المنافسة على البحر الأحمر: دول الخليج تلعب لعبة خطرة في القرن الأفريقي

في الوقت الذي تزدحم الدول المجاورة للبحر الأحمر بالقواعد الأجنبية من أميركية، صينية، يابانية وفرنسية … فقد دخلت دول مجلس التعاون الخليجية على الخط وانخرطت في منطقة القرن الأفريقي سعياً وراء نشر النفوذ والمنافسة.

القواعد العسكرية في البحر الأحمر

بقلم زاك فيرتين *

دول الخليج العربية الغنية بالسيولة وذات الشهية الكبيرة تعمل على تأكيد نفسها في القرن الإفريقي كما لم يحدث من قبل. إن موجةً من الإستثمارات الإقتصادية والعسكرية الجديدة هناك تُعيد تشكيل الديناميات الجيوسياسية على جانبي البحر الأحمر، حيث أصبحت المنطقتان المتميّزتان سابقاً منطقة واحدة بسرعة. إن ظهور حلبة سياسية واقتصادية مشتركة – وهي واحدة من أهم الطرق التجارية في العالم – تُتيح فرصاً للتطور والتكامل. لكنها تُشكل أيضاً مخاطر كبيرة. بالنسبة إلى الدول الأفريقية الهشّة الواقعة على السواحل الغربية للبحر الأحمر، فقد أثبت أي تورط جديد من القوى الخارجية أنه موًتِّر ومُسَمّم.
بينما تسعى الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وقطر، وتركيا إلى توسيع نفوذها في القرن الإفريقي، فإنها تُصدّر منافسات شرق أوسطية إلى منطقة لديها الكثير من منافساتها الخاصة. وهي ليست القوى الخارجية الوحيدة التي تهتم الآن بهذه المنطقة التي كانت تنعم سابقاً بالهدوء. فقد أنشأت الصين أخيراً أول منشأة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي – على بعد ستة أميال فقط من القاعدة الأميركية الوحيدة في إفريقيا – مما يجعل البحر الأحمر مسرحاً جديداً لمنافسة القوى العظمى. ويوجد في وسطها مضيق باب المندب، وهو ممر ضيق للشحن تمر عبره مئات المليارات من الدولارات من النفط والصادرات الأخرى بين أوروبا وآسيا والخليج. وعلى الجانب الآخر مباشرة من المضيق، توجد شواطئ اليمن، حيث ما زالت تدور وتستعر واحدة من أكثر الحروب تدميراً في العالم – وأكثر المعارك بالوكالة.
في الوقت نفسه، تجري تغييرات تاريخية في جميع أنحاء القرن: تشهد إثيوبيا نمواً إقتصادياً مزدوج الرقم وتخضع لعملية إنتقال سياسي كاسحة منذ أوائل تسعينات القرن الفائت. وأُزيلَت عقوبات الأمم المتحدة التي فُرضت على إريتريا ودامت عقوداً، حيث ظلت منبوذة منذ فترة طويلة بسبب سجلها في مجال حقوق الإنسان. وفاجأ الخصمان منذ وقت طويل المواطنين والمراقبين على حد سواء في العام الفائت من خلال الشروع في انخاذ خطوات للتقارب بينهما. ومن جهتها فقد تعرف الحكومة الفيديرالية في الصومال، مدعومة بتعاون إقليمي جديد، في النهاية تحوّلاً إيجابياً بعد عقود من انعدام الأمن. وبالنسبة إلى ما إذا كانت المشاركة الخارجية سوف تساعد أو تعيق التغيير طويل المدى في القرن الأفريقي، فيعتمد ذلك على مدى قدرة الدول الأفريقية على إدارة علاقات غير متماثلة مع الشركاء الخليجيين. يجب أن تجد هذه الدول الضعيفة ـ المتوتّرة والمُرهَقة أصلاً بسبب التقلبات الداخلية ـ طريقة لتسخير الإستثمار من دون التنازل عن سيادتها أو الإنجذاب إلى منافسات سياسية لا تُقدّم إلا القليل من الفوائد والمكافآت.

تزاحم جديد على أفريقيا

منذ العام 2015، سعت دول الخليج الغنية بالسيولة إلى الحصول على موطىء قدم على ساحل البحر الأحمر. وقد انتشرت الموانئ البحرية الجديدة والمواقع العسكرية الأمامية في الوقت الذي استطاعت هذه الدول الحصول على قواعد استراتيجية في جيبوتي وإريتريا والصومال والسودان وحتى اليمن. وقد سعت دول الخليج بقوة إلى هذه القواعد الأمامية كجزء من جهودها الكبيرة لإعادة تعريف النظام الإقليمي وتأكيد نفسها كلاعبة على المسرح العالمي.
وتتوقع دول الخليج، وعلى الأخص الإمارات العربية المتحدة، أن توفر الموانئ التجارية الجديدة في القرن الأفريقي إمكانية الوصول إلى الطبقة الإستهلاكية في أفريقيا. ويأمل مسؤولوها في أن تؤدي هذه الإستحواذات، إلى جانب موانئ في اليمن، إلى تحديد مستقبل التجارة البحرية في البحر الأحمر وغرب المحيط الهندي، خصوصاً مع نمو التجارة الصينية في المنطقة بسبب مبادرة الحزام والطريق. وهناك اهتمام بالمنطقة عسكرياً أيضاً، حيث أن دول الخليج قد بنت منشآت يُمكن من خلالها متابعة وملاحقة الحرب في اليمن في المدى القريب وحماية المصالح الأمنية الإقليمية من تهديدات مثل إيران والتطرف العنيف في المدى الطويل. وأخيراً، فإن القواعد والشراكات مع الدول الإفريقية المتعاملة معها تعمل بمثابة تحوّط ضد المنافسين في وقت تتوتر فيه العلاقات بين دول الخليج العربية. (قطعت البحرين ومصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة العلاقات الديبلوماسية مع قطر وفرضت حصاراً تجارياً عليها في العام 2017).
حتى الآن، إستفاد الإنخراط الخليجي والتركي بشكل عابر في بعض الدول الإفريقية وأثار إستقطاباً في دول أخرى. على سبيل المثال، أدى ضخ الأموال الإماراتية إلى إثيوبيا إلى وقف أزمة الديون الخطيرة في البلد، وتمديد فترة شهر العسل لرئيس الوزراء الجديد، آبي أحمد علي. لقد تفوّق الزعيم البالغ من العمر 42 عاماً، وهو أصغر زعماء أفريقيا، على الحرس القديم في البلاد ويقوم بسرعة بتفكيك الدولة الأمنية التي شكلها هذا الأخير – من خلال إنهاء حالة الطوارئ، وإطلاق سراح الآلاف من السجناء السياسيين، وتخفيف القيود المفروضة على وسائل الإعلام وحرية التعبير، من بين إصلاحات أخرى. ويخطط آبي أيضاً لخصخصة الصناعات الرئيسية، وعيّن أعداداً قياسية من النساء في المناصب العليا، كاسباً جراء ذلك القلوب والعقول في الداخل والخارج.
إلا أن الحماس الكهربائي المعروف ب”هَوَس آبي” (Abiy-mania) من المتوقع أن يخفّ فيما تواجه أجندة آبي غير العادية للتغيير عقبات، بما في ذلك إضطرابات تتفشى الآن في العديد من المناطق العرقية في إثيوبيا. ويعتمد الإستقرار في الدولة التي يبلغ عدد سكانها 100 مليون نسمة على قدرة آبي على المضي قدماً في هذا البرنامج الإصلاحي الطموح بينما يستجيب للمطالب الشعبية ويقضي على الشكوك والتغلب على شعور واسع النطاق بعدم اليقين. وبالتالي سيكون من الحكمة على دول الخليج أن تُخفف من شهواتها، وأن تتحلّى بالصبر، وأن تمتنع عن إدخال الإنقسامات الخليجية إلى بيئة غير مستقرة أصلاً. من جانبه، رفض آبي بحكمة تأييد أي جانب في أزمة الخليج التي وقعت في العام 2017. وبينما قبل آبي دعم وشراكة إماراتيين (بما في ذلك 2 ملياري دولار إضافية في استثمارات مرهونة)، فإنه سار بعناية وحذر شعبياً، مُدركاً أن رؤيته كعميل لأبو ظبي أو الرياض سيُقوِّضه في الداخل.
في إريتريا المجاورة، إستفاد الرئيس أسياس أفورقي بشكل أوضح من الإنخراط الخليجي – على الأقل في المدى القصير. لقد ساعدت الإستثمارات الجديدة من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على إخراج نظامه المعزول منذ فترة طويلة من الصقيع. وعندما انضم التحالف السعودي – الإماراتي إلى حرب اليمن في العام 2015، كان هذا التحالف بحاجة إلى موقع أمامي في البحر الأحمر يُمكن من خلاله إطلاق حملات جوية وبحرية، واختار مدينة عصب الساحلية في إريتريا، وحوّلها إلى قاعدة عسكرية كبيرة. بعد فشل المحادثات مع جيبوتي حول تشغيل مينائها الرئيسي، تحرص أبو ظبي أيضاً على إعادة تطوير ميناء عصب التجاري البائد وجعله شريان الحياة الأساسي للبلد صاحب الوزن الإقتصادي الثقيل في المنطقة، إثيوبيا.
كما ساعدت العلاقة السعودية – الإماراتية الجديدة مع إريتريا على رفع نظام عقوبات الأمم المتحدة ضدها وفتح طريق التقارب الأوّلي بين أسمرة وأديس أبابا. بعد ذلك، دعت الملكيات الخليجية أفورقي وآبي للإحتفال بالإختراق التاريخي من خلال عقد احتفالات ضخمة في جدة وأبوظبي. لكن التطبيع بين البلدين الأفريقيين ما زال في بداياته. وعلى الرغم من وجود سبب للتفاؤل، إلّا أنه يجب على قادة الخليج أن يولوا إهتماماً كبيراً للحسابات السياسية الداخلية التي تحفز التقارب ومخاطر التحرك بسرعة كبيرة. وما زال يتعيّن التفاوض بشأن مجموعة من القضايا الشائكة، بينما لن يتأقلم الخصوم السياسيون القدامى ووكلاء القوات المسلحة بالوقائع بسهولة. يجب على قادة الخليج أيضاً أن يحذروا من الإستثمار بشكل كبير في الأفراد وليس في المؤسسات: لقد كان أفورقي منذ فترة طويلة أكثر الشخصيات التي لا يُمكن التنبؤ بها في المنطقة، وهو الآن يواجه سياسة متزايدة لا يمكن التنبؤ بها في الداخل. ومن دون عدو خارجي كإثيوبيا للقتال، فإن قبضته الإستبدادية منذ عقود على إريتريا قد تضمحل وتتلاشى في النهاية.
وبينما أنتج الإنخراط الخليجي في إثيوبيا وإريتريا نتائج مُتناقضة، فإن تجربة الصومال تُظهر بوضوح مدى الإنقسام الذي يُمكن أن يحدث. لقد تدخلت المملكة العربية السعودية وتركيا وقطر والإمارات العربية المتحدة في الساحة السياسية في مقديشو في السنوات الأخيرة، على أمل كسب حلفاء واستثمارات والتأثير في أطول خط ساحلي في أفريقيا. وقد أدت التدخلات المتشددة والمكافآت غير المشروعة والتشويش الخليجي إلى تضخيم الإنقسامات في بلد مُنقسِم أصلاً.
ووجود تركيا في الصومال يسبق وجود الأطراف الإقليمية الأخرى، وقد رحّب به العديد من الصوماليين. لقد بدأت أنقرة في إرسال المساعدات الإنسانية إلى الصومال خلال مجاعة 2011 واستثمرت بشكل كبير في البلاد منذ ذلك الحين. وتخشى دول الخليج ومصر من قيام تركيا بتعميق إنخراطها في الصومال والسودان في محاولة لإبراز النفوذ التركي عبر أراضي الإمبراطورية العثمانية السابقة.
كما استثمرت دولة الإمارات العربية المتحدة في تحالف مع مقديشو. لكن في العام 2018، استولى الرئيس الصومالي محمد عبد الله محمد (“فارماجو”) على طائرة مُحمَّلة بأموال إماراتية على مدرج المطار في مقديشو، واتهم الإمارات بالتدخل، ورفض تأييد أي طرف في الخلاف الخليجي. وإذ شعرت بالقلق من أن فارماجو كان يتناغم مع قطر وتركيا، فقد غيّرت أبو ظبي موقفها من الرئيس، وكثفت دعمها لخصومه في الولايات الفيديرالية الصومالية، وضاعفت الإتفاقات مع المسؤولين المحليين في مناطق الحكم الذاتي في “أرض الصومال” و”بونتلاند” من أجل بناء قاعدة عسكرية أخرى وميناءين جديدين. واحتجت مقديشو بشراسة، في حين أعلنت الدول المستفيدة دعمها للجنة الرباعية العربية، فقد أدى ذلك إلى تفاقم التوترات بين وسط البلاد وأطرافها.

ساحة معركة خطرة

المنافسة الجديدة بين القوى العظمى زادت من تعقيد مباراة الشطرنج في البحر الأحمر. إن قاعدة الصين العسكرية في جيبوتي تزيد عدد قواعد الجيوش الأجنبية في المدينة الصغيرة إلى خمس. تتمركز الآن كل من الصين وفرنسا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة في نقطة ارتكاز البحر الأحمر. كما أبدت كل من الهند والمملكة العربية السعودية إهتماماً بإنشاء قواعد في جيبوتي، التي كانت موطناً لميناء المياه العميقة الوحيد في المنطقة، في حين بدأت روسيا محادثات مع إريتريا حول وجودها الاستراتيجي على البحر الأحمر.
أثارت مصالح الصين المُتوسّعة في جيبوتي، جنباً إلى جنب مع منشأتها البحرية الجديدة، القلق في كل من “الكابيتول هيل” (الكونغرس) والبيت الأبيض – حيث تُركز إدارة دونالد ترامب بشكل متزايد على التنافس بين القوى العظمى وهي الآن تُعيد النظر في موقفها العسكري في إفريقيا. إن حقيقة أن واشنطن تُولي اهتماماً أكبر في هذه المنطقة أمرٌ جيد. لكن في حين أن الإعتبارات الاستراتيجية حاسمة، فإن السياسة الأميركية في القرن الإفريقي والبحر الأحمر الأوسع لا ينبغي أن تمليها بالكامل المنافسة مع بكين.
مع إدارة سليمة على جانبي البحر الأحمر، يُمكن للدول الخليجية والإفريقية الإستفادة من الإنخراط الجديد. يُمكن للدول الأفريقية على وجه الخصوص إستخدام الإستثمار والمساعدة على تطوير البنية التحتية وخلق فرص العمل والوصول إلى الأسواق العالمية في أثناء محاولتها تحديث إقتصاداتها. حتى أن بعض الديبلوماسيين الإقليميين دعا إلى منتدى البحر الأحمر – وهو عبارة عن تجمع يعمل على تأمين الممرات المائية في المنطقة، وتنظيم الهجرة، وتحقيق الأمن الغذائي، ومحاربة التطرف، وإدارة الصراع والتهجير.
مع ذلك، من غير المُحتمَل أن يتحقق هذا السيناريو الأفضل بالنسبة إلى البحر الأحمر حتى تنضج عمليات عدة. تحتاج الدول في القرن الإفريقي إلى تعزيز الإصلاحات المحلية والتكامل الإقليمي بحيث يمكنها التعبير عن المصالح المشتركة والتفاوض مع الشركاء الخليجيين على قدم المساواة. إن خصوم الشرق الأوسط – لا يوجد واحد منهم قوياً بما يكفي لتحقيق الهيمنة – يحتاجون إلى حل الأزمة العربية الخليجية، أو على الأقل إزالة التصعيد. وتحتاج الولايات المتحدة والصين إلى تجنب الصدام حول التوترات الحالية وتحقيق نوع من التوازن في المنطقة. ليست أيّ من هذه الإحتمالات مؤكداً أو مضموناً. ومن دون إحراز أي تقدم على كل جبهة، فإن منطقة البحر الأحمر التي تزداد عسكرةً وازدحاماً ستظل حلبة معركة خطيرة.

• زاك فيرتين زميل زائر في مركز الدوحة التابع لمعهد بروكينغز، ومؤلف كتاب “حبل من السماء: صناعة أحدث دولة في العالم”.
• كُتِب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى