نظام بشار الأسد يخرج من الصقيع!

بعدما كان الرئيس السوري بشار الأسد في شبه عزلة تامة عن المجتمع الدولي منذ العام 2011، هناك علامات راهنة بدأت تبرز على قرب انتهاء هذه العزلة على الرغم من العقبات التي تضعها واشنطن في وجه ذلك.

الرئيس الراحل حافظ الأسد: عرف كيف يؤلّب القوى الإقليمية والدولية ضد بعضها لمصلحة سوريا

بقلم إياد الدقّة*

مع اقتراب الحرب الأهلية السورية من نهايتها، تستعيد الحكومة في دمشق، المدعومة من إيران وروسيا (و”حزب الله”)، سلطتها، مع ما يستتبع ذلك من أثار مهمة على توازن القوى في الشرق الأوسط. تحاول الآن الدول المجاورة لسوريا وقوى خارج المنطقة تحديد المستوى المناسب للإنخراط، إن وجد، مع نظام الرئيس بشار الأسد. في الوقت الذي سيستمر الرعاة الأجانب الرئيسيون للأسد في تعميق الروابط العسكرية والسياسية والإقتصادية، فإن الدول التي وقفت ضده على مدى السنوات السبع الماضية هي التي لديها الآن أصعب القرارات التي ينبغي أن تتخذها. إذا كانت الإتجاهات الأخيرة هي أيّ مؤشر، يبدو أن العديد منها يميل بشكل متزايد نحو نوع من التواصل على الأقل. والسؤال هو كيف تفعل ذلك بطريقة تحفظ ماء الوجه ولا تُضعف من مكانتها الديبلوماسية والسياسية، بخاصة بعد قرار الرئيس دونالد ترامب المفاجئ بسحب ال2,000 جندي أميركي من سوريا.
لا يوجد في هذا الحساب أي مكان أكثر وضوحاً من تركيا. بعد إعلان دعمه الكامل للمتمردين السوريين، واصفاً الأسد بال”جبان” وتعهّد “بالصلاة في الجامع الأموي في دمشق” بعد الإطاحة به، قد يكون الرئيس رجب طيب أردوغان يتحرّك بدلاً من ذلك نحو انفراج متدرّج مع جاره. لقد أرسلت تركيا وسوريا إشارات متتالية في شكل مفاوضات ضمنية منذ أشهر عدة. خلال حديثه في مؤتمر عُقد في كانون الأول (ديسمبر) الفائت، أعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أن أنقرة ستعمل مع الأسد إذا فاز في “انتخابات ديموقراطية” في سوريا. ومن جانبها، أثارت السلطات السورية احتمال إعادة تفعيل إتفاق أضنة المُوقَّع في العام 1998 – وهو إتفاق أمن “نائم” بين دمشق وأنقرة لمواجهة الإنفصاليين الأكراد في سوريا – إذا سحبت أنقرة قواتها من شمال سوريا وسمحت للجيش السوري باستعادة السيطرة على محافظة إدلب، آخر جيوب المعارضة المتبقية.
لا يعني أيٌّ من هذا أن أنقرة سوف تعقد صفقة مع الأسد في المدى القصير. لدى تركيا بعض الخيارات على الطاولة، بما في ذلك العمل مع الولايات المتحدة لإنشاء “منطقة آمنة” في شمال سوريا من شأنها أن تُزوّد أنقرة بالعازل الذي تحتاجه لحمايتها من الميليشيا الكردية الرئيسية، “وحدات حماية الشعب”، على الرغم من أن واشنطن وأنقرة تستمران في الإختلاف حول الطابع الدقيق للدور التركي في المنطقة. لكن باتخاذ وجهة النظر الأطول، من الصعب أن نرى كيف يُمكن أن تتعامل أنقرة مع المقاتلين الأكراد في سوريا من دون التنسيق مع دمشق. على سبيل المثال، إعترف أردوغان أخيراً بأن الأجهزة الأمنية التركية لا تزال تملك قنوات خلفية مباشرة مع نظيرتها السورية. وعلى الرغم من أن الحكومة التركية تُقلّل من أهمية هذه الإتصالات، فإنها قد تُمهّد الطريق نحو التقارب السياسي في نهاية المطاف. وإذا اختارت تركيا أن تتدخل في شمال سوريا من دون التنسيق مع الأسد، فإن الأكراد سوف يعودون بالتأكيد مرة أخرى إلى مدار الأسد. في كلتا الحالتين، إنه سيناريو ناجح بالنسبة إلى الجانب السوري من شأنه أن يعزز ويُقوّي موقفه بعد الحرب.
من جهته يقوم الأسد أيضاً بمحاولات لشق الطريق للعودة إلى العالم العربي. بعد إبعاده من الجامعة العربية قبل سبع سنوات، تريد غالبية الدول العربية إعادة دمشق. ووفقاً لبعض المصادر الديبلوماسية العربية، فإن عدداً قليلاً فقط من الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية البالغ عددها 22 الآن يعارض بشكل نشط وعلني إعادة قبول سوريا. في حين قد لا يكون هناك إجماع في الوقت المناسب في القمة العربية المقبلة في تونس في الشهر المقبل، من المرجح أن تعود دمشق إلى الحظيرة في العام 2020.
كما أن العلاقات الثنائية يتم استعادتها كذلك. فقد أعادت الإمارات العربية المتحدة والبحرين فتح سفارتيهما في دمشق، في حين عيّن الأردن قائماً بالأعمال. وبالنظر إلى العلاقات الوثيقة بين تلك البلدان والمملكة العربية السعودية، فإنه من غير المحتمل أن تكون قد تصرفت من دون غمزة وإيماءة من الرياض. بالنسبة إلى أعداء الأسد العرب السابقين، هناك منطق جغرافي سياسي يلعب دوره هنا: بعد أن فشلوا في قطع صلة دمشق بطهران من خلال الضغط العسكري بتسليح المتمردين السوريين، فإنهم يهدفون الآن إلى منع الأسد من الإعتماد كلياً على إيران من خلال بناء روابط اقتصادية الخاصة بهم. لن يكون الهدف هو كسر التحالف الاستراتيجي السوري – الإيراني – لأن ذلك مستحيل في هذه المرحلة – ولكن لمنع سوريا من أن تصبح دولة كاملة الولاء للإيرانيين.
هناك أيضاً مصلحة ذاتية إقتصادية خالصة للأخذ في الإعتبار. بعد ثماني سنوات من الصراع، ترغب الدول العربية في إعادة فتح الشرايين التجارية النائمة والمال على الفرص المُربحة الكثيرة المُتاحة مع إعادة دمج سوريا في الإقتصاد الإقليمي وإعادة بناء شكل ما من التعاون. بعد استئناف التجارة بين سوريا والأردن عبر معبر نصيب الحدودي في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، قامت وفود أردنية عدة، بينها مقاولون ومهندسون، بزيارة سوريا لتحديد الفرص التي تتضمّن مشاريع القطاعين العام والخاص. كما أن المستثمرين والشركات في الخليج العربي متحمسين بالقدر عينه للحصول على شريحة من فطيرة إعادة البناء. كما من المتوقع أن يتم إستئناف الرحلات التجارية المباشرة بين سوريا والإمارات العربية المتحدة والبحرين وسلطنة عُمان خلال الأشهر القليلة المقبلة.
لكن هذا الإندفاع إلى الإنخراط بدأ يخلق فعلياً إحتكاكاً مع الولايات المتحدة وأوروبا. من جهتها تُريد واشنطن زيادة الآلام الإقتصادية إلى أقصى حد ممكن على الأسد ومؤيديه بحجب أي مساعدة لإعادة الإعمار والإستثمارات. فقد تعهّد جيمس جيفري، مبعوث ترامب إلى سوريا، بأن تبذل الولايات المتحدة كل ما في وسعها لمنع الدول الإقليمية والدول الحليفة من المشاركة في إعادة الإعمار ما بعد الحرب في سوريا “إلى أن تحقق العملية السياسية تقدماً”، ويبدو ذلك مُستبعداً أكثر من أي وقت مضى في الوقت الحاضر. إن التهديد بفرض عقوبات أميركية على الدول التي تتعامل مع الحكومة السورية، أو أي شركة مرتبطة بها، يجعل العديد من المستثمرين والشركات العربية في حالة عصبية. لا تزال الدول الأوروبية حذرة من التعامل مع نظام تعتبره غير شرعي. وعلى الرغم من أن الإتحاد الأوروبي أقل تشدداً، إلا أنه قام أخيراً بتوسيع العقوبات ضد كيانات سورية بارزة ورجال أعمال سوريين معروفين.
ولكن حتى هنا، قد لا تتماشى بالضرورة مصالح واشنطن وبروكسل في المدى الطويل. في حين أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية القوية تتشارك في هدف إزالة الأسد من السلطة، فإن البلدان الأوروبية، بسبب قربها الجغرافي من الشرق الأوسط وتدفق اللاجئين السوريين إليها، تشعر بالقلق إزاء ضعف الدولة والإقتصاد السوريين اللذين من شأنهما أن يُغذّيا المزيد من عدم الإستقرار الإقليمي. في الآونة الأخيرة، جادل خافيير سولانا، الممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية والأمنية والسكرتير العام السابق لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، بأن على الغرب أن يعترف بأن نهجه تجاه سوريا قد فشل وعليه “التفاوض بجدية أكبر وعلى جميع المستويات”.
مما لا شك فيه أن هذه المصالح المتباينة تجعل الحياة أسهل للأسد للمضي قُدُماً. لقد كان تأليب القوى الإقليمية والعالمية ضد بعضها البعض لتأمين مصالح سوريا الاستراتيجية سمة مميزة لسياسة دمشق الخارجية على مدى العقود الأربعة الماضية، والتي أتقنها بشكل جيد والد بشار، حافظ الأسد، على مدار 30 عاماً من حكمه.

• إياد الدقّة هو زميل في مركز الدراسات التركية الحديثة في كلية نورمان باترسون للشؤون الدولية بجامعة كارلتون في أوتاوا، كندا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى