لماذا لم تتعامل الفضائيات العربية مع الإحتجاجات الأخيرة بالطريقة عينها التي تعاملت بها مع إحتجاجات 2011؟

عندما اندلعت شرارة إحتجاجات ما دُعي ب”الربيع العربي” في العام 2011، تبنّتها القنوات الفضائية العربية وسوّقتها سياسياً الأمر الذي زاد من انتشارها. ولكن لوحظ أن هذه الفضائيات لم تتعامل مع الأحداث الأخيرة التي وقعت في الجزائر والسودان بالطريقة عينها. لماذا؟

محطة العربية السعودية: تغطيتها كانت هادئة لأحداث السودان والجزائر؟

بقلم مارك لينتش*

كان البث التلفزيوني الفضائي ووسائل الإعلام الاجتماعية في العالم العربي من العوامل الرئيسة في تحويل إنتفاضتي تونس ومصر في العام 2011 إلى انتفاضات عربية أوسع. لقد سمحت وسائل الإعلام هذه للعرب في المنطقة مشاهدة الأحداث هناك والنظر إليها كجزء من قصتهم. بالنسبة إلى الجزء الصغير نسبياً ولكن المؤثر من شباب الحضر على الإنترنت، فقد سوّقت وسائل التواصل الإجتماعي الإحتجاجات من خلال “الهاشتاغ” المشتركة وبتوزيع صور ومقاطع فيديو وشعارات قوية. ومع ذلك، كانت وسائل الإعلام التلفزيونية، وعلى رأسها قناة “الجزيرة” الفضائية القطرية، مهمة للغاية لإيصال وبثّ هذه الرواية الإحتجاجية إلى جمهور كبير.
في الآونة الأخيرة، طالبت إحتجاجات شعبية كبيرة برحيل رئيسي الجزائر والسودان اللذين حكما لفترة طويلة. ويبدو أن قرار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في 11 آذار (مارس) الجاري بعدم الترشح لولاية خامسة يعكس نجاح المتظاهرين الجزائريين. خلال العامين الماضيين، ضربت الاحتجاجات الكبرى تونس والعراق والأردن والمغرب والسودان. الظروف كانت موجودة لاستعادة ظهور سرد “إانتفاضة عربية”. حاول العديد من الناشطين عبر الإنترنت مرة أخرى صياغة واحدة مبنية على التضامن بين المجتمعات العربية المختلفة. لكن حتى الآن، تجنبت المحطات التلفزيونية الفضائية العربية الرئيسية فعل الشيء نفسه. لماذا كان هذا الموقف؟
لا تتجاهل المحطات العربية الكبرى ما يحدث في الجزائر والسودان بالضبط. يتناول البث الإخباري والبرامج الحوارية التطورات الرئيسة. بعض الشخصيات الإعلامية كان متحمساً على الإنترنت. لكن هذه المحطات، على نحو ملحوظ، لم تتدخل كالعادة في بث تعبئة كاملة كما فعلت في 2011، عندما غطت الإحتجاجات باعتبارها أهم تطور في السياسة الإقليمية. اليوم، بدلاً من ربط الإحتجاجات بقصة عربية واحدة، فإن التغطية تعرضها إلى حد كبير على أنها أحداث محلية معزولة. كانت هناك زيادة ملحوظة في تأطير “الربيع العربي” فقط خلال الأسبوع الماضي، بعد أن أجبرت الإحتجاجات الجزائرية بوتفليقة على الإعلان عن أنه لن يترشح مرة أخرى.
إن دعم وسائل الإعلام العربية الضعيف نسبياً لهذه الانتفاضات لوحظ من قبل ناشطين ومراقبين كثر. لاختبار هذه الملاحظة، إستخدمتُ أداةً طوّرها زميلي “دين فريلون” للاستيلاء على آخر 3200 تغريدة على موقع “تويتر” الرئيسي لمحطتي التلفزيون الفضائيتين الرئيسيتين، “الجزيرة” و”العربية”. تمثل هاتان المحطتان المعسكرين الرئيسيين في السياسة العربية: كانت “الجزيرة” منذ فترة طويلة الحامل القياسي للشعوبية العربية وهي الآن تتماشى بشكل وثيق مع السياسة الخارجية القطرية أكثر من الماضي؛ قناة “العربية” هي الناطقة بلسان المملكة العربية السعودية. تعود التغريدات، التي تقارب على الأقل ما بثته كل محطة، إلى كانون الثاني (يناير) الفائت وتنتهي قبل الأحداث المثيرة للأسبوع الماضي في الجزائر.
حوالي 7٪ من تغريدات “الجزيرة” كانت عن الجزائر بعد الاحتجاجات الأولى التي وقعت في 22 شباط (فبراير)؛ و4 في المئة كانت عن السودان بعد بدء الاحتجاجات هناك. كما قامت قناة “العربية” بالتغريد عن الجزائر حوالي 7 في المئة من الوقت منذ 22 شباط (فبراير)، والسودان حوالي 3 في المئة. حتى في ضوء أجندة الأخبار المزدحمة، تبدو هذه النسب منخفضة مقارنة بالإهتمام الشعبي الكبير بالاحتجاجات.
نظرتُ أيضاً إلى تغريدات ذات صلة بالجزائر والسودان كمقياس لاهتمام الجمهور. بالنسبة إلى قناة “الجزيرة”، تلقّت تغريدات الجزائر على تويتر أكثر بقليل من نصف المعدل الكلي للتغريدات بينما حصل السودان على ضعف المتوسط تقريباً من التغريدات. بالنسبة إلى “العربية”، حصلت الجزائر على تويتر على نسبة 15 في المئة من المتوسط الكلي للتغريدات، في حين حصلت السودان على 30 في المئة. بعبارة أخرى، لم يكن سوى تغريدات “الجزيرة” عن السودان أكثر شعبية من المتوسط لإعادة التغريد.
ربما كان الإهتمام المنخفض نسبياً بسبب نبرة التغطية. غطت كلتا المحطتين الجزء الأكبر منها كقضايا محلية، وليس كجزء من اتجاه إقليمي أوسع. كانت “الهاشتاغات” المشتركة (حيث يتم ربط دولتين أو أكثر في تغريدة واحدة) غير موجودة تقريباً. إلى حد بعيد كانت تغريدة “الجزيرة” التي أعيد تغريدها عن أيٍّ من البلدين خلال هذه الفترة، من المثير للاهتمام، شريط فيديو يجمع السودان والجزائر معاً للتساؤل عما إذا كانت الأحداث هناك تشير إلى “ربيع عربي” جديد.
لماذا لم تتبنَّ وسائل الإعلام العربية هذه الإنتفاضات كما فعلت في العام 2011؟ هناك تفسيرات تتعلق بسير الأعمال في وسائل الإعلام، بالطبع. إن أجندة الأخبار في العالم العربي مزدحمة. كما أن السودان والجزائر بعيدان من أولويات معظم مشاهدي هذه المحطات. ومع ذلك، كان يمكن قول الشيء نفسه بالنسبة إلى تونس في العام 2011، والاحتجاجات عادة ما تكون للتلفزيون ممتازة.
لا شك أن التغطية تتشكّل بوضوح بموجب السياسة. لا تستطيع المحطات العربية الكبرى تجاهل التطورات السياسية المترتبة على ذلك تماماً مثل الإحتجاجات السودانية والجزائرية. لكن لديها حافز ضئيل في هاتين الحالتين للدخول في وضعية الترويج الشامل. إن النظام الإقليمي عاد إلى قبضة حكام مستبدين، وهو مستمرٌ منذ سنوات وقد تم تصميمه لمنع موجة جديدة من الاحتجاجات العامة. وشددت تلك القبضة قوتها حيث اندلعت الاحتجاجات مراراً وتكراراً. تقريباً كل نظام في العالم العربي اليوم يشعر بقلق شديد إزاء اندلاع انتفاضة إقليمية أخرى. الجميع ما زالوا يتذكرون جيداً أن شرارة الإنتفاضة الأصلية جاءت من تونس البعيدة الهامشية. حتى أدنى فرصة لحدوث الشيء نفسه مع الجزائر أو السودان تثير قلق الأنظمة المهووسة بالأمن. لقد صاحب نجاح المتظاهرين الجزائريين تحذيرات من قادة مثل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ضد “أعمال الشغب”. أما في الخليج فقد كان التعليق على أن الإحتجاجات هي مشكلة للجمهوريات العربية وليس للملكيات.
في حين قد تشعر القوى العربية بحافز لتشجيع الانتفاضات ضد الأنظمة المعادية، فإن السودان والجزائر كلاهما دولتان متأرجحتان في الساحة الإقليمية الحالية الشديدة الإستقطاب. ظلت الجزائر محايدة في النزاع بين قطر والكتلة السعودية -الإماراتية. لا قطر ولا الكتلة السعودية – الإماراتية رأت ميزة في تنفير الجيش الجزائري، أو دفع الجزائر نحو الجانب الآخر من الإنقسام الإقليمي بسبب التغطية العدائية في وسائل الإعلام التابعة لهما. سيحرص كل منهما على ضمان ألّا يؤدي التغيير المُحتمل في القيادة في الجزائر إلى دفع البلاد إلى معسكر الآخر.
وبالمثل، تستثمر كلٌّ من قطر والسعودية، من دون حماس كبير، لبقاء الرئيس السوداني عمر البشير. قام السودان أخيراً بإعادة بناء العلاقات مع المملكة العربية السعودية من طريق الإبتعاد عن إيران والتطوع بقوات للمشاركة في الحرب اليمنية. في المقابل، دفعت الرياض لإعادة تأهيل البشير على الرغم من إدانته من قبل المحكمة الجنائية الدولية لجرائم الحرب. لكن السودان حافظ على علاقات جيدة مع قطر. وقد زار البشير الدوحة في كانون الثاني (يناير)، حيث تلقى دعماً شعبياً ولكن لم يحصل على مساعدات إقتصادية جديدة. تشعر قطر بالقلق من أن أي بديل للرئيس السوداني يمكن أن يضع بلاده في معسكر مصر والإمارات العربية المتحدة، مما سيمثل نكسة استراتيجية للدوحة.
إن العلاقات القطرية والسعودية غير المتكافئة مع النظامين السوداني والجزائري تعني أنه على الرغم من أن كلاً من الرياض والدوحة قد لا تتبع تغطية هادئة تماماً كما يُمكن أن تفعل بالنسبة إلى الاحتجاجات ضد الحلفاء المقربين، إلا أنه ليس لديهما حافز لتشجيع الاحتجاجات. لكن قد يتغير ذلك الآن بعدما أدت الاحتجاجات في الجزائر إلى منع الرئيس بوتفليقة من الترشح لولاية جديدة. عندما يسقط القادة العرب، تجد محطات التلفزيون الفضائية صعوبة في تجنب إطار “الربيع العربي” الذي لا يزال فعالاً للتغطية. علاوة على ذلك، فهي تبث برامجها التلفزيونية ساعية إلى تشكيل طبيعة الأنظمة اللاحقة.

• مارك لينتش هو زميل كبير غير مقيم في برنامج كارنيغي للشرق الأوسط حيث يتركز عمله على سياسات العالم العربي.
• كُتِب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى