نهج ترامب في الشرق الأوسط يَتجاهَل الماضي والمستقبل والوضع الإنساني

فيما تستعد واشنطن للإعلان عن “صفقة القرن” في حزيران (يونيو) المقبل لحل القضية الفلسطينية، ينصح أكثر الخبراء بعدم طرح هذه المبادرة لأنها تتجاهل الماضي والمستقبل والوضع الإنساني، وستكون لها تداعيات سيئة على المنطقة.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس: لا لـ”صفقة القرن”

بقلم شبلي تلحمي*

قام صهر الرئيس دونالد ترامب وكبير مستشاريه للشرق الأوسط، جاريد كوشنر، بالرد أخيراً ورفض الإقتراحات القائلة بأن على الإدارة الأميركية التوقف عن تسويق خطة “صفقة القرن” المُتوَقَّعة للسلام في الشرق الأوسط بسبب المخاوف من احتمال موتها فور الإعلان عنها. وكجزء من ميط اللثام، كشفت الإدارة عن خطط لعقد “ورشة عمل إقتصادية” في البحرين لمناقشة “الإستثمارات الإقتصادية المُحتَملة والمبادرات التي يمكن تحقيقها من خلال إتفاقية للسلام”. ورفض الفلسطينيون الفكرة على الفور، ووصفوها بأنها محاولة “لتشجيع التطبيع الإقتصادي للإحتلال الإسرائيلي لفلسطين”.
في حين أن التفاصيل المُحدَّدة لخطة ترامب ما زالت مجهولة، فنحن نعرف فعلياً المبادئ المُثيرة للقلق التي تستند إليها الخطة.
وبصرف النظر عن التفاصيل، فإن نهج ترامب لا يُناقض القانون الدولي والسياسات الأميركية المُعتَمَدة منذ أمدٍ طويل فحسب، بل إنه يُكرّس أيضاً مسؤولية الولايات المتحدة التاريخية في عملية غير عادلة ستؤدي في النهاية إلى نتائج عكسية ضد إسرائيل والفلسطينيين والمصالح الأميركية.
دعنا نبدأ بمبادئ النهج كما كشف عنها كوشنر وأعضاء آخرون في فريق ترامب. بينما يتم تجاهل إتفاقات السلام السابقة وقرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي، يقوم نهج ترامب على ثلاثة مبادئ مُعيبة ومُصَدّعة: “الحقائق” على الأرض كما هي، دعوة إلى المبررات العرقية/الدينية للسيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة، وحوافز إقتصادية لاسترضاء التطلعات السياسية الفلسطينية. الأول يتجاهل تاريخ دور الولايات المتحدة في خلق هذه الحقائق؛ الثاني يتجاهل العواقب المستقبلية لتأطير الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي على أنه صراع عرقي/ديني، بدلاً من نزاع قومي؛ والثالث لا يفتقد طبيعة الصراع الفلسطيني فحسب، بل أيضاً الحالة الإنسانية.
من دون ثقل القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، فإن “الحقائق” على الأرض تعود بالفائدة الكبرى على إسرائيل: يظل الفلسطينيون مُشرّدين عديمي الجنسية ويخضعون للإحتلال. بدرجات متفاوتة، تسيطر إسرائيل على جميع الأراضي الفلسطينية، مع توسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة. في حين أن لدى الفلسطينيين قوات أمنية محدودة وميليشيات مسلحة، فإن إسرائيل تأمر أقوى جيش في المنطقة ويبلغ ناتجها المحلي الإجمالي 23 ضعفاً حجم مثيله في الضفة الغربية وقطاع غزة.
بعض هذه الحقائق يرجع إلى حد كبير إلى الدعم الأميركي التاريخي لإسرائيل. للتأكيد، إنخرط العديد من الإدارات الأميركية المُتعاقبة في جهود حسن نية لمعالجة النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وكانت واعدة أحياناً. واللوم على فشلها يجب توزيعه على الإسرائيليين والفلسطينيين وغيرهم من العرب. لكن التمكين الأميركي الأساسي لإسرائيل ظل دائماً ثابتاً إلى حد كبير.
يتكوّن جزء كبير من هذا التمكين من مبلغ 3.8 مليارات دولار من المساعدات الأميركية السنوية لإسرائيل – أكثر من كل المساعدات الأمنية الأميركية مجتمعة لبقية العالم. لكن أكبر مساعدة لإسرائيل ليست مالية. هناك ثلاثة أصول استراتيجية أميركية حمت بشكل خاص إسرائيل من الشعور بحرارة إقليمية أو دولية ذات معنى بشأن إحتلالها للأراضي الفلسطينية وبناء مستوطنات غير قانونية هناك.
من بين الأصول الكبيرة لصالح إسرائيل هي الوساطة الأميركية التي أدت إلى معاهدات كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر منذ 40 عاماً والتي تدفع بواشنطن إلى ممارسة الكثير من النفوذ للحفاظ عليها منذ ذلك الحين. ويُمكن القول، أن هذه الإتفاقات خدمت المصالح الإسرائيلية والمصرية والأميركية. لقد قللت بشكل كبير من فرص الحرب بين مصر وإسرائيل (شيء جيد). لكنها قلّلت أيضاً من المرونة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين للوصول إلى تسوية – على عكس ما كان يأمل الرئيس جيمي كارتر، وهو جانبٌ يُعبّر عنه الآن ببعضٍ من “خيبة الأمل”.
ثانياً، قامت الولايات المتحدة بحماية إسرائيل في الأمم المتحدة. منذ إنشاء إسرائيل في العام 1948، كانت غالبية “الفيتوات”/حق النقض الني استخدمتها واشنطن في مجلس الأمن الدولي تتعلق بإسرائيل – 43. من المنطقي أن نفترض أنه لولا تهديد الولايات المتحدة باستخدام حق النقض، لكان المجتمع الدولي وافق على فرض عقوبات على إسرائيل بسبب بناء المستوطنات غير القانونية.
ثالثاً، اليد العليا للجيش الإسرائيلي ترجع جزئيا إلى نجاحه في بناء منظمة فعالة؛ خلال بضعة عقود فقط، بنى الإسرائيليون دولة متقدمة ناجحة ومزدهرة. ولكن لا ينبغي أن يكون هناك أي وهم. إن اليد العليا التي تملكها إسرائيل على الجيوش الإقليمية مجتمعة، وربما حتى القوات الروسية في سوريا، هي في الأساس وظيفة لشيء واحد: إلتزام الولايات المتحدة بتزويد إسرائيل بأحدث التقنيات لضمان تفوّقها العسكري النوعي على أي دولة أخرى.
إن المساعدات قد جعلت إسرائيل أكثر أمناً كما هو مقصود. وقد خدم ذلك في كثير من الأحيان المصالح الإسرائيلية والأميركية المتبادلة. لكن إحدى الحجج لمستوى الدعم غير المسبوق كانت أن إسرائيل الآمنة ستكون أكثر قدرة على التسوية. وبدلاً من ذلك، خلقت المساعدات المزيد من عدم التناسق مع انخفاض الحوافز الإسرائيلية للإلتزام بالقانون الدولي والتسوية.
كل هذا للقول إن الإلتزام الأميركي التاريخي بإسرائيل، والذي يظهر في دعم لا مثيل له، يعني أن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية تخفيف الحقائق غير المتماثلة الناتجة من خلال جهود عادلة. بدلاً من ذلك، يَعِدُ ترامب ليس فقط بتكريس عدم المساواة العميقة ولكن أيضاً بنشر أصول قوة عظمى للتأثير في الطرف الأضعف، بما في ذلك من طريق حجب المساعدات الإنسانية كأداة للضغط السياسي.
إلى جانب “الحقائق” التي تتجاهل الماضي، يحتضن نهج ترامب تأطيراً خطيراً للنزاع باعتباره نزاعاً دينياً/عرقياً لا نهاية له في الأفق. إن تبرير مستشاري ترامب للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والسيادة الإسرائيلية على القدس المُوحَّدة بالإشارة إلى الإيمان والإدّعاءات التوراتية أمرٌ خاطئ وخطير على السواء. إنه خاطىء لأن – حتى لو كان كل شخص يحق له الإيمان والسرد الديني – مثل هذه الروايات لا يمكن أن تكون أساس السيادة السياسية في عصرنا. وهذا أمرٌ خطير لأنه يُحرّض الروايات “اليهودية” و “المسيحية” ضد الروايات المسلمة/العربية، ويضمن عقوداً من الصراع من دون أمل كبير في التوصّل إلى حل وسط.
من المؤكد أن الحكومات العربية ستفعل دائماً ما هو جيدٌ لها ولدولها، وقد تحثّها أولوياتها على بلع “الموس” في الأمورالصعبة والإذعان. لكن فكّر في التالي: على الرغم من 40 عاماً من السلام الفعّال من دولة إلى دولة بين إسرائيل ومصر – و24 عاماً من السلام بين إسرائيل والأردن – يرفض الأردنيون والمصريون “التطبيع” مع إسرائيل ويعتبرونها إلى حد كبير عدواً لهم. بالتأكيد، قد تتحدد جنسية المصريين والأردنيين (مثل غيرهم في الدول العربية) مع دولهم أولاً. لكنهم لن يتوقفوا أبداً عن أن يكونوا أيضاً عرباً (والأهم) مسلمين – هويّتان يتم التشديد عليهما بشكل خاص لأن إسرائيل قد عرّفت “شخصيتها” بشكل متزايد من الناحية الدينية/العرقية.
إن سلاماً مع الفلسطينيين يُعالج تطلعاتهم السياسية وتوقهم إلى الحرية هو طريق إسرائيل الوحيد لقبولها من قبل الجماهير العربية والإسلامية؛ من دون سلام إسرائيلي-فلسطيني، إنه صراع يهودي-مسلم أو صراع عربي-إسرائيلي لعقود طويلة مقبلة.
في الوقت الذي يستشهد كوشنر بإسقاط الحديث عن دولتين – وبالتأكيد سيرفض المساواة الكاملة بين الفلسطينيين والإسرائيليين كبديل – فإن كل الحوافز الإقتصادية التي قد يُقدمها ترامب للفلسطينيين لا يُمكن أن تلبي تطلعاتهم أبداً. في الأيام المليئة بالأمل في تسعينات القرن الفائت، تم استثمار الكثير في مشاريع طموحة مثل “بيت لحم 2000”. وعندما انهارت المفاوضات السياسية، إندلعت أعمال العنف، واشتعلت النيران في الإستثمارات. للإفتراض بأن الوعد بالتحسّن الإقتصادي سوف يفوق، ويتفوّق على التطلعات الإنسانية العادية لشعب ناضل بشكل مؤلم لعقود من الزمن هو فقدان أو الإفتقاد لطبيعة الحالة الإنسانية.
يتقاسم القادة الإسرائيليون والفلسطينيون والعرب اللوم عن غياب السلام. لكن الدور الأميركي لا مفرّ منه. التفاصيل جانباً، إن مبادئ نهج ترامب تُورّط الولايات المتحدة في مسار ميؤوس منه والذي يزرع بذور المزيد من المشاكل في المستقبل. لن يكون هناك فائزون هنا، فقط خاسرون، بعضهم أكثر من الآخر.

• شبلي تلحمي زميل كبير غير مقيم في مشروع العلاقات الأميركية مع العالم الإسلامي، وكذلك مركز سياسة الشرق الأوسط، وبرنامج السياسة الخارجية في بروكينغز. وهو أستاذ في كلية أنور السادات للسلام والتنمية بجامعة مريلاند. في الماضي، شغل تلحمي منصب كبير مستشاري وزارة الخارجية الأميركية ومستشار البعثة الأميركية لدى الأمم المتحدة ومستشار عضو الكونغرس لي هاميلتون وكعضو في مجموعة دراسة العراق. يمكنك متابعته على تويتر: @ShibleyTelhami
• كُتِب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرَّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى