كيف خسر بوتفليقة طبقة رجال الأعمال و… “السلطة” في الجزائر

الإحتجاجات الأخيرة في الجزائر سلّطت الضوء على الإنقسامات داخل طبقة رجال الأعمال، التي كانت تدعم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، والتي يُرجَّح أن تزداد فيما يسعون إلى حماية مصالحهم.

رئيس منتدى رؤساء المؤسسات علي حداد: ثار عليه رجال أعمال كثيرون

بقلم ريكاردو فابياني*

في 11 آذار (مارس) الجاري، أعلن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة عزوفه عن الترشح لعهدة رئاسية خامسة، بعد موجة الإحتجاجات التي هزّت المنظومة السياسية في الجزائر. لكن هذه الإحتجاجات لم توفِّر أيضاً طبقة رجال الأعمال في البلاد. فمنذ اندلاعها في 22 شباط (فبراير) الفائت، شكّل انشقاق العديد من الشخصيات المرموقة من منتدى رؤساء المؤسسات، وهو المنظمة الأبرز للأعمال في البلاد، مؤشّراً مبكراً عن خسارة النظام الدعم من قواعده الناخبة الأساسية. في مطلع آذار (مارس) الجاري، قدّم محمد العيد بن عمر، الرئيس التنفيذي لمجموعة بن عمر للصناعات الغذائية، ومحمد أرزقي أبركان، الرئيس التنفيذي لمجمع “سوجيميتال” لتصنيع الفولاذ، وحسن خليفاتي، مالك شركة التأمين “أليانس”، ومجيد مداحي من شركة “غرانيتكس” (المتخصصة في مواد البناء)، إستقالاتهم من منتدى رؤساء المؤسسات إحتجاجاً على دعم المنتدى العلني لترشح بوتفليقة للإنتخابات الرئاسية للعام 2019.
لقد وجّهت إستقالاتهم إشارة واضحة بأنه حتى المكوّنات الناخِبة الأساسية في النظام الجزائري تُعاني من تصدّعات آخذة في الإتساع، مع إبداء عددٍ متزايد من الأشخاص إستعدادهم لاتخاذ موقف علني مناهض للرئيس ومؤيّد للحركة الإحتجاجية. واللافت بصورة خاصة هو أن العديد من رجال الأعمال المرموقين أقدموا على ذلك، فقد سلّطت استقالتهم الضوء على موقع علي حداد، رئيس منتدى رؤساء المؤسسات، الذي يزداد ضعفاً، وساهمت في عزل بوتفليقة، ما مهّد الطريق أمام قراره العدول عن الترشّح لعهدة رئاسية جديدة. خلال الأعوام القليلة المنصرمة، أدّى حداد دوراً أساسياً في الحصول على الدعم من طبقة رجال الأعمال الجزائريين لبوتفليقة، مساهِماً بذلك في الانطباع المنتشر على نطاق واسع بأن روّاد الأعمال هم “أوليغاركيون” إستفادوا من روابطهم الوثيقة مع السلطة السياسية.
منذ أصبح حداد رئيساً لمنتدى رؤساء المؤسسات في العام 2014، تجلّت العلاقات بين قطاع الأعمال وفريق بوتفليقة بوضوح أكبر. والصفقة التي حكمت العلاقة بين الطرفَين تقوم على تأمين النظام كامل الدعم والحماية والعقود التي يحتاج إليها رجال الأعمال في مقابل تقديم منتدى رؤساء المؤسسات الدعم الواضح، والأهم من ذلك، التمويل السخي لحملات بوتفليقة الإنتخابية.
لقد افترض المُراقبون المحليون والخارجيون على السواء، طوال سنوات، أن نخبة الأعمال داعِمة بشدّة للرئيس بوتفليقة. ففي عهده، ازدهرت طبقة ناشئة من روّاد الأعمال الذين يعملون باطراد على تثبيت وجودهم، مستفيدين من انتهاء الحرب الأهلية وإعادة تدوير الإيرادات النفطية في الإقتصاد غير الهيدروكربوني، من خلال العقود الحكومية وأشكال متعددة من الحمائية. فعلى ضوء الحماية من المنافسة المحلية والدولية، نجح رجال أعمال على غرار علي حداد، وكريم كونيناف من شركة “كو جي سي” للإنشاءات والبناء، ومحي الدين طحكوت من شركة طحكوت لتصنيع السيارات وسواهم، في تنويع حافظاتهم، وبنوا مجمّعات تسيطر على الاقتصاد الجزائري.
يندرج هذا الترتيب في إطار المحاولة التي بذلها الفريق الرئاسي لفرض الإدارة المركزية للريوع، والتخلص تدريجاً من شبكات المحسوبيات المتنافِسة الأخرى داخل النظام. لقد سعى بوتفليقة، منذ انتخابه في العام 1999، إلى فرض سلطته داخل البلاد عبر العمل بتأنٍّ على تعزيز شبكته الزبائنية على حساب جنرالات الجيش، ولاحقاً الاستخبارات العسكرية. وفي حين نجحت جهوده نسبياً في الحد من تأثير هذه المجموعات، ظلّ الكيان السياسي الجزائري منقسماً بشدّة إلى سلسلة من شبكات النفوذ التي منعت الفريق الرئاسي من فرض احتكاره للمجتمع وقطاع الأعمال.
وقد تجلّى ذلك، بصورة خاصة، في قطاع الأعمال. فحتى قبل احتجاجات 2019، وجّه بعض كبار رواد الأعمال إنتقادات علنية إلى المقاربة التي يعتمدها حداد – وأبرزهم يسعد ربراب، مالك مجموعة “سفيتال”، وسليم عثماني، رئيس مجلس إدارة مجمع رويبة للعصائر. لقد برزَ ربراب معارِضاً وناقداً للنظام يرفع الصوت عالياً ولا يتردد أبداً في مهاجمة الفريق الرئاسي. وقد ظهر خلافه مع النظام الجزائري جلياً في المواجهة بينه وبين مجمع”كو جي سي” المملوك من آل كونيناف في بجاية منذ العام 2017. فقد ألقت السلطات بسلسلة من العقبات الإدارية أمام ربراب، في إطار محاولة غير خفيّة لإعطاء الأفضلية لكونيناف. وبدلاً من القبول بتسوية مع النظام، رفع ربراب الرهانات عبر تعبئة اليد العاملة لديه ودعم سلسلة من مجموعات المجتمع المدني من أجل التصدّي لمخطط النظام الهادف إلى تقويض مشروعه.
بالمثل، عبّر عثماني عن آرائه الإنتقادية للحكومة بصوت عالٍ من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة، حتى إنه استقال من منتدى رؤساء المؤسسات في العام 2014 إحتجاجاً على قرار المنتدى دعم ترشّح بوتفليقة لعهدة رابعة. لكن على الرغم من امتعاض النظام من تصريحاتهم وتصرفاتهم – وعلى الرغم من التهديد بتوقيف ربراب – سمح لهم بمواصلة القيام بأعمالهم، وتمكّنَ هؤلاء المقاولون من حماية حقوقهم التملّكية من أي تعدٍّ محتمل من جانب السلطات.
وقد امتعض رجال أعمال آخرون من محاولة النظام تطبيق المركزية في توزيع الريوع الاقتصادية، على الرغم من أنه يُعرَف عنهم ولاءهم لبوتفليقة. ويُقدّم بن عمر المثال الأبرز في هذا المجال، فقد بادر إلى الاستقالة من منتدى رؤساء المؤسسات تعبيراً عن دعمه للحركة الإحتجاجية. وفي الأعوام الأخيرة، كثرت الإشاعات في الصحافة الجزائرية عن خلاف بين بن عمر والنظام، على الرغم مما يُحكى عن علاقة وثيقة تجمعه بشقيق الرئيس سعيد بوتفليقة. قبل أسابيع قليلة من اندلاع الاحتجاجات، أصدر بن عمر بياناً نفى فيه المزاعم عن عقده اجتماعاً سرياً مع علي غديري، المرشح للانتخابات الرئاسية. إشارة إلى أن بن عمر كان هدفاً للعديد من الإشاعات والتكهنات، بدءاً من الحديث عن تورّطه المزعوم في فضيحة “كوكايين وهران” على خلفية روابطه مع رجل الأعمال غير النظامي كمال شيخي وصولاً إلى الجهود التي قام بها رئيس الوزراء أحمد أويحيى لتقويض أنشطته. إنما يبدو أن السبب الأساسي لعلاقته الصعبة مع النظام يتمثّل في محاولته الفاشلة لإبعاد حداد من منتدى رؤساء المؤسسات بدعم من رئيس الوزراء السابق عبد المالك سلال. سواءً كانت هذه الإشاعات تنطوي على شيء من الحقيقة أم لا، إنها مؤشّر عن علاقة بن عمر الصعبة مع بعض شبكات المحسوبيات المتنافِسة داخل النظام، والتي زوّدت على الأرجح وسائل الإعلام المحلية بهذه الروايات.
وقد تجلّى فشل بوتفليقة في فرض قبضة من حديد على قطاع الأعمال، بالصورة الأوضح، في المجهود الذي بذلته الحكومة لتطبيق سياسة صناعية في قطاع السيارات. ففي مواجهة تناقص الإيرادات النفطية، وارتفاع البطالة، والنظرة المستقبلية الإقتصادية التي تزداد هشاشة، حاول النظام الجزائري تعزيز التصنيع المحلي، لا سيما في قطاع السيارات. وكان وزير الصناعة السابق عبد السلام بوشوارب العقل المدبّر خلف هذه السياسة، إذ حاول التمثُّل بالنتائج الإيجابية التي حققها كل من المغرب وتونس في هذا القطاع. لقد ركّزت الاستراتيجية التي وضعها بوشوارب على كبح واردات السيارات فيما يُفرَض على كبار مصنّعي السيارات العالميين، مثل “بيجو” و”فولكسفاغن”، القبول بإنتاج بعض السيارات في الجزائر للإلتفاف على القيود التجارية. كان من المفترض أن تُقدّم هذه السياسة حوافز كافية لرواد الأعمال المحليين كي يتولوا تزويد هؤلاء المصنّعين بقطع الغيار، ما يساهم تدريجاً في إرساء أسس تطوير صناعة السيارات المحلية في الجزائر.
بيد أن السياسة الصناعية الجزائرية فشلت في تحقيق أهدافها كافة، بسبب ما يُعاني منه النظام من عدم إستقرار ملازم له، وعجزه عن فرض الإنضباط على روّاد الأعمال المعارِضين. لقد وقع بوشوارب ضحية عدم الإستقرار السياسي، فقد طُرِد من وزارة الصناعة في عهد حكومة عبد المجيد تبون التي لم تُعمّر طويلاً، ولم يعد إلى تلك الوزارة منذ ذلك الوقت. وتعرّضت سياساته لانتقادات حادة من خلفائه الذين سلّطوا الضوء على أوجه القصور والتكاليف المرتفعة المترتّبة عن استراتيجية التصنيع. حتى إن بعض روّاد الأعمال في هذا القطاع إتّهم بوشوارب بالمحاباة، في حين وجّه ربراب (وهو نفسه يمتلك ترخيصاً لاستيراد سيارات “هيونداي”) إنتقادات أيضاً إلى سياسته. وقد استغل رجال أعمال آخرون موالون للنظام، مثل طحكوت، هذه الآلية التنفيذية الفوضوية للإستمرار في استيراد السيارات مُخفين نشاطهم هذا تحت ستار التصنيع.
لقد مُنيت سياسة التصنيع التي ينتهجها النظام الجزائري بفشلٍ ذريع، نظراً إلى عجزها عن فرض المركزية الكاملة في إدارة الريوع، واضطرارها إلى التركيز على الأهداف القصيرة المدى بسبب عدم الإستقرار المتأصّل في المنظومة السياسية. وانشغل فريق بوتفليقة كلياً بضرورات بقائه في المدى القصير، متجاهِلاً في خضم تركيزه على إدارة الخلافات داخل النظام، أي التزام بتحقيق أهداف بعيدة المدى وأكثر صعوبة في السياسات. نتيجةً لذلك، تمكّنت طبقة رجال الأعمال من تجنُّب خنقها بالكامل على أيدي النظام، واحتفظت بدرجة من الاستقلالية الذاتية التي عجز الفريق الرئاسي عن السيطرة عليها بعد انطلاق الحركة الإحتجاجية الأخيرة.
مع إعلان بوتفليقة رسمياً عزوفه عن الترشح لعهدة خامسة وتأجيل الانتخابات الرئاسية، غالب الظن أن الانقسامات القائمة داخل طبقة رجال الأعمال سوف تتعمّق. وفي حين أن رجال الأعمال الموالين لبوتفليقة يُبدون قلقاً متزايداً مما قد يترتب عن المرحلة الانتقالية الراهنة، ويخشون أن يحمل تغييرٌ في القيادة تهديداً لمواقعهم، من المرجح أن رجال الأعمال المعارِضين سيعتمدون على شبكاتهم للتأثير في عملية التوريث وحماية مصالحهم. وغالب الظن أن الإنقسام سيزداد داخل المنظومة السياسية الجزائرية، ما يُتيح فرصاً سانحة أمام طبقة رجال الأعمال لممارسة مزيد من التلاعب والمناورات.

• ريكاردو فابياني محلل كبير للشؤون الجيوسياسية في الشركة الإستشارية “أسبيكتس إينرجي” (Energy Aspects) لمتابعته عبر تويتر: Ricfabiani@
• عُرِّب هذا الموضوع من الإنكليزية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى