كيف يُمكن للعالم العربي أن يُنقِذ نفسه والإقتصاد العالمي؟

على الرغم من الثروات الطائلة التي يملكها العالم العربي، وخصوصاً الدول النفطية منه، لم يستطع بعد لعب دور قيادي في الهيئات التنظيمية والإنمائية للإقتصاد العالمي، الأمر الذي يجعله قادراً على تغيير معادلات إقتصادية ومالية عالمية وإقليمية عدة تدر على أهله بعض الخيرات وتساعد العالم الثالث خصوصاً.

دول الخليج العربي: تستطيع القيام بدور قيادي في النظام العالمي الإقتصادي والمالي

بقلم ليو هيندري وعباس ف. زعيتر*

لا يزال الكثير من اقتصادات العالم تُكافح. من يستطيع الآن مساعدتها وفي العملية، في الوقت عينه، يساعد نفسه؟
نقترح أن يكون الشرق الأوسط (العالم العربي)، ولكن بعد أن تأخذ المنطقة دوراً قيادياً طال انتظاره في الهيئات التنظيمية والإنمائية للإقتصاد العالمي.
هناك مجال كبير للتحسين في قيادة النظام الإقتصادي الدولي، الذي لا يزال يتّسم بالغطرسة المتمثّلة في الإستهلاك المفرط (لا سيما من قبل الإقتصادات الغربية)، والعولمة غير العادلة، وضعف تنظيم البنوك الكبرى.
إذا نظرنا أولاً إلى الإستهلاك المفرط، فإن النفقات الشخصية للأميركيين تُمثّل حوالي 68 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، وهو ما يزيد بمقدار 10 نقاط مئوية عن معظم البلدان المتقدمة الأخرى، وأعلى بمقدار 30 نقطة كاملة عن الصين. في أي وقت يتجاوز فيه الإستهلاك الشخصي حوالي 50 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، هناك خطر كبير على اقتصاد البلد والتوظيف الفعلي الكامل.
تلي ذلك الآثار المستمرة غير العادلة وغير المتكافئة للعولمة، على الرغم من مرور 25 عاماً تقريباً عليها جرت خلالها محاولات لتصحيحها. لا تكمن المشكلة في فرضية العولمة الأساسية المُتمثّلة في التأكيد على الميزة النسبية لكل بلد. بدلاً، كان الخلل هو أن الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية غالباً ما تكون غير قادرة على المنافسة ضد مزيج من الدعم والإعانات غير العادلة، ومعايير العمل السيئة، والممارسات البيئية السيئة، والتلاعب بالعملة.
إن هذه “الإعانات” في مجملها تسحق نهج المنافسة المفتوحة في التجارة، وقد أدت في كل من الولايات المتحدة وأوروبا إلى نقل ملايين الوظائف إلى الخارج، وإلى تحوّل ملايين العمال الآخرين من صناعات التصدير ذات الأجور المرتفعة إلى وظائف خدمة أقل إنتاجية وأقل أجراً.
باختصار، هناك مجموعتان عامتان من قواعد العمل والتجارة. واحدة تُقيم في الدول المتقدمة الأقدم، حيث لا تزال الشركات تتنافس في الغالب بمفردها على أساس فطنة العمل والتمييز في قيمة المنتج. المجموعة الأخرى موجودة في الصين وتايوان وكوريا، حيث توجد سياسات مُفصَّلة لحماية الشركات المحلية، وتُحفّز الشركات الأجنبية على تحويل مرافق الإنتاج والتكنولوجيا إليها، واختيار “أبطال” كمنافسين عالميين مدعومين بشكل كامل من الدولة.
(سنترك الأمر لآخرين لمناقشة الفشل المستمر للهيئات التنظيمية المالية في العالم بالنسبة إلى التنظيم الفعّال للبنوك الكبرى).
يتعيّن على الزعماء الدوليين في كل مكان أن يتوصلوا إلى حلّ بشأن ما يحتاج إلى تغيير وما يمكن تغييره واقعياً. وندعو تحديداً قادة دول الشرق الأوسط المزدهرة إلى لعب دور فوري الآن – ودور مستمر في ما بعد – في الهيئات التنظيمية والتنموية الرائدة في العالم.
نعتقد أن هناك أمرين أساسيين: أولاً، يجب أن يكون الإستهلاك الشخصي في جميع البلدان، المتقدمة والنامية على حد سواء، أكثر توازناً مع الإنتاج الداخلي للسلع الإستهلاكية؛ وثانياً، يتعيَّن على “الدول الفائضة” الرئيسة أن تنشر على الفور جزءاً كبيراً من احتياطاتها الأجنبية المتراكمة إلى حيث ستفعل ما هو أفضل في تحفيز الأجزاء الضعيفة من الإقتصاد العالمي، سواء كان ذلك داخل إقتصاداتها، وفي الخارج بشكل قروض لتنمية طويلة الأجل، و/ أو مساعدة إنمائية رسمية.
كخلفية أخرى لما يجب القيام به الآن، من المهم التفكير في التغييرات المهمة التي أحدثتها الأزمة المالية العالمية قبل عقد من الزمن والتحديات اللاحقة للهجرة، بدءاً بالتغيّرات في الإستقرار السياسي والإجتماعي.
على وجه التحديد، أصبح الإستقرار السياسي والإجتماعي مُعرّضاً للخطر بشكل واضح في جميع أنحاء العالم – داخل أوروبا، التي تشهد تدهوراً نسبياً؛ في العديد من الدول التي كانت تدور في الفلك الروسي سابقاً، والتي لا تبدو مستدامة في دولها الجغرافية الحالية؛ في أميركا اللاتينية، حيث تبنت العديد من الدول النمو الذي تقوده الصادرات مع التركيز على المعادن والمنتجات الزراعية تقريباً مع استبعاد النمو المحلي المُستدام؛ وفي إفريقيا، حيث انخفض فائض الحساب الجاري الموحد في القارة (وإن كان متواضعاً) إلى عجز والأمن الغذائي صار في حالة محفوفة بالمخاطر.
كما تحدث تغييرات في ميزان القوى في العالم.
أصبحت الصين أكثر نشاطاً في المؤسسات الدولية بينما تُوسّع نفوذها الكبير أصلاً في جنوب شرق آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. ومع وجود “البحرية المائية الزرقاء” في الصين – وهي ميزة رئيسة في استراتيجية الحزام والطريق – التي ستتمكن قريباً من عرض القوة الصينية في جميع أنحاء المحيط الهادئ وحتى إلى المحيط الهندي وطريق البحر الشمالي، هناك احتمال على الأقل في حدوث توتر على المستوى الإقليمي والعالمي من حجم لم نشهده منذ الحرب الباردة.
علاوة على خروج بريطانيا المتوقع من الإتحاد الأوروبي، من المحتمل أن يكون هناك المزيد من إعادة ترتيب في الإتحاد الأوروبي، الذي أصبحت تعقيداته الآن لعنة مع ركود العديد من إقتصادات القارة وتقدم عمر السكان في كل مكان بشكل كبير.
وربما سيكون هناك ما يصل إلى 30 دولة فاشلة من بين 60 دولة ديموقراطية دستورية صغيرة أو نحو ذلك، والتي تشكلت خلال الخمسين سنة الأخيرة، إلى جانب إرتفاع العرقية أو القومية التي ترعاها الدولة.
ضمن هذا الإطار القاتم إلى حد ما، نريد الآن التركيز بشكل خاص على الفُرص المُتاحة لتعزيز المستقبل الإقتصادي للشرق الأوسط إذا كانت المنطقة “قادرة على إستغنامها”. من الواضح أن أوراق اللعب موجودة ليد رابحة: المنطقة لديها عدد قليل من الأقران في ما يتعلق بالمزيج الذي تحتضنه من الإحتياطات الهائلة من النفط والغاز، والقوى العاملة الكبيرة والقابلة للتعلم بسرعة، وصناديق الثروة السيادية الضخمة في الإمارات العربية المتحدة والكويت وقطر والمملكة العربية السعودية.
هناك العديد من الخطوات التي يتعيّن على المنطقة إتخاذها لتحقيق إمكاناتها، لكن الهدف قابلٌ للتحقيق.
للبدء، يحتاج الشرق الأوسط، كما فعلت سنغافورة من قبل، إلى تبنّي خطة إقتصادية رئيسة تُسهّل عمل مؤسسات القطاع الخاص. وإلا فإن الخلل بين الإستهلاك والإنتاج سوف يدوم، وسوف يستمر الأفراد الأكثر ذكاءً ورجال الأعمال في الهجرة إلى الغرب.
فبدلاً من أن تكون حكومات المنطقة هي الجهة المُوزِّعة لرأس المال – التي حتى الصين الشيوعية تدرك الآن أن لا معنى لها – تحتاج هذه الحكومات إلى الخروج من الطريق والوقوف جانباً والسماح لأصحاب المشاريع في القطاع الخاص بكسب واسترجاع تكلفة رأس المال بشكل عادل. للمساعدة في تحقيق ذلك، يجب تنفيذ حكم القانون وفرضه في جميع المجالات، ويجب السماح بالتجارة الحرة المفتوحة، ويجب احترام حقوق الملكية الأجنبية، ويجب حماية الحقوق الدينية لجميع المواطنين، ويجب على صناديق الثروة السيادية الضخمة في المنطقة إما أن تقرض أو تُستخدَم على الأقل لتوفير حماية الخسارة الأولى لمؤسسات القطاع الخاص.
يجب على حكومات الشرق الأوسط المزدهرة أن تسعى إلى لعب وتحقيق أدوار رئيسة داخل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، في إطار جهود الإصلاح الجارية التي تستهدف البنوك الكبرى وبيوت الإستثمار، وفي إطار مبادرات المساعدة الإنمائية الرسمية المسؤولة غير التمييزية، وخصوصاً في جميع أنحاء العالم الإسلامي وفي إفريقيا. .
بدايةً، قد يكون من الصعب على بعض دول المنطقة قبول مثل هذه الأدوار الخارجية الجديدة لأسباب ثقافية وبيروقراطية وسياسية، ولأن جميع حكومات المنطقة تعرضت للتهميش واستُبعِدت منذ عقود من الأدوار القيادية المهمة في الهيئات والمنظمات الرئيسة في الغرب. ومع ذلك، إذا لم تُثبت دول الشرق الأوسط المستقرة مالياً نفسها، فستظل دائماً مُستثمِرة في الإقتصاد العالمي فقط وليس من بين قادته.
لقد حان الوقت أيضاً لإبرام إتفاقات تجارة حرة بين جميع الدول العربية، وبتشجيع قوي من الولايات المتحدة يجب أن يكون هناك شرق أوسط معادلاً للإتحاد الأوروبي النقدي. هناك خمس عشرة دولة في الشرق الأوسط تتراوح من الجزائر إلى اليمن تفتقر إلى رأس المال ولديها عاطلون من العمل لقترة طويلة. وفي الوقت عينه، فإن دولاً مثل الكويت وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة – من أكبر منتجي النفط والغاز – لديها رأس مال كبير وتفتقر إلى الناس.
أخيراً، يجب أن تكون الوظائف المُستدامة في القطاع الخاص وإيجاد فرص العمل المستمرة – والتي تحتاج منطقة الشرق الأوسط في المقام الأول إليها لتخفيف الوزن المفرط الحالي للوقود الأحفوري – محور تركيز دائم. لقد كان خلق فرص العمل دائماً النتيجة الجانبية للمشروعات اللامركزية التي تسعى إلى تحقيق الربح والمضطربة التي تديرها نساء ورجال نزاهة.
وبالتالي، نظراً إلى أن صناديق الثروة السيادية في المنطقة تقوم باستثمارات لدعم مبادرات التنمية الإقتصادية الأميركية والأوروبية وجهود الإقتصاد الأخضر وإعادة بناء البنية التحتية، فإنها تحتاج أيضاً إلى نشر قدر كبير من إحتياطاتها الكبيرة لدعم هذه المبادرات نفسها في الشرق الأوسط.
إن آفاق منطقة الشرق الأوسط التي تُحقق أخيراً مستويات مناسبة من النمو الإقتصادي، والقيادة العالمية في جميع المجالات، والمساهمة المتوازنة في الإقتصاد العالمي هي آفاق مُنعشة ومُبهجة.

• ليو هيندري هو الرئيس المشارك لفريق العمل المعني بإيجاد الوظائف، وهو عضو في مجلس العلاقات الخارجية، ورئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة “Trine Acquisition Corp”. عباس زعيتر عضو مشارك في الإدارة ورئيس قسم المعلومات في شركة “زعيتر كابيتال هولدينغز”، وهو عضو في المجلس الاستشاري الدولي لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن، ونائب رئيس مجلس إدارة رابطة المصرفيين العرب في أميركا الشمالية. الآراء المعبر عنها في هذا المقال خاصة بكاتبيها.
• كُتِب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى