الطائفة السنّية في العراق تواجه حالياً أزمة سلطة وهوية

منذ سقوط نظام صدام حسين وأهل السنّة في العراق يواجهون وضعاً مأزوماً الأمر الذي أدى بهم إلى التشرذم وعدم الوحدة. من هنا يواجهون الآن أزمة سلطة وهوية والتي قد تكون نتيجتها فقدان القوة والخضوع لهيمنة الأكثرية الشيعية.

المجمع الفقهي العراقي: يتصارع على الصلاحيات مع ديوان الوقف السني

بقلم حارث حسن*

مرقد الفقيه والعالم الإسلامي في القرن الثامن أبو حنيفة النعمان، والذي يقع في حي الأعظمية السني في وسط بغداد، لا يستقطب الكثير من الزوار في هذه الأيام. كما لم ولا يشهد عملية تجديد أو توسعة كبيرة مماثلة لأضرحة أئمة الشيعة في كربلاء والنجف. لهذا السبب فهو يُجسّد في بعض النواحي أزمة السلطة والهوية التي يواجهها المجتمع العراقي السنّي.
هذه الأزمة هي جزئياً نتيجة صعود الشيعة في البلاد. ويرجع ذلك أيضاً إلى الإنقسامات الداخلية والتنافس بين مختلف المطالبين بالسلطة داخل الإسلام السنّي، وكذلك بين أهل السنة ذات التوجهات الدينية والأشكال البديلة للهوية، سواء كانت قبلية أو إقليمية أو علمانية. وقد لخّص عبد الوهاب السامرائي، وهو رجل دين بارز في المجمع الفقهي العراقي، المزاج العام من خلال ملاحظة: “نحن، السنّة، نتعرض لهجوم، ونتلقّى صفعة تلوَ الأخرى”. ويقع المقر العام لمبنى المجمع الفقهي العراقي في جامع الإمام الأعظم الذي يضم ضريح أبي حنيفة النعمان، ودوره هو إصدار الفتاوى وتوفير التعليم الديني والمشاركة في العمل الخيري.
أدّت أعمال القتل الطائفية التي وقعت في بغداد خلال الفترة 2006-2007 والصراع الذي اندلع بعد العام 2014 مع تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) إلى وضع السلطات الدينية السنية في موقف صعب. وقال السامرائي في إشارة إلى الطائفة الشيعية: “كان علينا مواجهة التطرف السني، مع حماية هويتنا في الوقت نفسه من الهيمنة الكاملة من قبل الآخر”. وقد تترجم هذا إلى تفتيت المجتمع السني وعدم وجود توافق في الآراء بشأن القضايا الأساسية، بما في ذلك كيفية تجديد ضريح أبو حنيفة، وهو موضوع خلاف بين المجمع الفقهي العراقي وديوان الوقف السنّي، المؤسسة الرئيسية المسؤولة عن المساجد السنية والأوقاف الدينية في العراق.
على الرغم من الضرر الناجم عن الإرتباط العقائدي للطائفة السنية بتنظيم “الدولة الإسلامية”، ما زالت الشبكات السلفية ووعظها الديني قائمين. وينطبق ذلك بشكل خاص على محيط بغداد وفي المناطق الإجتماعية والإقتصادية الهامشية في المراكز الحضرية السنية الرئيسية. وتستقطب السلفية الشباب ذي التوجهات الدينية، ومعظم المساجد في تلك المناطق يسيطر عليها رجال دين ذوو ميول سلفية.
من ناحية أخرى، توفّر السلفية أيضاً نظاماً قيّماً بديلاً من المجتمعات التي تمّ تحديدها أساساً والمترابطة بعلاقات قبلية. إن الميزة المتساوية للسلفية وتفسيرها الحرفي المباشر للقرآن والسنة، أو تقليد النبي محمد، تُناشد تلك القطاعات التي لا تثق في الطبيعة الهرمية للسلطات الدينية الرسمية وتبحث عن بدائل أكثر راديكالية. ومع ذلك، فإن غالبية الشبكات السلفية في العراق تتسم سياسياً بالهدوء. إنهم ينأون بأنفسهم عن “الدولة الإسلامية” ويمارسون نسخة سلفية تُركّز على الأخلاق الإجتماعية والتقوى الدينية. لكن حتى في هذا الشكل، يهدد السلفيون الأشكال الأخرى من الإسلام السني، وخصوصاً الصوفية، التي لها تقاليد عريقة في العراق ووجود قوي في المراكز الحضرية في البلاد.
لمواجهة السلفية، بخاصة أشكالها التكفيرية الأكثر تطرفاً، حاول عبد اللطيف الهميم، رئيس ديوان الوقف السني والباحث الإسلامي وهو أصلاً من محافظة الأنبار، إضفاء الطابع المؤسسي على الوعظ الديني ومحاربة التطرف والتعصب الأعمى وعدم التسامح في الخطاب الديني السني. أحد الأسباب للقيام بذلك كان لتأكيد سيطرة مؤسسته على المساجد السنية وتخفيف حدة الرسائل والخطابات التي يرسلها ويلقيها أئمتها. ومع ذلك، يبدو أن جهود الهميم قد حققت بعض النتائج الجيدة في التأثير على المساجد في بغداد ومراكز المحافظات الرئيسية، إلّا أن المزيد من المناطق الطرفية لا تزال بعيدة من متناول سلطته.
والأهم من ذلك أن شرعية الهميم كرئيس لديوان الوقف السني هي موضع تساؤل من قبل الجهات الفاعلة الدينية الأخرى. فقد تم تعيينه من قبل حكومة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي من دون استشارة المجمع الفقهي العراقي، والذي بموجب قانون ديوان الوقف السني كان ينبغي أن يوافق على الترشيح. وينظر العديد من رجال الدين السنة إلى الهميم كخيار للحكومة التي يُهيمن عليها الشيعة وليس كشخص خرج من عملية شرعية. في محادثة، اشتكى أحمد حسن الطه، رئيس المجمع الفقهي العراقي، من أن الحكومة لا تحترم استقلالية المؤسسات الدينية السنية كما هي الحال مع السلطة الدينية الشيعية في النجف.
لدى الحكومة مخاوف مشروعة حول الأفكار الراديكالية التي يروّجها بعض المساجد السنية. ومن خلال اختيار شخصيات معتدلة مثل الهميم، يُنظَر إلى ديوان الوقف السني كأداة لتقليل جاذبية التطرف السني. لكن المفارقة هي أنه في العراق ما بعد العام 2003، كان هناك تأكيد على استقلالية السلطة الدينية الشيعية، والمعروفة باسم المرجعية، والتي بدت في بعض الأحيان متفوّقة على الدولة، في حين أن السلطة الدينية السنية الرئيسية تتعرّض بشكل متزايد إلى تأثير وضغط الحكومة التي يُهيمن عليها الشيعة. ويتعلق ذلك بالتاريخ المختلف للسلطات الدينية السنية والشيعية، والتعريف الموروث للإسلام السني والدولة. ولكن في سياق تمّ فيه ترسيخ الحدود بين الطائفتين وإضفاء الطابع المؤسسي عليها، فإن الإعتراض في الأوساط الدينية السنية على نفوذ الحكومة يبدو مُبرَّراً.
في الواقع، دفع هذا الواقع بعض الجماعات إلى الدعوة إلى إنشاء مرجعية سنية موحَّدة واعتبارها أعلى سلطة دينية في المجتمع. ومع ذلك، فقد تمت تجربة هذا الأمر مرات عدة من دون أن تسفر عن النتائج المتوقَّعة. كانت المحاولة الأولى في العام 2003 بتشكيل رابطة علماء المسلمين، التي عارضت بشدة الإحتلال الذي تقوده الولايات المتحدة والعملية السياسية اللاحقة في العراق. وآخرها كان إعادة تأسيس المجمع الفقهي العراقي، بمساعدة الحزب الإسلامي العراقي، الذي كان جزءاً من العملية السياسية.
في الآونة الأخيرة، أنشأ مهدي الصميدعي، وهو شيخ سلفي له صلات جيدة مع قوات الحشد الشعبي التي يهيمن عليها الشيعة، ما أسماه “دار الإفتاء” وأعلن نفسه مفتي العراق. وقد جعل مسجد أم الطبول الكبير في بغداد مقره. وقد عارض كلّ من ديوان الوقف السني و المجمع الفقهي العراقي إدّعاء الصميدعي، بالتشكيك في مؤهلاته الدينية وحقه في تشكيل دار الإفتاء. ومع ذلك، فإن حقيقة أن الصميدعي قد تم تمكينه من خلال تحالفه مع الجماعات الشيعية التي لها نفوذ قوي على الحكومة أثارت مسألة حاسمة حول العلاقة بين السلطات الدينية السنية والدولة التي يهيمن عليها الشيعة. إن المؤسسات الدينية السنية التي اختارت التأكيد على استقلاليتها أو معارضة الحكومة قد تم إضعافها في نهاية المطاف بفقدان رعاية الدولة ودعمها. وبدورهم، فشل أولئك الذين خضعوا لإرادة الحكومة وتحالفوا مع الأحزاب الشيعية في إرساء شرعية واسعة بين دوائرهم الانتخابية.
يُمكن أن تكون لأزمة السلطة هذه عواقب مختلفة في المستقبل. إن عدم الكفاءة ونزع الشرعية عن المؤسسات الدينية السنية القائمة سيزيد من تآكل قوتها، وخلق فراغ يُمكن أن تملأه الشبكات السلفية أو المتشددون. في الوقت نفسه، فإن التهديد الذي تمثّله الأشكال الأكثر تطرفاً من السنّة يُمكن أن يُحفّز الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة على بناء علاقات أفضل مع رجال الدين السنّة المُعتدلين. وسوف يسمح ذلك لرجال الدين هؤلاء المزيد من الإستقلالية في مقابل نشر الرسائل الدينية المعتدلة وغير السياسية.

• حارث حسن باحث أول غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، تركّز أبحاثه على العراق، والطائفية، وسياسات الهوية، والقوى الدينية، والعلاقة بين الدولة والمجتمع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى