة. في الوقت الراهن، يقتصر لوبي السياسات العامة على الشركات الإستشارية المتخصصة في الاستراتيجية الإدارية وبعض الأفراد النافذين، وهم عادةً أفراد الأسرة المالكة أو وكلاؤهم في الأعمال، وبالتالي يفتقر قطاع اللوبي في السعودية إلى الشفافية إلى حد كبير، كما أنه شديد الإقصاء. يُمكن أن يُشكّل قطاع اللوبي في الولايات المتحدة نموذجاً يُحتذى في هذا المجال. لقد أتقنت الحكومة السعودية العمل في قطاع اللوبي الأميركي، لكنها لم تطبّق النموذج نفسه للإفساح في المجال أمام المشاركة في عملية تحليل السياسات، والتشاور بشأنها، وتنسيقها داخل المملكة.
لن تساهم مأسسة لوبي السياسات العامة في السعودية، في ادّخار الأموال الحكومية وحسب (عبر خفض الإنفاق على الاستشارات التي تُقدّمها الشركات المتخصصة في الاستراتيجيات)، بل سوف تؤدّي أيضاً إلى استحداث وظائف جديدة، وتداوُل الأموال الاستشارية داخل الاقتصاد السعودي، وصقل الخيارات في السياسات، وتحسين تطبيق السياسات. ومن شأن دمقرطة اللوبي أن تتيح مجالاً أكبر أمام الرأي العام – وسائر أصحاب الشأن مثل المنظمات غير الحكومية، والمؤسسات الأكاديمية، والقطاع الخاص – للإدلاء بدلوهم في آلية السياسات. وهذا يُخفّف من وطأة الإعتقاد السائد لدى الرأي العام بأنه مقصيٌّ من السياسات العامة، بما يساهم في التخفيف من الضغوط السياسية على الحكومة.

• هادي فتح الله مدير منطقة المشرق ومجلس التعاون الخليجي في مجموعة ” NAMEA Group”، زميل في معهد كورنيل للشؤون العامة في جامعة كورنيل، وعضو في مجموعة “المشكِّلين العالميين” (Global Shapers)، وهي مبادرة منبثقة عن المنتدى الإقتصادي العالمي. لمتابعته عبر تويتر: Hadi_FAO@
• عُرِّب هذا الموضوع من الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى