أَيُّ سِرٍّ لِلْمِهْنَةِ … في زَمَنِ المَشَاعاتِ الرَقْمِيَّة؟

بقلم الدكتور جورج كلاس*

لَيْسَ في الأَمْرِ سِرٌّ، اَنَّهُ لَمْ يَعُدْ اليوْم لِلْسِّرِ مَطْرَحٌ … ولا حتّى مَرْتَعٌ ، ولا عُبٌ يُخَبَّأُ فيهِ … ولا حٓجٓرٕ يٓنْدٓفِنُ تَحُتٓهُ. كُلُّ ما فينا وحَوْلنا وفَوْقَنا و تَحْتَنا، مَكْشوفٌ مفتوحٌ مَفْضوحٌ!
ما هُوَ بالفِعْلِ “سِرٌّ” … هُوَ الشَيءُ الذي تَعْتَقِدُ أَنْتَ وَحْدَكَ أَنَّهُ “سِرٌّ”، تُخَبِّئُ فِيهِ ذِكْرَياتِكَ، أَوْ تُغَلِّفُ فِيهِ كِذْبَتَكَ البَيْضاءَ لِيَوْمِ فَضْحِ الأُمُورِ واِنْكْشافِ الحَقيقَةِ لِوَحْدِها، بَعْدَ أَنْ يَمُلَّ الزَمنُ من إِخْفائها والحَجْرِ عليْها وحِفْظِها أمانَةً في صندوقَةِ الأمان والودائِع … فَتْسْرِعُ أَنْتَ لِلْإِخْتِباءِ منَ كِذْبَتِكَ العتيقةِ بِكِذْبَةٍ جَديدةٍ، تَخْتَلِقُها غَبَّ الطَلب لِتَهونُ عَليْكَ المُحاكَمَةُ، وتَتفاصَحُ بِمُرافعاتِكَ الدِفاعِيَّةَ و تُدَبِّجُ تَبريراتِكَ الإعْتِذارِيَّةَ … بَيْضاءَ و صَفْراءَ و كَثيرَةَ الألوانِ، عَلَّ في ذلّكَ تَخْفيفٌ لِوَجَعِ الوَخْزِ والنَّكْز، إذا ما اِسْتفاقَ ضَمِيرُكَ بَرْقَة، ولَمْعَةَ رَعْدٍ سَريعَةَ الأُفول.
“سِرُّ المِهْنَةِ”…،أَيُّ مِهْنَة، هُوَ أَنْ تَتَحَمَّلَ “بَهْدَلَةَ المِهْنَةِ” و ذِلَّها الكامِنَ في تَعَرُّجاتِ نَجَاحَاتِها ومراقي إرْتقاءِ مَراتِبِها المُتَوَّجَةِ بِحَصْرِيَّةِ إِحْتكارِ مَعَارِفِ المهنةِ و بَعْضِ الأَسْرَارِ التي يَعْتَقِدُ “المِهَني الإحْترافي” أَنَّهُ قَبَضَ عَلَيْهَا وأَطْبَقَ على بَوَّابَةِ المَدْخَلِ الآيِلِ الى عُمْقِيَّاتِها، مَرْعَبَةَ أنْ لا يشارِكهُ في جَنَّةِ “المعْرِفَةِ السّريَّةِ” مَخْلوقٌ، إنساناً كانَ أو حيواناً أَوْ شيئاً أَوْ صَنَماً ناطِقاً بالسِرِّ الأَعْظَمِ!
تُرى، أَليْسَ الإخْتباءُ بِسرِّ المهنةِ نوْعاً منَ الأنانيَّةِ والنَرْجَسِيَّةِ السَوْداءِ، خَوْفاً منْ إِخْتِلاسِ “الإِكْتشافِ”، وِإِعْطاءِ الغْيْر، أيِّ غَيْرٍ، فُرَصاً لِلْمُنافَساتٍ و إِحْتمالاتِ تَسْجِيلِ نَجاحاتٍ قَدْ تَحْصَلُ على أَيْدِي آخرينَ لاحِقين!؟
أَوْ أن النجاحَ اليتيمَ الذي يَكونُ الشخصُ حَقَّقهُ بالخبرةِ أوْ بالإخْتبارِ بالناّس ،أَوْ بالمصادفَةِ، هوَ عَطٍيَّةٌ مُنْزَلَةٌ حَصْرِيَّةٌ مَدْموغَةٌ لَنْ تَكَرَّرُ؟
هَلْ “سِرُّ المِهنَةِ”، صارَ وَقْفِيَّةً نَسْلٍيًٓةً ذَرِّيَّةً، لا تُوَرَّثُ، ولاتُفيدُ، ولا يُسْتفادُ مِنْهَا؟
“سِرُّ مِهَنَةِ” كُلِّ نَجاحٍ أنْ يُصْبِحَ “السِرُّ مَشاعاً” مَعْرِفِيٌاً لِلْعُمومِ، وإلّْاَ تعالوا نُقيمُ العَزاءَ ونقْرأُ على الإنسانيَّةِ “صلاةَ الغائِبِ”، عَلَّنا نَسْتَفيقُ “بِالْغَلَطِ” منْ عُنَجُهِيَّةِ الإدِّعَاءِ الأَخْرَسِ والأَخْرَقِ… نَحْنُ مَنْ، كُلُّنا فينا مَغَاوِرٌ و دهاليزٌ عَميقَةٌ، نَطْمُرُ في حَفْرِياتِها أَسْرارَنا الحُلْوَةَ والمُرَّةَ وتلكَ التي لاطَعْمَ لها أبداً …أبداً… أبداً. وتلكَ التي نَخترِعُها أَوْ نَتَوَهٌمُ أنٌها أَسرارً، وهيَ لَيْسَتْ.
١- “سِرُّ المهنةِ” عِنْدَ رَجُلِ الإِسْتِخبارات، أَنْ لا يعْرِفَ أَحَدُ أنٌهُ يعْرفُ ما يَعْرفُ… ولا حَتَّى أَنْ يَكْتَشِفَ كَيْفَ يْفَكِّرُ، ولا كَيْفَ يتفاعَل، ولا كَيْفَ يَتَصَرَّف.
٢- “سِرُّ المهنةِ” عّنْدَ الطبيبِ، هو قَسَمٌ أبوقراطِيٌ، أَنْ يَتفانى ويَعْمَلَ ويبحَثَ ويتشاورَ ويتقاسَمَ الخِبرَةَ والإخِتبارَ والتَجْرُبةَ والنتيجَةَ، تَعْميماً لِلْفائِدَةِ… وهوَ أَكْثَرُ، أَنْ يُؤَتَمَنَ على كرامَةِ و أخبارِ صِّحَةِ النَّاسِ وعدمِ إِفْشاءِ أَيِّ سِرٍّ أَوْ أَيِّ خَبَرٍ، حَوْلَ المَرَضِ والحالةِ … لا ماضياً ولا راهِناً ولا مُسْتَقَبلاً.
٣- “سِرُّ المِهْنَةِ” عِنْدَ المُهَنْدِسِ، أَنْ يَعْرِفَ كَيْفَ يتعامَلُ مع الزوايا والمُنبسَطاتِ والأساساتِ والإرْتِفاعاتِ والأحجام، ويُحَوِّلَ الصَخْرَ الى نَقْشٍ ومَداميكَ وفَنَّ عَمارَةٍ مليئاً بالأسرارِ التي يتوارثُها “البنَّاؤون”.
٤- “سِرُّ مِهنَةِ” المُحامي، أنْ يَتَفَرَّسَ بِوَجْهِ مُوَكِّلِهِ، قَبْلَ الموافقَةِ على التَوَكُّلِ، وأنْ يعرِفَ كيفَ يُدافِعُ ويتقَصّى وَيكْشُفُ و يُرافِعُ ويُنازِلُ ويواجِهُ ويَدْحَضُ… وكيْفَ يَحْمِلُ مَعَهُ مَخْرَجَيْنِ لِكُلِّ دَعْوَى؛ مُطالعَةً دِفاعِيَّةً عَنْ فُلان، ومُطالعةً إِتِهامِيَّةً عَنْ فُلانٍ آخَر في القَضِيَّةِ عَيْنِها.
٥- “سِرُّ مِهْنَةِ” السياسيِّ أَنْ يَتَحَلّى بِمواصافاتِ الحَذاقَةِ واللَّياقَةِ والكَياسَةِ والإِناسَةِ، وأَنْ يعرفَ بِطبائِعِ النَّاسِ ويُداريَ ألأحوالَ، ويعرفَ متى يَتَوَجَّبُ عْلَيْهِ أنْ يكونَ صادِقاً، غَبَّ الطَلَب.
٦-وسِرُّ مِهْنةِ “الآدمية” أنْ تنظُرَ الى كُلٌ الناسِ بِعَيْنِ أخلاقِكَ التي تَرَبَّيْتَ عليُها….فترتاحُ أنتَ، ويرتاح ُ الناس ُ، وترتاحُ رُوحُ أَهلِكَ في مَراتِبِ النور.
٧- “سرُّ مهنةِ” الطبًاخ أنهُ يعرفُ طَعمَ فَمِهِ، ويُتقنُ قياسَ المقادير وفَنَّ تَتْبيلِ مُكَوِّناتِ كلّ أَكْلَةٍ، حيثُ لكّلِ مَطبخٍ نَكْهَته.
٨- “سِر ُّ المِهنة” عندَ رَجُلِ الدين أَنْ يكونَ إِبْناً بارّاً للدين، ورسولاً لا “رَجُلَ أَعْمالٍ روحِيّة”.
٩- سِرُّ مهنة القلب… أنْ يتذكّر و يُذَكِّر أن الأيام لا يمكنها أن تمحو بصماتِ القلب والحب الأبيض، مهما شاخ الزمن.
ملحوظة:
محظوظَةٌ هي المرأَةُ لأنَّ الأَلْسُنَ لا تتناولها تجريحاً و سَبَّاً عندَ انتقادِ أهلِ الدينِ وسلوكاتِهم، لأنها ليست “إمرأة دين”! إنَّهُ سِرُّ المِهْنةِ… أن تبقى المرأة منزّهةً عن أي خطأ وبعيدة من كل خطيئة.
هذه بَراءَةُ إختراع ٍ مّسَجٌلة… وجميع ُ الحقوقِ والأسرارِ مَحْفوظةٌ للمؤلّف الذي يفكر بقلبه…والقلبُ لا يُخطئ ابداً ابداً.

• أكاديمي وباحث لبناني، والعميد السابق لكلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى