القارِئُ شريكُ الكاتب ولَهُ علَيه حُقوق

بقلم هنري زغيب*

إِذا رأْسُ البلاغة الإِيجازُ، ففصاحةُ البلاغة تاجُ هذا الرأْس. ولأَنَّ الكلمةَ وحدةُ اللغة، على الكاتب أَن يَبلُغَ إِبلاغَه بأَقلِّ “وحداتٍ” تَصوغُ لنصِّه جماليا غيرَ ثرثارة. حين الكلمةُ محفورةٌ في المكان اللا تُناسب إِلَّاها (وهذه أَهَمُّ من المقولة المدرسية الباردة: “وضعُ الكلمة المناسبة في المكان المناسب) تكون للكلمة شمسُ سُطُوعٍ لن تَسطَع إِذا تعدَّدت حولها شُموسٌ متجانبة.
تحضرني هنا محاولاتُ كُتّابٍ تناوُلَ اللغة في أَساليبَ شتى، ككتابة نص بدون حرف معيَّن، أَو نص تُـمكن قراءتُه طردًا وعكسًا، وأُلْعُبانياتٍ لفظيةٍ ولغويةٍ أُخرى لا تؤَدّي إِلى تنصيع اللغة لأَنها أُحجياتٌ أَبعدُ ما تكون عن الإِبداع، كنظميات ناصيف اليازجي العَروضية البعيدة من جوهر الشعر.
سنة 1920 تحدَّى الكاتبَ إِرنست همنغواي أَصدقاؤُهُ أَن يكتب “أَقصر رواية” في تاريخ الأَدب، فكتَب أُقصوصةً من ست كلمات: “للبيع: حذاءُ طفلٍ غيرُ مُنْتَعَلٍ بعد”، واعتَبَرها “أَجمل قصة” كتَبَها في حياته. ذلك أَنَّ هذه العبارة/القصة تَفتح للقارئِ واسعًا خيالَه فيروح ينسُج منها افتراضًا كلَّ توسيع مُـحتَمَل.
ظلَّ رقمُ همنغواي قياسيًّا حتى 2005 حين الروائيُّ المكسيكيُّ لويس فيليـپ لوميلي (Lomeli)، الشهير بقصصه القصيرة جدًا، وضَع قصة من أَربع كلمات: “أَنسيت شيئًا؟ أَظُنُّ: نعم”.
الشاهد هنا: قوَّةُ الكلمة الـموحيةُ إِلى وَساعةِ التفكير، الـمثيرةُ الخيالَ الخلَّاقَ. وهي قوةٌ تتجلَّى كلَّما تنصَّعَت البلاغةُ في إِيجاز العبارة إِلى حدِّها الأَدنى من الكلمات.
هذا الإِيجازُ الأَقصى ينطبق تحديدًا على الشعر (الـ”هايكو” الياباني نموذجًا) ولا ينطبق عادةً على الرواية التي طبيعةُ سردِها التفصيلُ حتى الإِطالة الـمُضْنية (“بُؤَساء” ﭬـيكتور هوغو، وروايات أونوريه دو بَلْزاك الذي يَـملأُ صفحاتٍ طويلةً في وصف مدخل البيت قبل الدخول إِلى البيت – “الأَب غوريو”). ويتخلَّى أَيضًا عن الإِيجازِ كاتبُ السيرة فتتمطَّى الصفحات تحت قلمه في إِطالة انطباعية شخصية لا علاقةَ لها أَحيانًا بالمكتوب عنه (سيرة جبران خليل جبران بـقلم ميخائيل نعيمة). ويحدُث أَن يتولَّـى الروايةَ شاعرٌ يكتبها بنبضٍ جماليائي فيقتَضِبُ سردَه في أَناقة الشعر (روايات توفيق يوسف عواد).
وبالإِيجاز ذاته عبقريةُ رسَّامٍ يُعبِّر بخطوطٍ أَقلَّ عن مدى أَكبر. كثرةُ الخطوط والأَلوان تجعل لوحته “ثرثارة”. ولذا أَجاب أوغوست رودان سائِلَه عن إِبداعه تمثالَ “المفكِّر”: “جئْتُ بالصخرة، أَزلْتُ منها الزوائد، فبَقِي التمثال”.
“الإِيجازُ الأَقصى” تتجلَّى نصاعتُه في الشعر: برقًا وميضًا يترك في قارئِه رعدًا كثيرًا، وإِيحاءً تُشْعله كلمة واحدة تترك للقارئِ مَدًى طويلًا يَفترضه انطلاقًا من ذاك الاشتعال. الإِيجازُ في الشِعر يَـجعَلُه شِعرًا أَكثر، والتخلِّي عن الإِيجاز يَـجعَلُه في النظْم ويُقَرِّبُهُ من النثر، والنثرُ فضيحةُ الشاعر.
أَعودُ إِلى البدء: إِذا رأْسُ البلاغة الإِيجازُ، ففصاحةُ البلاغة تاجُ هذا الرأْس: التلميحُ لا التصريح، الأَقلُّ هو الأَكثر.
وهذه عبقريةُ الإِبداع في الإيجاز.

• هنري زغيب شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى