رمضان والحنين لأيام لا تُنسى…؟!

بقلم عرفان نظام الدين*

الحنين إلى الوطن والأهل والأحباب والأصدقاء أمرٌ طبيعي، ومؤلم في بعض الاحيان كلما طالت الغربة واشتد الشوق لنُردّد مع شاعرنا الراحل الكبير عمر ابو ريشة:
ويح نفسي طال اغترابي فواوحشتاه ..كان التلاقي
كيف لا و نحن نتحدث عن موطن الحب والياسمين ونقول نحن أسرى التراب وما اطلقتنا بعد عن طيب أسره أصفاد، ألم يقل لنا الغائب الحاضر شاعرنا المُبدع نزار قباني:
وكيف أهرب منه إنه قدري فهل يملك النهر تغييراً لمجراه.
هذه المشاعر الفياضة تثور كل يوم ولكن ماذا عن رمضان شهر البركة والتسامح والمحبة والايمان والعادات الدمشقية الجميلة والمميزة ترسم ملامح لوحة نوستالجيا كاملة يمتزج بها الالم بالامل والعذاب بالشوق ونحن نتذكر ولا ننسى ونعيش في عبق الذكريات بكل ما فيها من بهجة وفرح وأصالة وعناق الأب والأم ورضاهما.
ومهما حاولنا إعطاء وصف شامل يُعبّر عن شهر المشاركة الوجدانية وموسم التلاحم العائلي والاجتماعي والعاطفي فإننا لن ننجح في إعطاء وصف حقيقي لمشهد الغروب ولحظة إنطلاق الأذان من ماذن المساجد هاتفة الله أكبر مع انتظار وخشوع ورحمة والتزام صبر وعطاء وراحة نفسية.
لحظةُ سكون رائعة تعم ارجاء العالم الاسلامي تسكت فيها كل الاصوات إلّا صوت الح،ق وتشكل الحد الفاصل بين معنيين متناقضين ومتلازمين للحياة بشقيها الدنيوي والديني. ورغم ان الصيام واحد والفريضة واحدة والعادات متشابهة في الوطن العربي فإن لكل بلد نكهته الخاصة واسلوبه في احتفاله برمضان ولياليه المليئة بالذكريات الحلوة وعلاقاته العائلية المميزة حيث يحلو السهر من العشاء الى السحور. وقد أُتيح لي قضاء الشهر المبارك في معظم البلاد العربية، وكانت سعادتي واحدة في كل مكان رغم ان للقاهرة سحرها الخاص ولياليها الرمضانية المُشبعة بالبهجة وفوازيرها وسهراتها المتنوعة ونيلها المضيء وضجيجها المطرز بأناشيد الأطفال وهم يحملون قناديلهم الملوّنة الزاهية مرددين “واحوي واحوي وحالو ياحالو رمضان كريم يا حالو”.
وفي غربتي أحنّ بحرقة الى ليالي رمضان الدمشقية العريقة، وروعة لحظة التفاف العائلة حول مائدة الإفطار يجمعها الحب ينطلق بعدها الجميع لتأدية صلاة التراويح ومنها الى لقاءات الإلفة والمحبة والسمر والروابط العائلية والإجتماعية التي كانت تتميز بها الشام. وذكريات دمشق الرمضانية مُشبعة بعطر الياسمين وسحر لم أجد له مثيلاً، وكانها فسيفساء تبدأ بمعاني الإيمان وتتواصل الى الروح التسامحية التي تضيفها على نفسيات الناس، فتُلغى من قواميسهم الخلافات والحقد والمشاكل لتحل محلها المحبة مُحلّاة بنكهة مميزة يغنيها المسحر (ابو طبلة او المسحراتي) وهو ينادي: (يا نايم وحّد الدايم يانايم وحّد الله) الى المأكولات الرمضانية الشامية من قمر الدين وخشاف وتسقية (فتة الحمص) وفتوش (ومعروك) رغيف شهي لا يُصنع إلّا في رمضان وناعم (جراد) وهو عبارة عن رقائق شفافة مُحلّاة بالدبس (العسل الاسود) يحملها البائع في قفص على راسه وهو (ينادي ياللي الهوا رماك يا ناعم). و لا تنتهي الذكريات الرمضانية المُحببة والمشبعة بمشاعر رمضانية وانسانية مع أنه لا بد من القول ان رمضان لا يعني الأكل والمآدب والبذخ والنوم طوال النهار والسهر على التلفزيون وأماكن اللهو ونسيان الروابط العائلية والجانب الروحي من الشهر الفضيل، والغرق في فوضى المسلسلات والبرامج التافهة حتى قيل يوماً ان البعض حوَّل الشهر المبارك الى شهر المسلسلات والشراهة.
وأختم بتهنئتكم بقدوم الشهر الفضيل وكل رمضان وأنتم بخير.

• عرفان نظام الدين كاتب، إعلامي وصحافي عربي مخضرم، كان رئيساً لتحرير صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية والمستشار العام والمشرف على البرامج والأخبار في محطة “أم بي سي” التلفزيونية. يمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: arfane@hotmail.co.uk أو متابعته على : www.facebook.com/arfan.nezameddin

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى