فيما كان العالم مشغولاً بأمور أخرى، كان خليفة حفتر يُسيطر تدريجاً على ليبيا

على الرغم من عدم الإستقرار السياسي الطويل الذي إبتُليت به ليبيا، فإن الصعود التفاوضي لإيصال المشير خليفة حفتر إلى السلطة ليس هو الحل.

الجيش الوطني الليبي: هل يصبح جيش كل ليبيا؟

بقلم طارق المجريسي*

في ليبيا منذ سقوط معمر القذافي، غالباً ما تمرّ السنوات من دون تغيير كبير فيما يستمر الجمود السياسي وتراجع الإقتصاد. ثم تأتي لحظة إنتهازية تؤدي إلى سلسلة من ردود الفعل. وقد حدث هذا العام رد فعل متسلسل واحد، بدأه تقدم المشير خليفة حفتر العسكري في جنوب ليبيا واستيلاؤه على حقول النفط الرئيسة. يبدو أن هذه الخطوة من المحتمل أن تؤدي إلى تحقيق رغبة أمير الحرب منذ زمن طويل – والتي تحظى بدعم دولي متزايد – للسيطرة على كل ليبيا. لكن قبل القفز إلى عربة حفتر، يجب على اللاعبين الدوليين أن يُدركوا أن تقدّمه من المرجح أن يؤدي إلى تجدّد العنف أكثر من فرصة طال انتظارها لتحقيق الإستقرار في البلاد في ظل حكومة واحدة.
بعد عودة حفتر من منفاه الطويل الأمد في ضواحي ولاية فرجينيا الأميركية إلى ليبيا، أدّت المنافسة السياسية بين الإسلاميين والتكنوقراط الموالين للقذافي والزملاء السابقين للنظام وأولئك الذين اضطهدهم النظام، مصحوبةً بمجموعة من النزاعات المحلية وصعود الجماعات الجهادية، إلى إشعال فتيل حرب أهلية ثانية في العام 2014. وتسببت هذه الديناميكية في بروز المسلحين على حساب نظرائهم السياسيين – بمن فيهم حفتر نفسه، حيث تركت عمليته العسكرية في أعقابها إدارات عسكرية عبر شرق ليبيا. بعد مرور خمس سنوات، لا تزال البلاد ممزقة بين حكومة الوفاق الوطني التي تدعمها الأمم المتحدة، ومقرها طرابلس ويرأسها رئيس الوزراء فايز السراج، والإدارة الأخرى التي يدعمها حفتر في شرق ليبيا. لقد صار المجتمع الدولي، إلى حد كبير، منفصلاً عن الواقع على الأرض حيث يحاول إيجاد وحدة سياسية بين سياسيين مُهمَّشين بشكل متزايد.
في العام 2019، كان انتشار “الجيش الوطني الليبي” التابع لحفتر المفاجىء عبر جنوب ليبيا سريعاً. في إطار حملة إعلامية للترويج للعملية كجهد لطرد القوات الأجنبية والإرهابيين من جنوب ليبيا، تحرك “الجيش الوطني الليبي” (الذي يستخدم أيضاً ميليشيات أجنبية) بسرعة في شباط (فبراير) لتأمين حقلي “الشرارة” و”الفيل” الليبيين اللذين ينتجان معاً ما يقرب من 400,000 برميل يومياً. تماماً كما فعل عندما سيطر على منشآت النفط في شرق ليبيا في أيلول (سبتمبر) 2016، إستوعب حفتر قوات محلية وُضعت بشكل استراتيجي (بما في ذلك تلك التي تحرس حقول النفط) في “الجيش الوطني الليبي” مع وعدٍ بزيٍّ موحَّد وراتب.
ربما كان أكثر ما تكشّف عن ذلك هو التوزيع المصاحب لعملة ليبية موازية (قدمتها روسيا من أجل إبقاء حفتر وحكومة شرق ليبيا الموازية سائلة على مدى السنوات القليلة الماضية) إلى جانب الدقيق والغاز والنفط، على السكان المحليين المهمشين منذ فترة طويلة. إن استيلاء حفتر على حقول النفط يُعلن لعامة الشعب الليبي أنه قادرٌ على توفير ما لا تستطيع حكومة الوفاق الوطني العقيمة في طرابلس تقديمه.
كانت هذه الخطوة الأخيرة في الجنوب جريئة ومهمة. لكن هذه العملية – التي كانت ماهرة وماكرة – لن تكون كافية لكسر الوضع الراهن. لقد إحتفظ حفتر بمعظم إنتاج النفط الليبي منذ العام 2016، ناهيك عن سيطرته الفعلية على المجلس التشريعي المنتخَب في ليبيا وحكومته المُعيَّنة ذاتياً، والتي كانت تدير الشرق وتعارض حكومة الوفاق الوطني في طرابلس (التي كانت أنشأتها الاتفاقية السياسية الليبية).
لكن حفتر فشل في ترجمة سيطرته الواقعية على الأرض إلى عملة سياسية حقيقية – بالتحديد إلى منصب قيادي في الحكومة المعترف بها دولياً. قوبلت محاولته لبيع النفط بشكل مستقل في حزيران (يونيو) 2018، والتي كان يُمكنها أن تكون مُغيّرةً للعبة، بمقاومة دولية متضافرة أجبرته في النهاية على التراجع. منذ فشل هذه المحاولة الفظة للإستيلاء على السلطة، قام حفتر ومؤيدوه بمحاولة خفية لتوليد النفوذ حيثما كان ذلك مهماً، بين أصحاب سلطة الأمر الواقع في طرابلس والمجتمع الدولي الذين يقودون العملية السياسية في ليبيا.
خلال هذا العام ركّزت الجهود الديبلوماسية على إبرام صفقة بين حفتر والسراج رئيس حكومة الوفاق الوطني – مما أدى بشكل أساسي إلى تهميش المجلسين التشريعيين الليبيين في مسار يهدف إلى إضفاء الطابع الرسمي على دور حفتر الوطني. وفقط بعد تعثر وتوقف هذه المفاوضات، قام حفتر والجيش الوطني الليبي بإطلاق العملية الجنوبية، التي كانت طُبخت في الإمارات العربية المتحدة، إحدى أهم القوى المؤيدة لحفتر. تبعت ذلك بسرعة جولة جديدة من الديبلوماسية. أولاً، كان رئيس شركة النفط الوطنية الليبية مُقتنعاً بإعلان رفع القوة القاهرة عن حقول النفط الجنوبية التي تم الاستيلاء عليها، متنازلاً بذلك بشكل أساسي عن السيطرة لحفتر إعترافاً بغزوته ك”حدث إستثنائي”، مما أضفي شرعية على وجود حفتر هناك وتوطيد سيطرته على نفط ليبيا. في أواخر شباط (فبراير)، تم جمع السراج وحفتر من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة والمبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى ليبيا لإجراء مفاوضات جديدة تهدف إلى وضع اللمسات الأخيرة على صفقة سياسية – والآن مع جلب حفتر ثقل أكبر إلى الطاولة. لكن حفتر غادر أبو ظبي من دون أي شيء صلب وقوي، مما يشير إلى أن السراج فعل ما يفعله أفضل، إيقاف المفاوضات في محاولة لشراء الوقت. إنه يتفاوض، مع ذلك، بيد ضعيفة بشكل متزايد.
في الواقع، لدى حفتر الآن طريقان لتبادل مكاسبه الأخيرة للحصول على مقعد رسمي على الطاولة: صفقة رسمية أو فرض الواقع الفعلي الجديد عسكرياً.
الأول هو الخيار الأسهل والمفضل على الأرجح. على الرغم من صخب الجيش الوطني الليبي، فإن الغزو الكامل لغرب ليبيا سيكون شاقاً وصعباً وغير مؤكد أن يؤدي إلى أي نوع من النصر، ناهيك عن النصر السريع. لقد تركت الخطوة العسكرية جنوباً حفتر ممدداً وممتداً كثيراً وجعلته مسؤولاً عن الحفاظ على السلام في منطقة قبلية محرومة من قبل الدولة، مزقتها النزاعات، والتي تشهد بالفعل إنتعاشاً للجريمة. كما أنه عزل سكان منطقة التبو الكبيرة في المنطقة، والذين يشعرون بالاضطهاد بسبب النظام الجديد، وسيكون عليه أن يستمر في الإنفاق للحفاظ على ولاء القبائل والجماعات الأخرى التي اشتراها إلى جانبه.
بدلاً من ذلك، من المرجح أن يحتفظ حفتر بالمفاوضات مفتوحة مع السراج. هناك عدد قليل من الآليات التي يمكن أن تضخ الجيش الوطني الليبي في هيكل الإتفاق السياسي الليبي من دون اشتراط الحصول على موافقة المجلس التشريعي في صلب المفاوضات الحالية. ويُمكن تعديل مجلس الوزراء، مما يوفر لحفتر النفوذ السياسي اللازم ليُعلن أنه القائد الأعلى للجيش الليبي. أم أن يصبح عبد الله الثني، رئيس وزراء حكومة حفتر الشرقية، رئيساً لحكومة موحدة بينما يحتفظ السراج بدور رئاسي احتفالي بشكل متزايد ويصير حفتر مرة أخرى القائد الأعلى. مع تزايد الضغوط الدولية لإبرام صفقة، يبدو أن السراج هو الخاسر المُحتمَل في أي سيناريو.
من الواضح أن الدول الداعمة لحفتر تمكنت من إقناع الآخرين بأنه ينبغي الترحيب بحفتر بصفته الفاعل الوحيد القادر على كسر الجمود السياسي. لقد أصبح هذا التحوّل واضحاً جرّاء الدعم الواسع الذي تلقته صفقة السراج – حفتر، التي حصلت أيضاً على تأييد من الولايات المتحدة. في حين أن أكثر مؤيديه ثقلًا في فرنسا والإمارات العربية المتحدة قد جادلوا منذ فترة طويلة بأن حفتر هو الرجل القوي لتحقيق الاستقرار في فوضى ليبيا ما بعد الثورة ، كان آخرون في السابق، مثل إيطاليا، يحذرون من تقلبات حفتر وإضفاء الشرعية على إنتزاعه للسلطة.
لكن على الرغم من أفضل الجهود التي يبذلها حفتر، لم يتم التوصل إلى أي اتفاق بعد. يُمكن أن يكون لا يزال أسوأ عدو لنفسه. إن رفضه قبول أي شيء أقل من موقف مهيمن يُغذّي قدرة السراج على التوقف ويؤدي بالتالي إلى مفاوضات مطولة أخرى. وكلما طال الأمد، سيبدأ ذوبان الزخم الذي اكتسبه حفتر، والمُستمَد من استيلائه على الأراضي ومن صورته المُسَوَّقة كرد للمجتمع الدولي على الأزمة الليبية. إذا لم يتم تحديد الصفقة قبل بدء “المؤتمر الوطني” للأمم المتحدة بشأن ليبيا في 14 نيسان (إبريل) الجاري، فسيكون فقد فرصة كبيرة. ولن يؤدي هذا الأمر إلى دفع مؤيديه ووسائل الإعلام إلى تشويه سمعة المؤتمر الوطني فحسب، بل قد يشجعه أيضاً على المخاطرة بالإقدام على حلّ عسكري.
ومما يدعو إلى القلق أن الأشهر القليلة الماضية تُردّد صدى الحقبة التي سبقت الحرب الأهلية في ليبيا في العام 2014 وتوقيع الإتفاقية السياسية الليبية بعد ذلك بعام. لقد تسبب الإحباط من الركود السياسي الى إنخفاض إهتمام الفاعلين الدوليين بشأن السياسات غير الناجحة على أمل فرض حل. من الأفضل لصانعي السياسة أن يتذكروا الطريق السابق الذي أدى إلى الفشل، بدلاً من محاولة فرض مربع مربوط عبر ثقب دائري. كان صعود حفتر مدفوعاً بقوى أجنبية كان فهمها لما يجري في ليبيا مُنحرفاً وتتعارض مصالحها مع مصالح الشعب الليبي والعديد من الدول التي تعتمد على استقرار ليبيا. وعلى الرغم من التعب الذي تُعاني منه السياسة الحالية للبلاد، لا يزال هناك طيف واسع من الليبيين الذين يرفضون الحفاظ على “حفتروقراطية” وما يمكن أن يعني ذلك بالنسبة إلى الدولة والمجتمع الليبي. من غير المرجح أن يتلاشى هذا الإستياء، بغض النظر عن الجهات الفاعلة المحلية التي تُكرَه للقفز إلى عربة الجيش الوطني الليبي. إذا ساندت الأمم المتحدة صفقة في وقت مبكر للغاية، أو حوّلت مؤتمرها الذي طال انتظاره لتجاوز القبول الشعبي للصفقة، بدلاً من رسم خريطة طريق شاملة للأمام، فقد تفقد مصداقيتها في البلاد وتُبدد فرصة حيوية لإصلاح نهج النظام الدولي في ليبيا.

• طارق المجريسي هو زميل وباحث سياسي في برنامج شمال إفريقيا والشرق الأوسط في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. يمكن متابعته على تويتر: @ Tegegrisi

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى