مصر: صراعٌ بين السيسي والمؤسسة العسكرية على السيطرة السياسية

النقاشات الداخلية حول التعديلات الجديدة في مصر تكشف عن تجدُّد الصراع بين رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي والجيش على السيطرة السياسية.

الإستفتاء على التعديلات الدستورية: منح الجيش اليد الطولى

بقلم بهي الدين حسن*

تركّزت الأضواء، داخل مصر وخارجها، في ما يتعلق بالتعديلات الدستورية التي أُقِرَّت في 20-22 نيسان (إبريل) الفائت، على تلك التي تُمكِّن الرئيس عبد الفتاح السيسي من الإستمرار في الحكم ثماني سنوات إضافية والهيمنة الكاملة على السلطة القضائية. في المقابل، لم تحظَ التعديلات الدستورية المتصلة بدور القوات المسلحة في الشأن السياسي بالحد الأدنى من الإهتمام داخل مصر وخارجها، ولا في مداولات البرلمان أيضاً، بما يتناسب مع انعكاساتها على مستقبل النظام السياسي والاقتصادي وإمكانية التداول السلمي للسلطة.
يمنح تعديل المادة 200 من الدستور القوات المسلحة لأول مرة مهام ”صون الدستور والديموقراطية والحفاظ على المقوّمات الأساسية للدولة ومدنيتها ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد“. بذلك يصير الجيش فوق كل سلطات الدولة على الصعيد اليومي، وخصوصاً في وقت الأحداث السياسية الكبرى، إذ يفوّضه ذلك التعديل الدستوري ضمناً أمر تفسير الدستور في ما يتعلق بهذه الأمور على حساب المحكمة الدستورية العليا، بل واستخدام مايحتكره من قوة مسلحة ” بوصفه القوة القادرة على فرض المصلحة العليا للدولة”. بعبارة أخرى، بإمكان الجيش فرض وجهة نظره ومشيئته على مؤسسات الدولة الأخرى وكافة الأطراف السياسية في الحكم والمعارضة، بما في ذلك إحتمال “منع وصول غير العسكريين إلى مقعد الرئاسة، أو ترجيح كفة فصيل سياسي على حساب آخر”. يستوي الأمر في حالة اندلاع احتجاج شعبي واسع النطاق أو حالة تمخّض انتخابات برلمانية أو رئاسية عن نتائج قد يعتبرها الجيش مهددة “للدستور أو الديموقراطية أو المقوّمات الأساسية للدولة أو مدنيتها أو مكاسب الشعب”، وهي أمور ليس لديها تعريف منضبط في الدستور أو القانون.
جدير بالذكر أن الجيش المصري سبق أن مارس هذا الدور من قبل ولكن من دون غطاء دستوري، حين قطع الجيش الطريق على الانتفاضة الشعبية في كانون الثاني (يناير) 2011 وأجبر الرئيس الأسبق حسني مبارك على التنحي، ولكن ليس لصالح القوى الشعبية، بل لصالح مجلسه العسكري الأعلى. ثم كرر ذلك في 3 تموز (يوليو) 2013 حين أسقط الرئيس الأسبق محمد مرسي وقطع الطريق أيضاً على انتفاضة 30 حزيران (يونيو) ضد حكم جماعة “الإخوان المسلمين”، ثم صار بعدها القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي هو الحاكم الفعلي للبلاد إلى أن انتُخِب رئيساً للجمهورية بعد أقل من عام.
لا تحول صياغة تعديل المادة 200 دون احتمال استخدام هذه الصلاحيات في مواجهة رئيس ذي خلفية عسكرية أيضاً، بمن في ذلك الرئيس السيسي. فبمقتضى هذا التعديل، “سيكون على القوات المسلحة التحرك الفوري بقرار من قائدها العام، دون انتظار قرار من رئيس الجمهورية… لإقرار ما تراه محققاً للصالح العام”. فالتعديل يؤكّد على أن القانون الحاكم لمعادلات النظام السياسي في مصر منذ أول انقلاب عسكري في العام 1952 هو الصراع السياسي الدائم بين رئيس الجمهورية والجيش الذي رفعه على أكتافه لسدة الحكم.
كانت المادة 200 (والمادة ذات الصلة في كل الدساتير المصرية) تحصر مهام الجيش بحماية البلاد والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها. إلا أن دستور 1964 إنفرد بإضافة مهمة “حماية مكاسب النضال الشعبي الإشتراكية”. وقد وُلد هذا النص الإستثنائي في ذروة الصراع السياسي داخل المؤسسة العسكرية على الحكم بين الرئيس جمال عبد الناصر ووزير دفاعه عبد الحكيم عامر. وقد ترتب عن هذا النص الجديد تعزيز النفوذ السياسي لعامر. فبمقتضاه تشكلت هيئة عسكرية أمنية لمحاربة الإقطاع ارتكبت جرائم بشعة ضد المدنيين.و لم يتوقف هذا الفصل من الصراع على السلطة إلا بعد إلحاق إسرائيل هزيمة كبرى بالجيش المصري في حزيران (يونيو) 1967، وقتل أعوان عبد الناصر لعامر بعدها. يتفق المؤرخون على أن الأداء الكارثي للجيش في هذه الحرب هو أحد ثمار الصراع السياسي المُزمن داخله. لم يتوقف الصراع السياسي بين الرئيس والجيش بوفاة عبد الناصر، بل تواصل مع الرئيس الجديد أنور السادات، إلى أن تطور إلى محاولة إنقلاب في العام 1971.
خلال حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، تواصل الصراع من خلال قيادات عسكرية أخرى. جرى تبادل الإتهامات بالخيانة بين الرئيس (الذي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة) وبعض القيادات العليا العسكرية في ميدان الحرب وعلى مائدة التفاوض. لم يهدأ بال الرئيس السادات إلا بعدما أقصى بطرق متنوعة أبرز نجوم حرب تشرين الأول (أكتوبر) من العسكريين الذين كانوا يحظون بالشعبية. لكن ضباطاً بالجيش اغتالوه في العام 1981 في أثناء عرض عسكري في مدينة نصر بالقاهرة حيث كان الجيش الطرف الوحيد المسؤول عن الأمن فيها. كان السادات قد عيّن قبلها حسني مبارك، وهو الأقل طموحاً سياسياً بين قادة جيشه، نائباً له. إستخدم الرئيس الجديد حسني مبارك وسائل متنوعة للحد من بريق وزير دفاعه عبد الحليم أبو غزالة الذي تمتع بشعبية كبيرة داخل الجيش، بما في ذلك إتهامه بفضائح نسائية في وسائل الإعلام، إلى أن أقاله وعيّن رئيس حرسه محمد طنطاوي وزيراً للدفاع. لكن الأخير أقصاه في 2011 بعدما قضى عشرين عاماً في الوزارة، وهي أطول مدة لوزير دفاع مصري في هذا المنصب.
رغم حرص الرئيس السيسي على اتباع سياسة “الكرسي الدوار” مع كبار القادة العسكريين من أجل التخلص المبكر من كل نجم سياسي محتمل “ولمنع الإنقلاب عليه”، شهد العامان الأخيران مؤشرات على احتدام الصراع بين الرئيس السيسي والعسكريين. ففي خلال 15 شهراً فقط في الفترة الممتدّة من تشرين الأول (أكتوبر) 2017 حتى كانون الأول (ديسمبر) 2018، جرى إقصاء مفاجئ لكل من محمود حجازي رئيس الأركان، واللواء خالد فوزي مدير المخابرات العامة، ووزير الدفاع صدقي صبحي، واللواء محمد عرفان جمال الدين مدير جهاز الرقابة الإدارية، ومحمد الشحات مدير المخابرات العسكرية. وخلال الفترة نفسها، جرت عملية إقالة واسعة النطاق لأكثر من مئتين من كبار قيادات المخابرات العامة، وذلك بصورة غير متوقّعة من دون تقديم أي مبرّر للرأي العام. وعيّن السيسي مدير مكتبه اللواء عباس كامل مديراً للمخابرات العامة، وجدير بالذكر أن ثلاثة من أبناء السيسي قد شغلوا أخيراً مواقع قيادية مؤثرة في المخابرات العامة وجهاز الرقابة الإدارية.
وصل هذا الصراع ذروته في نهاية العام 2017 حين أعلن على التوالي إثنان من أبرز القادة العسكريين المتقاعدين، أحمد شفيق القائد الأسبق للقوات الجوية، وسامي عنان رئيس الأركان الأسبق، إعتزامهما تحدي السيسي في الإنتخابات الرئاسية في العام 2018، وتلاهما ضابط ثالث هو العقيد أحمد قنصوة من القيادات الوسطي وغير متقاعد. إنتهى الأمر بوضع الأول في الإقامة الجبرية، وبمحاكمة وسجن الثاني والثالث. كما تعرض عشرات من ضباط الجيش المتعاطفين مع عنان للإحتجاز في السجن. من المؤكد أن أجواء الصراع بين السيسي وجيشه مختلفة عن تلك التي أحاطت بالصراع بين عبد الناصر وعامر عند وضع دستور 1964 بما تضمنه من نص جديد زاد من النفوذ السياسي للجيش، ولكن من المرجح أن تكون أجواء الصراع الجديدة على صلة أيضاً بتعديل المادة 200.
استغل عبد الناصر هزيمة حزيران (يونيو) 1967 لتقليص الدور السياسي للمؤسسة العسكرية، وفي المقابل توسيع دور المؤسسة الأمنية الشرطية على حسابها. فقرر إنشاء قوات الأمن المركزي التي توسّع حجمها سريعاً مع إنضمام مئات الألوف من المجندين للخدمة العسكرية إليها، بحيث صارت جيشاً موازياً. بإبرام إتفاقات كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل توقف تدريجاً إعتبار الدولة العبرية خطراً على الأمن القومي، وبذلك بدأت عملية إعادة تعريف “العدو”. ففي أعقاب حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، جرى الإعتماد التدريجي على الجيش في القمع الداخلي. فقد استعان السادات به للسيطرة على المدن الرئيسة خلال الإنتفاضة الشعبية في كانون الثاني (يناير) 1977. كما استعان به مبارك في قمع التمرّد الجزئي لقوات الأمن المركزي في العام 1986. ومنذ استعان به مبارك في كانون الثاني (يناير) 2011، لم يغادر الجيش المدن وصار لاحقاً الحاكم باسمه. لقد استعاد الجيش بذلك نفوذه السياسي الذي قلصه عبد الناصر بعد هزيمة 1967.
يبدو هذا الصراع متواصلاً أيضاً في إطار التعديلات الدستورية الأخيرة، ولكن مسرحه هو البرلمان – الذي تتشكل غالبيته من قيادات عسكرية وأمنية سابقة ومن أشخاص معروفين بصلاتهم الوثيقة بالمؤسسات العسكرية والأمنية. فقد امتنع 94 نائباً من دون سبب مُعلَن عن حضور جلسة الإقرار المبدئي لها، واعترض أو امتنع عن التصويت عليها نواب معروفون بصلاتهم الوثيقة بالأجهزة الأمنية. بينما تظل قائمة النواب (155 نائباً) الذين قدموا التعديلات المقترحة سرية على الرأي العام، بل حتى على أعضاء البرلمان أنفسهم. وبعد تقليص فترة حكم السيسي، شارك 553 من بين 596 نائباً في جلسة الاقتراع الأخيرة في 16 نيسان (إبريل)، مما يرجح أن هذا التعديل بالذات، أي المتعلق بمدة حكم السيسي، هو موضع خلاف داخل المؤسسات العسكرية والأمنية.
كما أن رئيس البرلمان علي عبد العال وجّه الدعوة إلى 720 شخصية عامة ورجل دولة ووزيراً سابقاً، ورئيس وأعضاء لجنة الخمسين التي وضعت الدستور، وذلك للمشاركة في ما أسماه “الحوار المجتمعي” في البرلمان حول التعديلات الدستورية. وقد لبّى الدعوة 11 فقط منهم، بينما عبّرت رموز مرموقة في نظام مبارك عن معارضتها الحادة علناً للتعديلات الدستورية ولمشروعية إجراء الاستفتاء عليها. على سبيل المثال، لمّح حسام بدراوي، وهو آخر أمين عام للحزب الوطني الديموقراطي السابق الذي كان يتزعّمه مبارك، في تغريدة عبر تويتر إلى أن هذه التعديلات ليست السبيل المناسب لتحقيق “الإستقرار المؤسسي” في مصر. كما شكك بدراوي لاحقاً في المشروعية القانونية للإستفتاء علي هذه التعديلات.
صار الجيش منذ انقلابه في تموز (يوليو) 2013 المشرف والمراقب الأول على الإقتصاد المصري. فمع استلام السيسي الحكم، كرّس جهوده من أجل التمكين السياسي والاقتصادي للجيش و”توليد أقصى قدرٍ من الأرباح للعسكريين وشبكاتهم المختلفة”، والمساعدة على خلق طبقة عريضة من العسكريين المتقاعدين والعاملين في المنشآت العسكرية والأمنية والاقتصادية والمدنية ومؤسسات الدولة والهيئات الحكومية.
قد تُغرق طبقة الضباط وحلفاؤها مصر في حمام دماء في حال تعرّض احتكارها للسياسة والإقتصاد للتهديد. إن تعديل المادة 200 هو دسترة للأمر الواقع الجديد. ولكن التعديل غير معني بمعالجة الصراع السياسي المُزمن داخل النخب العسكرية ذاتها، ولا الأنماط الجديدة من الصراعات الناشئة لأسباب إقتصادية. فقد بدأت تطفو على السطح صراعات جماعات المصالح العسكرية المتعددة حول اقتسام الغنائم، غير أن أكثر ما يقلق الجيش ليس هذه الانقسامات الداخلية، بل خطر تجدد اضطرابات شعبية واسعة النطاق يكون مسؤولاً عن قمعها. فقد يؤدي ذلك إلى حدوث “إنشقاق داخلي” في الجيش ذاته نتيجة الإنقسام الطبقي داخله، كما قد يؤدي إلى احتدام الصراع بين “الملك” الحالي وصانع الملوك حول أيهما له الأولوية، حماية رئيس الجمهورية، أم حماية الجيش من الإنشقاق.

• بهي الدين حسن مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان. لمتابعته عبر تويتر: BaheyHassan@

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى