الأنظمة الملَكية الخليجية تُعزّز العسكرة لبناء الهوية الوطنية

تعتمد بلدان الخليج العربي حالياً على العسكرة لتعزيز الولاء للدولة وبناء الهوية الوطنية، إنما غالب الظن أنها سوف تتسبب بتفاقم الإستقطاب الإقليمي.

الجبش القطري: فلسفته الحالية محلية وليست خليجية

بقلم إليونورا أردماني*

يعمل القادة في الإمارات العربية المتحدة وقطر والسعودية على تسوبق وتعزيز العسكرة كوسيلةٍ لتثبيت حكمهم. من الأمثلة الحديثة على ذلك تطبيق التجنيد الإلزامي للمواطنين الذكور (في الإمارات وقطر والكويت)، والذي سلّط الضوء على الجهود الدؤوبة التي تُبذَل لفرض قومية عسكرية الطابع.
عملت الحكومتان الإماراتية والقطرية (وبدرجة أقل النظام الملَكي السعودي)، على امتداد العقدَين الفائتين، على تطبيق مشاريع من أعلى إلى أسفل الهرم لتكوين هويات وطنية مُتجانسة ومُحدّدة المعالم. ويشتمل ذلك على إقامة معارض ومتاحف تُسلّط الضوء على التاريخ والتراث الوطنيين، وعلى احتفالات اليوم الوطني، والمهرجانات التراثية. كذلك أصبحت الهندسة الإجتماعية من خلال المناهج المدرسية، عاملاً أساسياً في تعزيز هويةٍ قادرة على تخطّي الإنقسامات المذهبية والقبلية والمناطقية.
في هذا السياق، تعتمد الاستراتيجيات ما بعد الريعية التي تنتهجها الأنظمة الملكية في الخليج، بصورة متزايدة، على البُعد العسكري في مشاريعها لترسيخ الهوية الوطنية. إنه عنصرٌ جديد في آليات تكوين الدول في هذه البلدان. ففي الإمارات وقطر، كان دور الجيش غائباً عن بناء الدولة الذي حفّزته العائدات النفطية والقوى الخارجية. وبعد بناء الدولة، أطلق هذان البلدان مساراً أوّلياً، ولا يزال مستمراً، لبناء الأمة حيث ظلّ البُعد العسكري هامشياً. على النقيض، أدّى الجيش دوراً مهماً في نشوء المملكة العربية السعودية، حيث استخدم آل سعود الروابط مع الوهّابيين لتعبئة المقاتلين القبليين (الإخوان المسلمين) بغية ضبط الأمن عند حدود المملكة. لكن حتى في هذه الحالة، لم يؤدِّ العامل العسكري دوراً بارزاً في بناء الأمة. بدلاً من ذلك، يؤدّي الدين، منذ العام 1932، دوراً أكثر حسماً إلى حد كبير في بثّ الشعور بالوحدة الوطنية السعودية.
علاوةً على ذلك، انخرطت الملَكيات الخليجية، داخلياً، في مسارٍ تدريجي لإعادة الهيكلة الإقتصادية بغية بناء دول ما بعد النفط مُستدامة قادرة على تجاوُز تقلبات السوق النفطية. وتقتضي الظروف المُعقّدة الراهنة، التي تجمع بين التحوّلات الداخلية الملحّة والتحديات الخارجية، روابط وطنية أكثر متانةً وشعوراً قوياً بالإنتماء. لم يعد الميثاق الإجتماعي التقليدي يبدو قادراً على تأمين الولاء والوئام. أما العسكرة فتُقدِّم آلية هرمية من الأعلى إلى الأسفل تُركّز على الهوية والقيَم المشترَكة، حيث يُمكن أن تساهم السرديات والرموز العسكرية في تعزيز المشاعر الوطنية وتعبئة المواطنين ودفعهم إلى رصّ صفوفهم حول أعلام بلادهم وقادتهم.
في الإمارات والسعودية وقطر، تحوّلَ البُعد العسكري إلى مكوّنٍ مهم لبناء الأمة، ما عزّز نزعةً قومية مُغالية. و يُمكن أن نلمس هذا التركيز على الجيش في سباق التسلّح الذي تخوضه الإمارات والسعودية وقطر. لقد أصبحت قطر ثالث أكبر مستورِد للأسلحة (لا سيما تلك الخاصة بسلاح الجو) في العالم، مع تسجيل المشتريات العسكرية زيادة بنسبة 282 في المئة بين العامَين 2012 و2016. وأنفقت كلٌّ من قطر والإمارات نحو 10 في المئة أو أكثر من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع في العام 2018، وسجّلت النفقات الدفاعية في الموازنة السعودية للعام 2018 مستوى أعلى من النفقات على التعليم. وقال ولي العهد ووزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان، في مقابلة مع قناة “سي بي أس نيوز” الأميركية في آذار (مارس) 2018، متباهياً: “إذا طوّرت إيران قنبلة نووية، فسوف نبادر إلى فعل الشيء نفسه بأسرع وقت ممكن”.
غير أن العسكرة لا تتعلّق فقط بالقوة الصلبة. فهي تهدف، في هذا السياق، إلى ترسيخ سلطات الحكّام وتعزيز شعورٍ بالفخر في أوساط المواطنين من أسفل الهرم إلى أعلاه. في السعودية، تعكس العسكرة التركيز المتزايد للسلطة في يد الأمير محمد بن سلمان الذي أطلق إعادة هيكلة عميقة للأجهزة العسكرية والأمنية في مسعى لتثبيت حكمه. وفي الإمارات، تعني العسكرة فرض المركزية لتعزيز أوّلية أبو ظبي الاستراتيجية بالمقارنة مع الإمارات الست الأخرى (وعلى رأسها دبي) في إطار الاتحاد الفضفاض، ودعم المخططات الإماراتية الطموحة لممارسة النفوذ الجيوسياسي. وفي قطر، تؤدّي العسكرة هدفاً دفاعياً: منذ بدء التصدّع في مجلس التعاون الخليجي في حزيران (يونيو) 2017، تُولي الدوحة أهمية كبرى للسيادة المُطلقة والدفاع عن النفس، وتعتبر الوطنية نوعاً من المقاومة ضد المقاطعة بقيادة السعودية والإمارات. في كل واحدة من هذه الحالات، ينبغي على الحملات التي تدفع باتجاه العسكرة – مثل فرض التجنيد الإلزامي في الإمارات وقطر في 2013-2014، وإعادة العمل به في الكويت في العام 2017 – أن تأخذ بالضرورة في الإعتبار الهويات الوطنية والإعتراف من القوى الخارجية.
في سياق هذه النزعة، تضاعفت العطل الرسمية والمبادرات الآيلة إلى تعزيز الهويات الوطنية من خلال عدسةٍ عسكرية. وتشمل هذه المبادرات الإستعراضات التي تُنظَّم في العيد الوطني، والعروض العسكرية، وإحياء ذكرى الشهداء تحيةً للجنود الذين سقطوا دفاعاً عن الأمة. على سبيل المثال، يُنظّم الحرس الوطني السعودي المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) سنوياً منذ العام 1985، مضطلعاً بذلك بدور ثقافي إضافي. وفي الإمارات العربية المتحدة، سرعان ما تحوّل العرض العسكري “حصن الإتحاد”، الذي أُقيم لأول مرة في آذار (مارس) 2017 في أبو ظبي، إلى محطة لتعزيز الهوية الوطنية تتخللها مناورات عسكرية، وموسيقى وطنية، وصور لقادة الإمارات المختلفة مُجتمعين. لاحقاً نُظِّمت فعاليات مماثلة لـ”حصن الاتحاد” في كل من عجمان والفجيرة والشارقة – وقد تزامن العرض في الشارقة مع يوم العلم الإماراتي – ما عزّز صداها في إمارات الأطراف. لقد أصبح البُعد العسكري أكثر بروزاً في الأعوام الأخيرة، وفق ما أظهرته احتفالات اليوم الوطني في قطر في العام 2018. فقد كان العرض العسكري في العام 2018 أطول وأكبر حجماً بثلاث مرات مقارنةً مع العرض في العام 2017. سارت القوات المسلحة القطرية على طول كورنيش الدوحة منشدةً أناشيد وطنية وراحت تهتف “فيا طالما قد زيّنتها أفعالنا، قطر ستبقى حرة”، فربطت بذلك بين القوة العسكرية والمقاومة الوطنية ضد المقاطعة الراهنة.
كذلك يساهم الخطاب السياسي الرسمي في نشر هذه القومية العسكرية. لقد صرّح وزير الدولة القطري لشؤون الدفاع اللواء الركن حمد بن علي العطية أن التجنيد الإلزامي يساعد القطريين على أن يصبحوا”مواطنين مثاليين”. أضاف مخاطباً الأمير في كلمة ألقاها لمناسبة العيد الوطني القطري في العام 2017: “جميع هؤلاء العناصر هم أبناؤكم، إنهم ثمار جهودكم الصالحة لبناء درع قوي لحماية الوطن ورفع اسمه عالياً بين الدول”. ووفقاً لحاكم دبي رئيس وزراء الإمارات محمد بن راشد آل مكتوم، يُجسّد الجنود الإماراتيون التضحية والإنتماء والوطنية، وهي خصالٌ تجعل منهم “أبطالاً” و”قدوات إيجابية” للأمة. وفي السعودية، نُظِّمت فعاليات اليوم الوطني للعام 2016 تحت شعار ” أبطالنا في قلوبنا”، في إشارة إلى الجنود السعوديين المنتشرين عند الحدود اليمنية، وفي العام 2018، كتب حاكم مكة، الأمير خالد بن فيصل آل سعود، قصيدة بعنوان “يا ليتني معكم” لدعم الجنود السعوديين عند الحدود وشكرهم.
في هذا الإطار، تُعزّز العسكرة أمن النظام، وبالتالي تخدم الأمن القومي مرتَين. وعلى الرغم من أن القومية العسكرية تُركّز على المواطنين المُقيمين في البلاد، إلّا أنها يمكن أن تشمل أيضاً المُغتربين، كما يحدث خلال الأعياد الوطنية. إنما غالب الظن أن المشاعر القومية الصاعِدة ستؤدّي إلى تعزيز الإستقطاب الإقليمي. فعلى سبيل المثال، تعمل قطر، بصورة متزايدة، على بناء هويةٍ تُشدّد على الاختلافات بينها وبين الدول المجاورة: فالشعور القومي القطري يضع الـ”نحن” في مواجهة الـ”هم”، ويساهم العامل العسكري في تقوية الأمة وتحضيرها لمواجهة التهديدات الخارجية. ينبغي على القومية العسكرية – من منظار قيادي – دعم الإنتقال إلى مجتمعات خليجية ما بعد الريعية، بما يساهم في تعزيز الإنخراط المدني والعزّة الوطنية. غير أن تسارع العملية الجارية راهناً لبناء الأمة، مقروناً بالعلاقات المضطربة بين دول مجلس التعاون الخليجي، قد يؤدّي إلى استفحال الخصومات داخل المجلس، بما يتسبّب بتقويض الهوية الخليجية المشتركة التي لطالما عمل المجلس على تعزيزها.

• إليونورا أردماني زميلة أبحاث مشاركة في المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية (ISPI)، وأساذة مساعِدة في جامعة ميلانو الكاثوليكية، ومحلِّلة في مؤسسة الكلية الدفاعية التابعة لحلف “الناتو” ومعهد أسبن في إيطاليا.
• هذا الموضوع عُرِّب من الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى