كيف ننساها… ومُسبِّبوها رابضُون على صدر الوطن؟

بقلم هنري زغيب*

إِنها ذاكرةٌ سوداءُ في تاريخ الوطن.
13 نيسان (إبريل) 1975 ذاكرةٌ سوداءُ في مسيرة بلادنا. تحطَّمت على أَصدائها طُمُوحاتٌ وأَحلامٌ، وتجمَّدت مسيرةُ وطنٍ كان ساطعًا في نهضةٍ عمرانية وثقافية واجتماعية رائعة فتآمَرَت عليه غربانُ الداخل والخارج، واشتعلَت فيه نيرانٌ ما زالت من حُروقها بقايا تؤَجِّج الأَلم وتُعيدُ الغصَة الحارقة في القلوب والنفوس.
بعد أَربعة وأَربعين عامًا، ما الذي يبقى في مكامن الذاكرة؟ صوَرٌ في الصحف والمجلَّات، أَفلامٌ وثائقيةٌ على الشاشات التلـﭭـزيونية، مقالاتٌ وتحاليل، ندواتٌ وأَحاديثُ وكلماتٌ مكرَّرة!
أَربعةٌ وأَربعون عامًا… مَن وُلدوا إِبَّانها لا يعرفُون، من وُلدوا قُبَيْلها لا يتذكَّرُون، من عاشوها يستعيدونها في لحظاتٍ هي بين الحسرة والغضَب، بين اللوعة واللعنة: اللوعة على بعض عُمْرٍ مضى في الخوف والخطر، واللعنة على مَن سبَّـبُـوا حربًا جمَّدت صعودَ لبنان الساطعَ إِلى قمة النهضة والحضارة، خدمةً لدولة عدُوَّةٍ تقضم الأَرض وتغتصب التاريخ.
بعد أَربعة وأَربعين عامًا، ما الذي يبقى في مكامن الذاكرة؟
هل ذاكرةٌ جماعيةٌ تمحو من مكامنها ذكرياتِ جولات عنفٍ لتستعيدها مأْساةً بعد مأْساةٍ لدى رؤْية صورة منها اليوم أَو اسم أَو مكان؟ هل ذاكرة فرديةٌ تحاول أَن تنسى لكنها تستيقظُ مذعورةً لدى استعادةِ حادثةٍ أَو لَمحةٍ من تذكار؟
التذكار… وما أَقساه يعيد إِلينا وُجوهًا نحبُّها وجراحًا نازفةً وموتى وجرحى ومعاقين وشهداء ومفقودين ومخطوفين.
هل هي الحرب انتهَت أَم انها ما زالت تتناسل لُـمحًا تترجَّعُ ذكرياتٍ موجعةً في البال؟
بعد أَربعة وأَربعين عامًا، ماذا تَغَيَّر؟ وهل حقًا دَفَــنَّــا الحرب معَ مَن دَفَـــنَّــاهم؟
و13 نيسان/ إبريل… هل هو تاريخٌ عَبَر وننساه؟ أَم هو تاريخٌ للتذكار والاعتبار ذكرى غابرة وعِبرة كابرة وعَبرة عابرة؟
هل يَطمر النسيانُ تاريخًا في جراح؟ هل نَغفِر لـمَن كان السبب؟ هل نُسامح؟ هل نتناسى هاربين إِلى الحاضر جدارًا يعزِلنا عن الأَمس؟ وكيف نَعزِل بجدارٍ من ماء لا يُـخفي صدى الأَهوال وأَصوات الترحال؟
بعد أَربعة وأَربعين عامًا، قد يُنسي نورُ الحاضر ظلامَ الماضي، ولكن… كيف يُنسي الحاضرُ مَن هُم لا يزالون اليوم حاضرين أَمامنا، في كراسي الحكْم، هُمْ هُمْ، أَمامَنا كل يوم، وجوهُهم أَمامَنا، أَصواتهم أَمامَنا، أَفعالهم أَمامَنا، سلوكُهم أَمامَنا، حرباوياتهم أَمامَنا، أُفعوانياتهم أَمامَنا، أُلعبانياتهم أَمامنا. هُمْ هُمْ. قبل 13 نيسان كانوا، إِبَّان 13 نيسانات كانوا، وما زالوا اليوم، هُمْ هُمْ، رابضين على صدر الوطن الذي كانوا جُزءًا من التسبُّب في دَماره، لم يُـحاسبْهم أَحد، يُـحاكِمون ولا يُـحاكَمون، يُـحاضرون في الإِخلاص للوطن وهُم أَجدى أَن يكونوا في سجون الوطن.
هي ذاكرةٌ سوداءُ في تاريخ لبنان، لن تُـمحى من ذاكرة أَولادنا حتى تُـمحى من أَمامهم وُجوهُ الذين كانوا جُزءًا من تلك الذاكرة وما زالوا حتى اليوم خَطرًا على اندلاعها في أَيِّ لحظة، هُم الذين يقودُوننا كلَّ يوم إِلى حربٍ مُقَنَّعةٍ مهدِّدةً إِيَّانا بسقوط القناع واندلاعِ النار مُـجَـدَّدًا من تحت رماد ذاك القناع.

• هنري زغيب شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى