إلى أي حدّ تُفيد الخصخصة لبنان وهل يستطيع تطبيقها؟

يكثر الكلام في هذه الأيام عن الخصخصة في لبنان بعد مقررات مؤتمر “سيدر” في باريس وشروط الدول المانحة. ولكن هل يستطيع بلد الأرز تطبيق الخصخصة؟ وإلى أي حد قد تُفيده؟ الدكتور هيكل الراعي الباحث وأستاذ التنمية والسياسات الإجتماعية في الجامعة اللبنانية يُفنّد هذا الموضوع بطريقة مسهبة وبالتفصيل في البحث التالي:

الرئيس سعد الحريري: هل تستطيع حكومته تطبيق شروط مؤتمر سيدر؟

بقلم د.هيكل الراعي*

يدور نقاش واسع في لبنان حول “برنامج الحكومة للإصلاح الإقتصادي” تطبيقاً لمقررات مؤتمر “سيدر” ولشروط الدول المانحة. ويتناول البرنامج سلسلة من الإجراءات الهادفة الى تحديث الإقتصاد وتحفيز النمو، ومن ضمنها الخصخصة وتحرير السوق. وتهدف الخصخصة كما تُطرح الى “خفض تكلفة الخدمات وتحسين نوعيتها وتوسيع نطاقها وزيادة الإستثمارات وإعطاء دفع للنمو الإقتصادي وتفعيل مشاركة المواطنين والقطاع الخاص في ملكية الخدمات التي تتم خصخصتها”.
بالطبع أثار طرح الموضوع، ردود فعل مختلفة في الأوساط السياسية والإقتصادية والنقابية والشعبية. فمن مرحّبٍ ومؤيد، إلى متحفّظٍ ومعارض. وإذا كانت أوساط رجال الأعمال أعلنت تأييدها المطلق للطرح الحكومي، فإن بعض مكوّنات المجتمع المدني أعلنت صراحة معارضتها ورفضها لأية عملية خصخصة، وطالبت باستعادة القطاعات الإقتصادية المُخصَّخصة سابقاً والتي يُمكن أن توفّر عائدات كبيرة للدولة، داعيةً إلى “التمسك المُطلق بدور القطاع العام الرائد والضامن للعدالة ولشروط النهوض الإقتصادي والإجتماعي”.
ما هي الخصخصة، وكيف تطبّق في العالم؟ ما هي أسباب طرح موضوع الخصخصة في لبنان؟ وما هي النتائج المتوَقَّعة لعملية خصخصة بعض القطاعات؟

1 – تعريف الخصخصة

بدايةً نُشير إلى أن تعريب كلمة “privatisation” الفرنسية (أو الإنكليزية) إلى العربية يمكن أن يكون التخصيص أو التخصصية أو التخاصصي أو الخصخصة أو سواها. وقد اخترنا اصطلاحاً كلمة الخصخصة.
ويشرح ممثلو البنك الدولي الخصخصة على النحو التالي: “…يستخدم تعبير الخصخصة للإشارة إلى الإنتقال من القطاع العام إلى القطاع الخاص بالمعنى الواسع للكلمة. فهذا الإنتقال لا يشمل بيع أصول الدولة وموجوداتها فحسب، بل كذلك إضفاء الطابع الخاص على إدارة أوجه نشاط الدولة، من طريق العقود والإيجارات، والتخلص من أوجه نشاط كانت الدولة تقوم به”.
فالخصخصة من المفاهيم الحديثة نسبياً، والتي لم يمضِ على انتشارها أكثر من ثلاثة عقود من الزمن. وهي كتعبير مُناقِضة كلياً للتأميم، لأنها تقوم على دعوة الدولة للتخلي عن القطاع العام المُنتِج للسلع والخدمات التي لا يُمكن تسويقها، إلى القطاع الخاص.
ويمكن تلخيص أشكال الخصخصة بأربعة:
أ – خصخصة التمويل، بمعنى استخدام الأموال الخاصة لتمويل المشروع العام، وانتشاله من مآزقه المالية؛
ب- خصخصة الإنتاج، بما في ذلك العمل بموجب عقود، بدلاً من الإستخدام المباشر للعمل، كما في المشروعات الحكومية؛
ج – إلغاء المُلكية العامة للمشروع، أي بيع أسهمه كاملة إلى القطاع الخاص؛
د – التحررية، وذلك في إطار التخفيف من القيود القانونية أو إزالتها في ما يتعلق بالمنافسة والأسعار وغيرها.
وتُشكّل الخصخصة، حسب أكثر الباحثين، أحد المكونات الرئيسة للسياسة الليبرالية الإقتصادية التي أخذت تجتاح العالم منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي، مُقدِّمةً نفسها على أنها العلاج الشافي للمشاكل الإقتصادية التي تُعاني منها كل بلدان العالم، على اختلاف أنظمتها الإقتصادية والإجتماعية وتفاوت درجات تطورها، بدءاً بتحسين أداء وحدات الإنتاج وزيادة كفايتها الإقتصادية، وانتهاءً بوضع حدٍّ للإختلالات المالية والإقتصادية الداخلية والخارجية، مروراً بتوسيع قاعدة المشاركة في الثروة والدخل الوطني على طريق النمو المطّرد.
وتُطرح اليوم أسئلة، خصوصاً في الدول النامية، حول إمكانية خصخصة البنى التحتية وخدماتها، إذ يُعتقَد أنها تصبح أفضل وكلفتها أقل إذا تسلّمها القطاع الخاص، وإذا ما توفّرت له الظروف والشروط المناسبة. ويقصد بالبنى التحتية كل المنشآت والأجهزة في الأشغال العامة كالطرق والجسور والمطارات والخدمات العامة كالكهرباء والماء والمواصلات السلكية واللاسلكية.

2- أسباب الدعوة إلى الخصخصة

تختلف أسباب الدعوة إلى الخصخصة بين دولة وأخرى تبعاً لظروفها الإقتصادية والإجتماعية والسياسية. غير أن بعض الباحثين يورد أسباباً ثلاثة لتبرير الدعوة إلى الخصخصة هي :
أ – ضعف كفاءة الأداء الإقتصادي والمالي والإداري من قبل أجهزة الدولة المتخصصة في تشغيل المشاريع الإقتصادية والمالية. واعتبار هذه الظاهرة ملازمة لهذه الأجهزة، وناشئة عن نقصٍ في معارفها وخبراتها وكفاءاتها، وتضخّمها الشديد؛ وعن تعيين كوادر غير جديرة على رأس منشآت الدولة، إضافة إلى فرض القرارات الحكومية على إدارات هذه المنشآت وسياساتها، والتي تتجلّى في إغراقها بالمستخدمين والأيدي العاملة التي تزيد عن حاجاتها الفعلية، وفرض أسعار بيع منخفضة على سلعها وخدماتها، وافتقار إداراتها إلى الحرية والاستقلالية ومرونة الحركة، وعجزها عن اتخاذ الإجراءات المناسبة، وغياب المعايير الموحدة لقياس كفاءة الإنتاج والأداء فيها، وغياب المنافسة بين مشاريع القطاع العام، وتمتعها بالحماية الواسعة وتغطية خسائرها وفشلها، وغياب أو فشل تطبيق نظم الرقابة والحوافز.
ب – توظيف موارد الدولة في مجالات اقتصادية ليست هي، أساساً، من اختصاصها. إذ أن اختصاص الدولة يُحصَر أصلاً في مشاريع الأشغال العامة، وبالتالي يجب الإبتعاد عن تحميل الدولة تبعات وخسائر مالية، وديوناً داخلية وخارجية مرتفعة وغير مبررة.
ج- إحجام المستثمرين الأجانب، والمحلّيين أيضاً، عن توظيف رساميلهم في اقتصادات البلدان التي يلعب فيها القطاع العام دوراً رئيساً في العملية الاقتصادية، بسبب خشيتهم من قرارات المُصادرة أو التأميم مقابل تعويضات غير مناسبة، أو بسبب فرض قيود مرفوضة على نشاطهم بهدف حماية منشآت القطاع العام، مما يُضعف قدرة القطاع الخاص (المحلي والأجنبي) التنافسية، ويحرمه من تحقيق الأرباح العالية التي يتطلع إليها.
وفي هذا الإطار يبدو ضرورياً التفريق بين الأسباب الداعية لاعتماد الخصخصة عند البلدان الصناعية المتقدمة، وبين تلك المعتمدة في الدول النامية وفي الدول الاشتراكية سابقاً.
ففي حين يحصل التحوّل في مجموعة البلدان الأولى بفعل الأزمات الاقتصادية وتفاعلاتها الداخلية على المستويين السياسي والإجتماعي، يبدو أن هذا التحوّل يأخذ مجراه في البلدان النامية (والإشتراكية سابقاً) بتأثير من الخارج في شكل رئيس؛ وتحديداً من خلال سياسات رسمتها لهذه البلدان هيئات دولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وذلك بحكم طبيعة الأزمة التي تُعاني منها البلدان المعنية، ووجهها الأبرز “أزمة المديونية” الذي يضعها مباشرة في علاقة مع هذه الهيئات والدول الدائنة عموماً. وهكذا يُلاحَظ أن حركة الخصخصة في البلدان النامية إنما تأتي عموماً كجزء أساسي من برامج التثبيت الإقتصادي والتصحيح الهيكلي التي يقترحها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على البلدان النامية .
ومنذ بداية ثمانينات القرن الماضي بدأت عمليات الخصخصة تشقُّ طريقها في بعض الدول الصناعية المتقدمة، قبل أن تنتقل إلى الدول النامية عبر وصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وقد طبّقت الخصخصة بأشكال مختلفة دول كثيرة بينها الولايات المتحدة، بريطانيا، اليابان، الصين، دول الكتلة الاشتراكية سابقاً، وصولاً إلى بعض الدول الأفريقية وبعض الدول العربية وعلى رأسها مصر.

3- الصعوبات التي تواجه عملية الخصخصة

إن النتائج التي يُمكن أن تُسفر عنها عملية الخصخصة ترتبط إلى حدٍّ بعيد بما يجب أن يسبقها من إجراءات مُمهِّدة، تبدأ بالتشخيص الدقيق لأوضاع القطاع العام، ولعلاقته بأوضاع الإقتصاد الوطني ككل، وتنتهي بإعادة هيكلة وحدات الإنتاج المُتعثّرة في هذا القطاع، مروراً بتحضير المناخ الاقتصادي العام الملائم من حيث إزالة التشوّهات اللاحقة بآلية السوق، وإقامة السوق المالية الناشطة.
وقد أظهرت تجارب الخصخصة بوضوح أن القطاع الخاص يرفض شراء المنشآت الفاشلة، بل يسعى باستمرار إلى شراء المنشآت الناجحة التابعة لقطاع الدولة، أو تلك المنشآت التي جاوزت مرحلة المجازفة والخطر، وبدأت بتحقيق أرباح جيدة ومضمونة.
كما ترتبط النتائج التي يُمكن أن تُسفر عنها عملية الخصخصة بوجود برنامج إجرائي واضح ومحدد من حيث أهدافه والوسائل التي يعتمدها لتحقيق هذه الأهداف. وفي هذا المجال تُطرح مسألة الأشكال التي يجب أن تأخذها عملية الخصخصة (تحويل كلي أو جزئي للملكية، خصخصة الإدارة فقط، عقود تأجير…) ومسألة الأساليب التي يجب أن تعتمدها عملية تحويل الملكية (طرح الأسهم في السوق المالية، بيع الأسهم لأفراد أو لمؤسسات قائمة، بيع وحدات القطاع إلى الأجانب أو لا…)، إضافة إلى الكثير من المسائل الأخرى كمسألة وجوه استعمال العائدات من بيع مؤسسات القطاع العام، إلى مسألة التعامل مع فائض العمالة في هذه المؤسسات.
باختصار يُمكن القول أن صعوبات وعوائق سياسية وإدارية وقانونية وتنفيذية ومالية تواجه أية عملية خصخصة. وهذه الصعوبات تحتاج إلى تضافر الجهود، في إطار توافق عام، كي يُمكن التغلب عليها.
فعلى المستوى السياسي تثير عمليات الخصخصة خلافات بين أركان الحكم من جهة، أو بين الحكم والمعارضة من جهة أخرى، يُمكن أن تتمحور حول السرعة في تنفيذ الخصخصة، أو حول الأسعار التي تُباع بها المؤسسات العامة، أو لارتباط بعض المشاريع بالسيادة والأمن القومي، أو بالنسبة إلى الجهات التي ترسو عليها عمليات البيع.
على المستوى الإداري تتجلّى الصعوبات في العقلية الإدارية السائدة والتي تقوم على الروتين والتكرار والهدر، وفي معارضة الموظفين غير المنتجين لفكرة الخصخصة.
على المستوى القانوني تحتاج عملية الخصخصة إلى تشريعات جديدة، وإلى تعديل بعض التشريعات القائمة في المجالات الإقتصادية والإجتماعية والإدارية والمالية والمؤسساتية.
على المستوى التنفيذي التقني هناك سلسلة من الأسئلة يمكن طرحها: ما هو المعيار أو المعايير لإجراء عملية الخصخصة ؟ هل المعيار هو الخسائر اللاحقة بتلك المؤسسات أو المرافق العامة؟ هل المعيار هو سوء الخدمات التي تؤمنها هذه المؤسسات؟ هل المعيار هو التراجع في معدلات النمو الاقتصادي؟ ومن هو الجهاز الذي يقرر أو ينفذ عملية الخصخصة بما في ذلك تحديد أسعار الموجودات والبيع للمؤسسات المنوي تحويلها؟
على المستوى المالي يُطرح سؤال أساسي: من يموّل عملية الخصخصة، ومن هي الجهة التي يُمكن أن تشتري المرافق العامة؟ هل تُموَّل العملية بقروض داخلية، أم بقروض داخلية وخارجية، أم يتم اللجوء إلى الرأسمال الأجنبي؟
إن تمويل عملية الخصخصة لا يقوم على مبادئ اقتصادية محددة. فالظروف تختلف بين دولة وأخرى. ولذلك يجب القيام بدراسات واسعة، وإنشاء أجهزة عدّة، وربما الاستعانة بخبراء لتقييم موجودات المؤسسات أو القطاعات المراد خصخصتها، واختيار طرق التحويل المناسبة، والإشراف على هذه العملية.
يُضاف إلى كل ما سبق صعوبات تتعلق بالقطاعات التي يجب أن تشملها عملية الخصخصة. والأسئلة التي تُطرح: ما هي القطاعات أو المؤسسات التي ترتبط بالسياسة العليا للدولة والتي لا يجب أن تشملها عملية الخصخصة؟ هل ترتبط الكهرباء بالسياسة العليا، أم هي تدخل في إطار الخدمات الحياتية؟ لكل دولة رأيها، ولكل مسؤول وجهة نظره. المسألة تُصبح أكثر تعقيداً عندما نبحث موضوع خصخصة المياه، خصوصاً إذا كانت الموارد المائية لا تكفي حاجات البلاد . وماذا عن الطرقات العامة، هل تدخل هي أيضاً في إطار سياسة الدولة العليا؟
غير أنه بصورة عامة، هناك قطاعات لا توجد صعوبات كبيرة إزاء تحويلها إلى القطاع الخاص، كالخدمات البريدية والهاتفية، والمصارف التي تملكها الدولة، والمصانع، والفنادق، وشركات التبغ، وشركات الإسمنت… فكل هذه القطاعات ليست استراتيجية، وهناك قبول عام بفكرة تحويلها إلى القطاع الخاص.

4- الخصخصة في لبنان

في ظل النظام الإقتصادي الحرّ، بأشكاله الأكثر ليبرالية، والمُطبَّق في لبنان، لا يُمكن أن يُشكّل طرح موضوع الخصخصة صدمةً، أو يمكن أن يدلّ على تحوّلات عميقة وجذرية في توجهات الدولة الاقتصادية. فانتقال الملكية من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وبالعكس، كانت تتم من دون إحداث أية ردود فعل. ففي قطاع الكهرباء مثلاً كانت هناك شركات لديها امتياز إنتاج وتوزيع الكهرباء في بعض المناطق (زحلة – عاليه). وفي مرحلة سابقة بادرت الدولة إلى شراء شركات خاصة، كانت تعاني من صعوبات، بينها تلفزيون لبنان، وشركة إنترا للاستثمار، وطيران الشرق الأوسط. وخلال السنوات الماضية تمّت خصخصة لبعض القطاعات بينها الهاتف الخليوي والبريد ومرافق في المطار (موقف السيارات…) وعملية جمع النفايات في العاصمة وفي بعض المناطق الأخرى (شركة سوكلين وغيرها).

أسباب طرح موضوع الخصخصة

إن طرح موضوع الخصخصة اليوم بجرأة ووضوح، وفي إطارٍ من الشفافية، يجب أن لا يُحمَّل من المعاني والدلالات أكثر مما يمكن أن يحمل. فهذا الطرح يأتي لسببين رئيسيين من بين أسباب عديدة:
الأول، وهو الأهم، يتمثل في ارتفاع مديونية الدولة بشكل كبير في ظل عجز مرتفع للموازنة، وفي ظل الحاجات المتزايدة لتحديث البنى التحتية. فالعجز في الموازنة، الذي بلغ مستويات مرتفعة يتحوّل إلى دينٍ عام، والإقتراض لتنفيذ المشاريع يرفع الدين العام، وخدمة الدين العام ( حوالي 45% من النفقات العامة) تزيد عجز الموازنة، وهكذا دواليك. وتشير الإحصاءات الرسمية الصادرة في نهاية العام 2018 إلى أن حجم الدين العام الإجمالي بالليرة اللبنانية والعملات الأجنبية (غير الصافي) مُقوَّماً بالعملة الأميركية وصل إلى 87 مليار دولار بنمو نسبته السنوية 10%. وكان هذا الدين ارتفع من 2.537 ملياري دولار نهاية 1991 إلى 15.393مليار دولار في نهاية 1997. وفي إطار تحديد الدين الحقيقي يجب إضافة إلى ما سبق، المستحقات المتوجّبة على الدولة للمستشفيات وللبلديات وللمقاولين وللصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
لقد طرح بعض الخبراء جملة اقتراحات وتصوّرات للجم ارتفاع الدين العام، ومنها:
(1) خفض نسبة عجز الموازنة عبر ترشيد الإنفاق، والتقشف، ووقف الهدر، وزيادة الواردات الضريبية؛
(2) بيع أصول غير مالية تملكها الدولة، وفي هذا المجال هناك خوف من سوء استعمال عائدات هذه الأصول، إضافة إلى معايير وشروط وظروف هذه العملية؛
(3) تحويل الموجودات الذهبية إلى عملات أجنبية والاستفادة من فوائدها، أو تأجير هذه الموجودات، وهو أمر يعتبره البعض من المُحرَّمات؛
(4) السعي للحصول على معونات خارجية، والجميع يعرف الأزمة التي تعيشها الدول التي كانت تُشكل مصدراً للمعونات. مع الإشارة إلى أن المعونات المقررة لم تُدفع حتى الآن؛
(5) الخصخصة، وهذا الخيار يبقى، كي يفعل فعله الإيجابي، مرهوناً بجملة شروط سياسية وإدارية وتنفيذية عرضناها سابقاً؛
(6) الإعتماد على التضخم الفالت، وهو أمر لا يبدو مُستساغاً، على الأقل في صوره الأكثر تطرفاً، بالنظر إلى ما يولّده من عدم استقرار إقتصادي واجتماعي شامل، قد تتجاوز أضراره على هذا الصعيد، حجم المنافع. مع الإشارة إلى أن بعض مَن في يده القرار لم يكن يستبعد تخفيض سعر صرف الليرة كأحد الحلول.
السبب الثاني لطرح موضوع الخصخصة هو ترهّل الوضع الإداري في مؤسسات القطاع العام، وتحوّل بعض هذه المؤسسات إلى “مناطق نفوذ” طائفية ومذهبية تضم المئات من الموظفين العاطلين من العمل، يُكلّفون الخزينة مليارات الليرات. وتُشير الإحصاءات إلى أن عدد العاملين في القطاع العام بات يزيد على ثلاثمئة ألف موظف وأجير ومتعاقد ومتطوع في كل القطاعات الإدارية والأمنية.
لقد شكّل الوضع الإداري في القطاع العام مشكلة لكل العهود، ولكل الحكومات المتعاقبة. وجرت محاولات كثيرة للإصلاح من دون أن تؤتي الثمار المرجوة. وينتظر كثيرون أن تبادر الحكومة الحالية إلى إحداث صدمة على صعيد إدارة القطاع العام. ويدعو البعض إلى ضرورة إعادة النظر في تقاليد الإنفاق السائدة، وفي مسارات الوظائف المترهلة والمعدومة الإنتاجية التي انتهى إليها القطاع العام في الوضع الحالي. وإعادة النظر هذه يجب أن لا تستهدف، بأيّ شكل من الأشكال، إلغاء الأدوار التي يفترض أن يتولاها هذا القطاع في مجال إعادة توزيع الثروة – تعليماً واستشفاءً ونقلاً ورعاية اجتماعية وخدمات عامة أخرى – بل تستهدف إحداث ثورة في شكل تعاطيه مع هذه الميادين المختلفة على قواعد الشفافية والمحاسبة والإنتاجية وتحسين الأداء، وإيصال الخدمات العامة إلى مستحقيها الفعليين.

واقع القطاعات المُرشَّحة للخصخصة

اتبعت الدولة اللبنانية وسائل عدة لإدارة المرافق العامة التي تؤمّن الخدمات الحياتية للمواطنين، ومن هذه الوسائل على سبيل المثال:
أ- الإدارة المباشرة: الهاتف؛
ب- المؤسسة العامة: المياه، الكهرباء؛
ج- الإمتياز: شركة كهرباء زحلة (شركة مساهمة)؛
د- شركة الاقتصاد المختلط: المؤسسات المصرفية المختلطة، تلفزيون لبنان سابقاً، طيران الشرق الأوسط؛
هـ- الشركة ذات المنفعة الوطنية: شركة الريجي.
إن غالبية المؤسسات التي تشرف الدولة كلياً أو جزئياً على إدارتها (مصفاتا طرابلس والزهراني، تلفزيون لبنان، إدارة حصر التبغ والتنباك (الريجي)، مؤسسة كهرباء لبنان، كازينو لبنان، شركة إنترا، مؤسسات المياه) تعاني مشاكل إدارية ومالية، وتدفع الخزينة العامة إلى تحمّل قسمٍ كبير من خسائرها وأعبائها، مما يؤدي إلى تراكم الدين العام وزيادة عجز الموازنة.

أشكال الخصخصة الممكنة

كما أشرنا سابقاً، أظهرت تجارب الخصخصة في العالم، أن القطاع الخاص يرفض شراء المؤسسات الفاشلة أو المُتعثّرة، ويفضل المنشآت التي تجاوزت مرحلة المجازفة والخطر. وإذا ما غامر بعض المستثمرين بشراء مؤسسة غير رابحة، فإنهم لا يدفعون إلّا ثمناً زهيداً لها. من هذا المنطلق يمكننا القول أن المؤسسات المعروضة للخصخصة في لبنان لا تُغري المستثمرين ولا تُشجّعهم على توظيف رساميلهم. فالمؤسسات الرابحة والمغرية تمّت خصخصتها خلال العقود الماضية وبأسعار تُثار علامات استفهام كثيرة حولها. ومن بين أبرز هذه المؤسسات: الهاتف الخليوي والبريد وجمع النفايات والمشاريع التي تمّ تلزيمها بطريقة الـ”B.O.T.” ، رغم أن بعض رجال القانون يميّز بين الـ”B.O.T.” والخصخصة.
والأشكال التي تُطرح عادة لخصخصة المرافق والمؤسسات العامة هي أربعة: البيع بالكامل، التنازل عن الإدارة، تحويل المؤسسة إلى شركة مساهمة وبيعها كأسهم في البورصة، والإدارة المشتركة . فما هو الشكل المطروح للخصخصة في لبنان؟
عملياً لا يملك المسؤولون، حتى الآن، تصوّراً واضحاً حول أشكال الخصخصة المُمكن تطبيقها في لبنان . فالمباحثات والمفاوضات التي تجري حول هذا الموضوع، لا تزال في بداياتها. ويعكف بعض الوزراء على إعداد تقارير انطلاقاً من التجارب التي مرّت بها بعض الدول، مع التركيز على الأهداف المتوخاة من الخصخصة وعلى آلية هذه العملية وعلى الثغرات أو العثرات التي يمكن أن تتعرّض لها. والأفكار التي يتم تداولها حول هذا الموضوع تتمحور حول نقاط أربع:
1) بيع أكبر نسبة من أسهم الشركات المخصخصة إلى الجمهور وتحديداً إلى مساهمين لبنانيين؛
2) إناطة الرقابة على المؤسسات المخصخصة بالوزارات المختصة، أو إنشاء هيئة مركزية للرقابة تتمتع بصلاحيات واسعة؛
3) التشديد على ضرورة ضمان نوعية إنتاج المؤسسات المخصخصة وسلامته، وضمان أفضل الأسعار للمستهلكين؛
4) التنبه إلى عدم تحوّل المؤسسات المخصخصة إلى مؤسسات إحتكارية، عبر تضمين العقود بنوداً واضحة في هذا المجال، تسمح بإنشاء شركات أو مؤسسات مشابهة؛
ولكن هل يُمكن أن تساهم الخصخصة في حل مشكلة المديونية؟
تنقسم الآراء حول فوائد الخصخصة، وحول مدى مساهمتها في معالجة مشكلة الدين العام والعجز في الموازنة. فالمؤيدون لعملية الخصخصة يقدمون التبريرات التالية:
1- إن اللجوء إلى الخصخصة يُساهم في حل جزء من مشكلة الدين العام. فتأمين بضعة مليارات من الدولارات من خصخصة بعض المؤسسات، كما يتوقع البعض، يمكن أن يساعد على تخفيض الدين العام؛
2- إن الخصخصة تخفف من الأعباء المالية للقطاع العام في حال كانت المؤسسة المعنية ذات إنتاجية متدنية ومصدراً دائماً للعجز المالي؛
3- إن الخصخصة تؤمن استعمالاً أفضل للموارد المتاحة. ومن الضروري إعادة تأهيل المؤسسات المنوي خصخصتها كي لا يُصار إلى نقل الملكية بأسعار متدنية جداً؛
4- إن الخصخصة تخفف عن الدولة الأعباء الخدماتية، بحيث تتفرغ للقضايا الإجتماعية الكبرى كالسكن والتربية والصحة؛
5- مع ذلك يشدّد مؤيدو الخصخصة على ضرورة التمييز بين مؤسسات عامة تتعاطى الأمور التجارية (كالريجي مثلاً) وغيرها من المؤسسات التي تقدم خدمات اجتماعية (كالكهرباء والمياه) التي لابدّ أن تخضع لضوابط تسمح لها بتحقيق مردود مقبول، ولكن على أساس كلفة مقبولة إجتماعياً.
أما المعارضون لعملية الخصخصة فيقدمون التبريرات التالية:
1- إن الرهان على الخصخصة كعلاج للمشاكل الاقتصادية التي تعاني منها وبشكل خاص البلدان النامية، هو في غير محلّه؛ لأن الشروط المطلوبة لنجاح الخصخصة (السوق التنافسية الحرّة، السوق المالية المتطورة، المؤهلات الإدارية العالمية،…) غير متوفرة إلا في البلدان الرأسمالية المتقدمة؛
2- إن عملية الخصخصة، يمكن أن تتحول، كما حدث في بعض التجارب الأخرى (روسيا وبعض دول أوروبا الشرقية)، أداة نهب واستنزاف إضافيين لموارد القطاع العام، خصوصاً في لبنان، حيث سادت وتسود علاقات المحاصصة وتقاسم المنافع بين نخب الطوائف، وحيث يكاد ينعدم الخط الفاصل بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة؛
3- إن من أبرز الشروط التي يجب أن تخضع لها المؤسسات، المنوي خصخصتها، أن تكون منتجة لخدمات أو سلع غير أساسية، وأن يكون في الإمكان إخضاعها للمنافسة بسهولة، وأن يكون من السهل تنظيم عملية خصخصتها. وهذه الشروط غير متوفرة في غالبية المؤسسات المطروحة، إعلامياً، للخصخصة؛
4- إن عملية الخصخصة يمكن أن تشكّل خطراً على العاملين في المؤسسات التي ستنقل ملكيتها من القطاع العام إلى القطاع الخاص. وقد أظهرت التجارب أن الطبقة العاملة كانت الخاسر الأول في عمليات الخصخصة، لأن أصحاب الرساميل الساعين إلى الربح بأي ثمن كان، لم يأخذوا في الاعتبار الكلفة الإجتماعية للتخلي عن بعض العاملين في هذه المؤسسات؛
5- إن عرض مؤسسات، ذات صفة استراتيجية، للخصخصة يمكن أن يعرضها للوقوع في قبضة رساميل مالية مجهولة المصدر والأهداف؛
6- إن الخصخصة لا يمكن أن تكون بديلاً من عملية إصلاح جذري للإدارة الحكومية. وفي حال نجحت عملية الإصلاح، فما هو مبرر الخصخصة؟ وفي حال فشلت عملية الإصلاح، فكيف ستتم عملية المراقبة وعبر أية أجهزة؟
ولكن إذا كانت الحكومة اللبنانية مُجبَرة على اختيار طريق خصخصة بعض مؤسسات القطاع العام، فذلك يعود إلى استفحال أزمة المديونية العامة وتطوّر العجز في الموازنة. وهذا الخيار، لا يأتي في أولوية الخيارات الحكومية، بل بعد خيارات ترشيد الإنفاق والتقشف وتفعيل جباية الواردات وتوسيع قاعدة المكلفين بالضريبة، وتسوية وضع الأملاك البحرية وغير ذلك .
ومهما كانت مبررات سلوك طريق الخصخصة، فإن الحذر والإنتباه الشديدين يجب أن يكونا هاجس المسؤولين الأول، إضافة إلى الإعلان صراحة ومنذ البداية أن المؤسسات التي تُعنى بتعليم المواطن ( المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية) وبصحته (الإستشفاء العام والصندوق الوطني للضمان الإجتماعي) سوف تلقى كل الرعاية والاهتمام والدعم والتفعيل. عندها يُمكن أن يحظى برنامج الخصخصة المقترح بتفهم الفئات الحريصة على استمرار القطاع العام ومؤسساته .

* الدكتور هيكل الراعي أستاذ التنمية والسياسات الإجتماعية في الجامعة اللبنانية ومدير عام سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى