من غَـفْـوَة الـشـرق الطويلة إِلى صَحْـوة الـغــرب الأَثيلة

بقلم هنري زغـيب*

إِنه الشرق! أَرضُ النبُوءَات والأَساطير والحكايات التي بَلَغَت أَضعاف حَكَايا أَلف ليلة وليلة.
إِليه رَنا أَبناءُ الغرب، ومنه ارتحل أَبناءُ الشرق كما ليَرَوه عن بُعدٍ فيكتُبوا إِليه حنينَهم والتذكار.
في جديد أَمين معلوف (سيرته الذاتية: “غَرَق الحضارات”) جاء: “ولدتُ في صحة جيِّدة بين يدَي حضارةٍ تموت. وعشتُ حياتي شاعرًا بالنجاة من الموت بينما الذي حولي ينهارُ مُرَمَّدًا، كفيلم يَعبُرُ فيه الأَشخاصُ شوارعَ انهارَت جدرانُها حولَهم وواصلوا ناجين ينفضون عن ثيابهم الغبارَ فيما المدينةُ استحالت وراءَهم هياكلَ أَنقاض”.
أَإِلى هذا الحد يرى أَمين معلوف شرق ولادتِه دمارًا يتداعى وراءَه، وهو ناظرٌ إِليه من غَرب إِقامته؟
لعلَّها مرارةُ المنأَى (كي لا أَتشاءَمَ فأُسمّيه المنفى) حدَت به إِلى تحليل هذا الشعور المتأَرجح بين المرارة والحنين.
قبْله ذاق الشعورَ ذاته أُدباءُ غرَّبوا، وحين تلفَّتوا شرقًا تصاعدَت من زفيرهم صرخةٌ هي الأُخرى بين المرارة والحنين.
هذا أَمين الريحاني يقف على جسر بروكلن، يلتفت صوب البعيد حيث بلادُه، وينادي: “متى تُحوِّلين وجهَكِ صوب الشرق أَيتها الحرية؟ متى يمتزجُ نورُكِ بنور هذا البدر الباهر فيدورُ معه حول الأَرض ويُضيْءُ ظلُماتِ كل شعبٍ مظلوم”؟ (“الهدى” – نيويورك 1904).
وهذا جبران يصرِّح أَنَّ “الشرق جثة، والسبَب: خُنُوعُ أَنظمتِه أَمام الدول الكبرى، وعجْزُ شعوبه عن اتخاذ المبادرة لأَنها لا تمتلكُ ثقافةَ الثورة والانتفاضة. أَبناءُ الشرق متعدِّدو الوجوه والأَقنعة، دِينُهم رياء ودُنياهُم ادِّعاء وآخِرتُهم هباء” (جريدة “الكون” – 25/8/1928).
هو القلق في قلوب الريحاني وجبران ومعلوف وأَمثالهم ممن استوطنوا الغرب، والتفتوا إِلى الشرق فبانت لهم واضحةً مثالبُه. وحين الشرقُ يَنبذُ بعض أَبنائه (كلٌّ في زمانه وظرفه) لأَنه لم يستوعبْهم أَو انهم لم يحتمِلوه، تكون التفاتتُهم إِليه صرخةً بين الغضَب والعتَب تؤَكِّد توقهم إِلى رؤْية الشرق ينتفض على واقعه الملتبس بين الثورة والخضوع.
إِنه الشرق! منه تشعُّ الشمس على الغرب حضاراتٍ وعلومًا وإِبداعات. والشرق الظليم هو الذي حوَّلت فيه الأَنظمةُ ما يراهُ ظلامًا مَن يعيشون في الغرب (معلوف في ﭘـاريس وجبران في نيويورك) لكنَّ نظرتَهم ذاتية. ومَن يرَون إِلى ليل الشرق لا يمكنهم القول إِن الشمس لا تُشرق، ففيه اليوم انتفاضاتٌ كبرى لن يبقى معها الشرقَ الخانعَ المائعَ الراكعَ على أَقدام جلاديه، بل سيقوم إِلى فجر ينهض معه من يَـخلعون بوَّابات السجن الكبير ويرفعون حُكَّامَهم على المقاصل فينتقِلون من غَفْوة الشرق الطويلة إِلى صَحْوة الغرب الأَثيلة.
قد تَـمُـرُّ سنواتٌ وعقود، لكنَّ هذا الشرق الرازح تحت دكتاتورياتٍ مقَنَّعةٍ أَو حاسرة، آتيةٌ قيامتُهُ حين ينفجرُ حرًّا فيُطيح كراسي حُكَّامه خالعًا عنه تبَعيةً وزبائنيةً واستزلاميةً تُكبِّل معظمَ شعوب الشرق فتَدَعُ قادتَه يتوارثون الحكْم جاثمين على أَكتاف شعوبهم وريثٌ بعد وريث.

• هنري زغيب شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى