والدان مع سبق الإصرار

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

عزيزي القارئ، إن كنت متزوجاُ وتُفكّر في إنجاب ولد صالح يدعو لك، أو يقرأ عليك الفاتحة عند قبرك، فتمهّل قليلاً. فقد تكون بصدد ارتكاب خطيئة يُعاقب عليها القانون. لا أقصد هنا بالطبع قوانين ساكسونيا ولا قوانين زينب، ولا حتى تشريعاتنا غير المُقدَّسة في بلاد ما بين الفقرين. ولا أُلَمِّح إطلاقاً إلى الظروف المعيشية البائسة التي قد تدفعك إلى سرقة رواتب الموظفين كي تُجهِّز إحدى بناتك كما فعل حسين أفندي في فيلم “أم العروسة”. لا شيء من هذا البتة يا صديقي.
أعرف أنك ضقت ذرعاً باستطرادي غير المُبرَّر، وأنك لا تريد أن تُضيِّع وقتك الثمين في مطاردة كلماتي المُراوِغة، وأنك تُفضّل العودة إلى مواقع التواصل لتحصي عدد اللايكات والتعليقات على تغريدتك الأخيرة. ولكن مهلاً، فالخبر الذي أسوقه إليك هنا يستحق عناء الإنتظار، وتذكَّر أنني هنا لمساعدتك، كي لا تجد نفسك مُستقبلاً خلف قضبان لم تخترها في جريمة لم تتعمّدها.
من الهند (أم المدهشات)، وتحديداً من بومباي، آتيك اليوم بقصة هي الأغرب من نوعها لأدقّ ناقوس الخطر خلف أذنيك تماماً لتفيق من وهم العزوة وسراب اللمة والعضد والساعد. بطل القصة شاب يبلغ من العمر سبعة وعشرين عاماً، لا يُعاني من خلل دماغي ولا ظروف صحية أو معيشية أو نفسية صعبة. فهو رجل أعمال يعيش حياة طيبة ويأتيه رزقه رغداً من كل مكان، لكن المسألة مسألة مبدأ كما يقول، أو بالأحرى كما تروي عنه ال”سي أن أن” الإخبارية. قرر “رافائيل صامويل” – هكذا ومن دون سابق تريّث – أن يُقاضي والديه لأنهما أنجباه من دون أخذ رأيه، ولو كان الأمر بيده لما أتى لهذا العالم، فالحياة فوق هذا الكوكب “لا تُطاق”، والأحرى بالبشر أن يتوقفوا عن التناسل من أجل الكائنات الأخرى التي ستكون يقيناً أحسن حالاً وأفضل مآلاً لو اختفى جنسنا التعس من فوق قشرة هذه اليابسة.
أعرف أنك ستؤيد رأي “رافائيل” وتتحمس له، فلدينا هنا من البؤس، ناهيك عن المبادئ التي يدعو لها الشاب، ما يُحمّس الملايين للاصطفاف خلفه. فما معنى أن تقضي عمرك تبحث في خشاش الأرض عن لقمة غير سائغة تسدّ بها جوعتك حتى يأتيك ملك الموت؟ وما معنى أن تقضي حياتك بين أناس لا تُبادلهم الإحترام ولا يشاطرونك الحب؟ وما معنى أن تنفق حياتك كلها كي تبني بيتاً ليسكنه ورثتك؟ ما معنى حروبنا العبثية التي تفتك بالأخضر والبرتقالي والأحمر؟ وما تفسير الحرائق التي تشتعل في محيطنا كل عشية وضحاها؟ لماذا يُقاتل المؤمنون المؤمنين ويتركوا المُلحِدين ليطعموا أبناءهم في خيام الإيواء؟ ولماذا يفر الناس من الله إلى بيوته ليرفعوا أكفاً تخضبها الدماء كي يرفع مقته؟ لماذا يهرب الناس من أوطانهم ويلقون بأجسادهم المنهكة في عرض المحيط بحثاً عن أي حياة حتى ولو في جوف قرش أو في بطن حوت؟
معذرة .. أعرف أنك لا تطيق هذا الإستطراد، ولكن الشيء كما نقول بالشيء يُذكَر. لم يتمرّد “صامويل” على والديه لأنهما لم يُدخِلاه أفضل المدارس والجامعات، أو لأنهما لم يُسكِناه أفخم القصور والمنتجعات. فالرجل باعترافه يعيش حياة طيبة، لكنه يُبرر دعواه بأنه لا يكفي أن يتواجد المرء داخل غرفة جميلة كي يحبها. لا يحب “رافائيل” الحياة، ولا يعتقد أن لوجودنا في هذا العالم أي معنى، ولهذا قرر أن يرفع دعوى قضائية ضد والديه.
لكن من سوء طالع الشاب أن والديه محاميان، وأنهما يستطيعان الدفاع عن نفسيهما بطلاقة إذا اقتضى الأمر ذلك. المدهش أن أم “رافائيل” لم تلطم خديها أو تشق جيبها كما تفعل الأمهات هنا، ولم تُسمِّ ما فعله جحوداً، ولم تكشف رأسها في جوف الليل لتدعو عليه، بل اكتفت بالقول: “أنا في قمة السعادة لأن ابني قد أصبح شاباً مستقل التفكير غير هيّاب، وواثقة أنه سيجد طريقه نحو السعادة”. لكنها رغم ذلك تتحداه أن يخبرها بطريقة تستطيع الأم من خلالها أن تعرف رأي جنينها إن كان يرغب في النزول إلى هذا العالم التعس أم لا.
من حق رافائيل أن يعترض على وجوده في هذا العالم، ومن حقه أن يضع حداً لهذا الوجود الذي هو في عرفه كالعدم، لكن ما ذنب والدين أنفقا آلاف الآهات من أجل بسمة فوق ثغر وليدهما ذات غرور؟ هل يستحق والدا رافائيل أن يقضيا شيبتهما خلف القضبان لمجرد أنهما أرادا أن تخرج حياة من بين جلدهما المتغضن ليملأ الحياة فرحة وبهجة. زاخر هو العالم بالمفاجآت، لكنني أعترف أن مفاجأة هذا الخبر أخرجتني عن صمتي الطويل، ودفعت الدماء حارة في أطراف أناملي، فوجدتني أصرخ مع رافائيل رفضاً لهذا العالم التعس تارة، وأصرخ مع والديه تارات رفضاً لهذا الجحود المُستفزّ.

* عبد الرازق أحمد الشاعر أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه بواسطة البريد الإلكتروني التالي: Shaer129@me.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى