مهما كانت نتيجة المواجهة حول صواريخ “أس-400″، فإن العلاقات بين أميركا وتركيا ستزداد سوءاً

يبدو أن العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة لم تعد تندرج تحت وصفها التاريخي “استراتيجية”، مع تزايد حدة المواجهة بينهما بشأن منظومة الدفاع الروسي “أس-400″ التي يتمسك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالمضي قدماً فيها وتهديدات البيت الأبيض والبنتاغون بـ”عواقب وخيمة” إذا ما تمّت الصفقة.

“صواريخ-400”: سبب الأزمة بين واشنطن وأنقرة

بقلم إياد الدقّة*

إنخرطت الولايات المتحدة وتركيا في محادثات ديبلوماسية مُكثفة منذ أكثر من عام ونيّف الآن لمحاولة حلّ النزاع المتصاعد بشأن قرار الحكومة التركية شراء نظام الدفاع الصاروخي “أس-400” المُتقدِّم من روسيا. تحدّث الرئيسان دونالد ترامب ورجب طيب أردوغان عن الأمر شخصياً مرات عدة، بما في ذلك في مكالمة هاتفية في أواخر الشهر الفائت. لكن الخلاف بين الإثنين لا يزال كبيراً جداً لتقريب وجهات النظر. كيف سيكون حلّ هذه المواجهة، إن وجد، يُمكن أن يُغيّر مسار العلاقات الأميركية – التركية بشكل دائم، وبالتالي دور تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعلاقاتها الغربية الأخرى.
تريد واشنطن من تركيا وقف عملية الإستحواذ لصواريخ “أس-400″، بحجة أن نشر نظام أسلحة كهذا على الأراضي التركية يُمكن أن يُعرّض للخطر الفعالية التشغيلية للطائرة الأميركية المقاتلة “أف – 35″ الجديدة. وتركيا، واحدة من العديد من الدول المشاركة في برنامج ال”أف-35″ الذي طال انتظاره حيث يبلغ حجمه تريليونات الدولارات، طلبت أكثر من 100 طائرة، ومن المقرر أن يتم تسليم أولى الطائرات في وقت لاحق من هذا العام. وقد جادلت تركيا بأن قرار ال”أس-400” هو مسألة تتعلق بالسيادة، وإذا كانت المخاوف تقنية، فستعمل مع الولايات المتحدة والشركاء في حلف “الناتو” لتخفيف وإزالة أي خطر.
في الأسابيع الأخيرة، زادت الولايات المتحدة الضغط على تركيا. في أوائل نيسان (إبريل)، جمّدت واشنطن تسليم أي طائرة “أف-35 أس” حتى يتم الوصول إلى حل لشراء الصواريخ الروسية. ثم رفعت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ من الحزبين الضغط من طريق تحذير تركيا في مقال إفتتاحي بأنه بينما تُعتبر شريكاً مهماً في برنامج ال”أف-35″، فإنه “يُمكن الإستغناء عنها”. لقد أعطوا أنقرة مهلة أخيرة: ينبغي أن تُقرّر قبل نهاية العام الحالي ما إذا كانت ستحصل على “أس-400” أو “أف-35″، لأنها “لا يمكنها الحصول على كليهما”. ولدعم موقفه، هدّد الكونغرس بفرض عقوبات بموجب قانون مكافحة خصوم أميركا لعام 2017 من خلال العقوبات.
من وجهة نظر أميركية، فإن وجود عضو في حلف “الناتو” يشتري ويُدير نظام دفاع روسياً متطوراً ليس فقط مسؤولية تقنية. إن لذلك أهمية جيوسياسية ورمزية عليا، بالنظر إلى الرسالة التي سترسله هذه العملية حول العلاقات الدفاعية الأميركية مع حلفائها. اليوم، تركيا تتصدى لمطالب الولايات المتحدة وتشتري أسلحة روسية متقدمة. غداً قد يكون حليف آخر لحلف الناتو يريد ذلك. يبدو أن صواريخ “أس-400” هي بمثابة إسفين تكتيكي تهدف إلى إبراز شقوق “الناتو” الحالية في وقت تبدو القيادة الغربية، من سوريا إلى أوكرانيا، مهزوزة بالفعل – كي لا نذكر أي شيء من الأسئلة التي أثارها ترامب باستمرار حول أهمية “الناتو” وحتى مكانة أميركا في الحلف. كان من غير المقبول دائماً بالنسبة إلى الكونغرس، والجزء الأكبر من واشنطن، الموافقة على حصول تركيا على نظام الدفاع الصاروخي هذا من موسكو.
ليس من المستغرب، رغم ذلك، أن تركيا قد صعّدت موقفها وهدّدت بفتح مفاوضات لمجموعة ثانية من صواريخ “أس-400” مع روسيا إذا واصل الشركاء الغربيون تكتيكات الضغط عليها. وأعلن وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو أنه لا مانع من شراء طائرات مقاتلة متطورة من موردين آخرين، بما في ذلك روسيا أو الصين، إذا امتنع الأميركيون عن بيع طائرة “أف-35”. وقد وصف أردوغان عقد ال”أس-400″ بأنه “صفقة مبرمة نهائياً”، حتى إنه اقترح أن يتم تقديم تاريخ التسليم بضعة أشهر.
يلعب كلا الجانبين “لعبة الدجاج” بشكل فعّال، مع مطالبة بعض محطات الأخبار الأميركية ذات النفوذ “الناتو” إلى “وقف خداع تركيا”. والحجة هي أنه على الرغم من تهديدات أردوغان بالبحث في مكان آخر عن معدات عسكرية، فإنه لن يستطيع الإبتعاد أبداً من الغرب، لأنه سيصبح أسيراً للرئيس فلاديمير بوتين بدلاً من ذلك.
إن الحجة على وشك أن يتم إختبارها، ولن يتراجع الأتراك بسهولة. والحقيقة هي أن المسؤولين الأتراك قد اشتكوا منذ فترة طويلة من “تبعية أحادية الجانب” مع الغرب من أجل المشتريات العسكرية واحتياجات الدفاع الوطني. خلال الحرب الباردة، شعرت أنقرة بأنها مضطرة إلى قبول ما يصفه الاستراتيجيون الأتراك بأنه “عجز أمني” مقبول طالما ظل التهديد السوفياتي الأكبر قائماً. اليوم، الأتراك يُعيدون تقييم تقييمهم الاستراتيجي ويسعون إلى التحوّط، ويتطلعون شرقاً، ليس فقط إلى موسكو ولكن عبر آسيا.
لكن تكاليف التنويع الجيوسياسي لدولة مثل تركيا، خصوصاً في منطقة عسكرية حساسة، قد تكون مرتفعة للغاية. إلى جانب تبجّحها وخطابها الشعبوي، تعرف الحكومة التركية أن الولايات المتحدة لديها الوسائل لفرض الألم الاقتصادي. لن يتم منع تركيا فقط من تلقي أي طائرة من طراز “أف-35” في المستقبل، ولكن شركات الدفاع التركية المشاركة في إنتاج وتجميع واختبار مكوّنات عدة للطائرة ستخسر مليارات الدولارات من الأعمال. ومن شأن العقوبات الأميركية الأوسع أن تضر الصادرات الأخرى غير ذات الصلة لشركات الدفاع التركية، بما في ذلك عقد بقيمة 1.5 مليار دولار لتسليم 30 طائرة هليكوبتر تركية من طراز “T129 ATAK” إلى باكستان. تتضمن ال”T129s” تقنيات محركات أميركية مُرخَّصة والتي تتطلب تصاريح تصدير من قبل وزارة الخارجية الأميركية. أخيراً، تتابع الأسواق العالمية عن كثب الموقف، مع تداعيات كبيرة محتملة على الليرة التركية، التي انخفضت بالفعل بشكل كبير مقابل العملات الأجنبية خلال العام الفائت.
تركيا لديها أيضاً روسيا كي تقلق. كيف سيكون رد فعل بوتين إذا عكس أردوغان قراره لشراء الصواريخ “أس-400″؟ في محاولة لمساعدة أردوغان على الخروج من المأزق، هل سيسعد بوتين برؤية روسيا تحصل ببساطة على الأموال المستحقة على التزامات تركيا التعاقدية إذا تخلّت أنقرة عن الصفقة؟ أم أنه سيلعب أيضاً “كرة قاسية” ويُهدد بإنهاء التعاون في المجالات الأخرى ذات الإهتمام المشترك، على سبيل المثال، في شمال سوريا؟
تواصل جميع الأطراف التفاوض في محاولة لإيجاد طريقة إبداعية خلّاقة للخروج من هذه الفوضى. هناك حديث – على الرغم من أنه من غير الواضح مدى مصداقية هذه المقترحات في الوقت الحالي – بأنه لا يزال بإمكان تركيا شراء صواريخ “أس-400″، ولكن لن يتم نشرها فعلياً أو حتى شحنها إلى بلد ثالث لحفظها. يُقال إن المسؤولين الأميركيين يعرضون صواريخ باتريوت المُقترَضة، حيث تم تصميم أنظمة باتريوت جديدة لتركيا ونُشرت فيها خلال أربع إلى خمس سنوات. في السادس من هذا الشهر، سافر الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، إلى أنقرة للضغط لصالح خيار صواريخ باتريوت الأميركية، من أجل الحدّ من زيادة التدهور في العلاقات الأمنية مع تركيا.
بغض النظر عن النتيجة، رغم ذلك، سوف يُثار المزيد من الأسئلة في واشنطن وبروكسل حول دور تركيا وقيمتها في “الناتو”، وما إذا كانت جزءاً من الحلف فعلياً. في تركيا، في هذه الأثناء، ستتسمم العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة أكثر، مما سيوفّر الكثير من العلف لتنامي معاداة أميركا بين النخبة التركية وفي المجال العام. وقد تنتهي الحرب على الصواريخ الروسية، لكن التوترات والإحباطات الكامنة التي تُخيم على العلاقات وتُغذّي الإستياء والغضب بين الولايات المتحدة وتركيا قد تزداد سوءاً.

• إياد الدقة هو زميل في مركز الدراسات التركية الحديثة في كلية نورمان باترسون للشؤون الدولية بجامعة كارلتون في أوتاوا، كندا
• كُتِب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى