متى ننتقل من بلد المذاهب إِلى بلد المواهب؟

بقلم هنري زغيب*

تابعتُ احتفالاتٍ واكبَت “عيدَ بشارة العذراء”. ولعلَّ لبنانَ هو البلدُ الوحيد في العالم يُخصِّص لهذا العيد عطلةً رسمية للدولة والمدارس والمصارف وسائِر المؤَسسات العامة والخاصة، دلالةً على قيمة “البشارة” لدى المسلمين والمسيحيين الـمُكوِّنِـينَ الشعبَ اللبناني. وهي بادرةٌ طيِّبةُ النية من المسؤُولين أَن يُـعَــيِّـدوا لها كأَيِّ عيدٍ دينيٍ مسيحيٍّ أَو إِسلاميٍّ آخَـر.
وتابعتُ كذلك أَصوات مَن راحوا يُــعِــيْدون الكلام على معنى هذا العيد، وذكْر “البشارة” في القرآن الكريم والإِنجيل المقدس معًا، بينَ ما وردَ في الآيَتَين الثلاثين والحاديةِ والثلاثين من إِنجيل لوقا وفيهما: “قال لها الملاكُ لا تخافي يا مريم لأَنكِ قد وجَدتِ نعمةً عند الله وها أَنتِ ستحبَلين وتَلِدين ابنًا وتسمِّينَه يسوع“، وما ورَدَ في الآيات السابعةَ عشْرةَ والثامنةَ عشْرةَ والتاسعةَ عشْرةَ من سُورة مريم:”فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيَّا، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيَّا، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيّا“، أَو في الآية الخامسةِ والأَربعين من سُورة عمران: “قَالَتِ الْمَلائِكَةُ: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِين“.
كل هذا ممتازٌ، على أَلَّا يبقى في الـحيِّز الديني وحسْب، أَو اللاهوتـيِّ وحسْب، أَو الطائفيِّ وحسْب، بل الأَهمُّ أَن ينتقلَ إِلى الحيِّز الوطنيِّ فيُصبحَ جُزءًا من المواطنيةِ التي تَفْعَل، تتفاعَل، ولا تُفْتَعَلَ فقط في عيدٍ أَو مناسبةٍ أَو احتفالٍ فتبقى على مستوى الـمُجاملات الـمُتبادَلَة لفظيًّا أَو اجتماعيًّا أَو خَطيًّا في تصاريحَ منبريَّةٍ وبياناتٍ إِعلاميَّة.
رئيسةُ وزراء نيوزيلنْدا جاسِنْدَا آرْدِرن، في ذكرى الأُسبوع على مجزرة المسجِدَين، تحجَّبَت بِـمِنديل أَسْوَد ووقفَت دقيقتَي صمْتٍ في حديقةٍ وسيعةٍ أَمام أَحد المسجِدَين وحولها آلافُ المواطنين تَـهَــيُّــبًا واحترامًا، فيما ارتفعَت أَصوات المؤَذِّنين في أَرجاء البلاد. ورئيسة الوزراء لم تفعل ذلك تضامُــنًا مع المسْلِمين لأَنهم مسلمُون وحسْب، بل لأَنهم مواطنون نيوزيلنْديون كذلك، ولا فرقَ بين مواطنٍ ومواطنٍ إِلَّا بـمقدار انتمائه ومواطنيَّته.
الـمُواطَنة. هنا النقطة الرئيسة: الـمُواطَنة التي تَحترمُ الدين لكنها لا تقدِّمه على الانتماء إِلى الوطن. فالدينُ لله تعالى وكلٌّ يعبُده في دينه، لكنَّ الوطن للجميع، وللجميع أَن ينتَموا إِليه سواسيةً في الـمواطنية، كما جاء في دُستورنا اللبناني تنظيرًا لائقًا لكنَّ تطبيقه ليس باللائق في المطلق.
هذا ما أَعنيه في مطلع حديثي: أَلَّا نلتفَّ على بعضِنا بعضًا مسْلمين ومسيحيين في مناسبةٍ دينيةٍ أَو عيدٍ دينيٍّ فنروحَ نتبادلُ العبارات والمجاملات كمسيحيين حَيال المسْلمين أَو كمسْلمين حيال المسيحيين، بل أَن نُـمارسَ مواطنيَّـتَـنا كمُواطنين أَوَّلًا، يَـجمعُنا الدينُ داخلَ المساجد والكنائس والمعابد، حتى إِذا خرجْـنا من المساجد والكنائس والمعابد ذوي أَديانٍ ومذاهبَ عِدَّة، يَـجمعنا الوطن مواطنين لبنانيين ذوي مُواطنيةٍ واحدةٍ لا تعود تفرِّق بيننا طائفيةُ وظيفةٍ ولا محاصصاتُ طائفةٍ ولا فروقاتُ دين، بل يُوحِّدُنا وطنٌ عَلمانِــــيٌّ تتقدَّس فيه الأَديانُ فرديًّا، وجَـماعيًّا يتقدَّس فيه الانتماءُ إِلى وطنٍ لا يعودُ فيه الزواجُ المدنِـيُّ مظهرَ إِلـحادٍ أَو كُفْر أَو خروجٍ على الدين.

• هنري زغيب شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى