بيروت الستّينات في ذاكرة وزارة السياحة

بقلم هنري زغيب*

إِذا البلاغةُ في إِيجاز العبارة إِلى حدِّها الأَدنى من الكلمات، فبَلاغةُ الفوتوغرافيا في صورةٍ واحدةٍ قد توجز في سكوتها حجمًا غيرَ متوقَّعٍ من الكلمات.
وإِذا في صُوَر الحاضر تعبيرٌ يَفترض وقتًا ليُمْسي حضورُهُ بليغًا في الزمن، ففي صُوَر الأَمس دلالاتٌ نوستالجيةٌ تُعيد الماضي حيًّا في حاضر الزمان، نابضًا بالمكان أَعلامًا ومَعالـمَ وعلامات. وتكتسب الصورة نبضَها الأَلَذَّ حين “تُـخبِـر” حكاياتِ أَمسٍ عَبَرَ، دالَت مَعالـمُه ومعها أَنسامُ الذكريات.
أَكتُبُ وأَمامي ملفٌّ موسوعيُّ الحجم (32×40 سنتم) يَـحتضن 20 لوحةً فوتوغرافيةً يجمعُها على الغلاف عنوان “أَصداء بيروت: 1960-1974″، أَصدرَتْه أَخيرًا وزارةُ السياحة في طباعةٍ أَنيقةٍ بـجماليا الأَسْوَد والأَبـيـض أَيَّام زمان، مأْخوذةٌ صُوَرُه من كتاب “بيروت في نبض الحركة” كانت الوزارة أَصدَرتْه سنة 2011.
بلاغةُ هذه الصُوَر في الملفِّ الصادر حديثًا، أَنها “تَروي” أَماكنَ في قلب بيروت لم تَعُد موجودةً، أَو “تَعَصْرَنَت” بالحداثة فتغيَّرَت معالـمُها مع السنَوات جُزئيًّا أَو كُليًّا، ولم تَبقَ من ذاكرتها سوى نبضات الصُوَر في هذا الملفّ منذ غلافه “الساعة الناطقة أَمام تمثال الشهداء في ساحة البرج”، حتى سلسلة المناظر في داخله: “حرش بيروت”، “كورنيش المنارة 1960″، “سُوق الصاغة”، “مطار بيروت 1965″، “ساحة رياض الصلح 1970″، “سوق أَياس”، “المخازن الكبرى بيبلوس – الصيفي”، … وصوَرٌ أُخرى تتداعى إِليها الذاكرةُ هاربةً فَتَحَفَظُها هذه اللوحات الفوتوغرافية، ناضحًا أَبيضُها وأَسْوَدُها بأَلوانٍ ساطعةٍ من حنين الذكريات.
قبل أُسبوعين أَطلق “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية كتاب “الحاضرة بيريت”، وهو أَقدمُ كتاب مطبوع (سنة 1662) عن بيروت، فيه فصولٌ عن مدرسة الحقوق وأَحوالها وصفوفها وأَساتذتها بتفاصيل، وإِن دقيقة، لـم تساعد بعدُ خبراءَ الآثار العاملين في حفريات وسَط بيروت على تحديدٍ تقريبي لـمكان المدرسة التي لأَجل شهرتها وأَهميتها الفريدة سُـميَت بيروت “أُمّ الشرائع”، فبقي الزمان وضاع المكان.
هنا أَهميةُ هذا الملف الفوتوغرافي أَمامي: أَن تكون صُوَرُهُ العشرون شَاهِداتٍ ساطعاتِ الحضور في ذاكرة الزمان والمكان لسنواتٍ طويلةٍ مقْبلةٍ معالِـمَ أَماكنَ اندَرَست أَو بدَّلت وجْهَها ووُجْهَتها، لكنها باقيةٌ في هذه الصُوَر “أَصداءَ رجالٍ ونساءٍ وتَـجوالات، تتحوَّل فيها التفاصيلُ مصادرَ حياةٍ بعلاماتٍ وإِشاراتٍ محفورةٍ على مَــرِّ الفصول وتَبَدُّل القلوب، نَسمع منها حوار التاريخ الداخلي بشكله الأَفضل، فنفهم كيف طارت من النوافذ جداولُ الزمن إِذ رماها الوقت تاركًا لنا ساطعاتٍ تلك الشهادات”، كما وَرَدَ على غلاف الملفّ.
إِذا البلاغةُ في إِيجاز العبارة، فَصَمْتُ الصورة أَبلغُ من الكلمات، كما تَرويها في هذا الملف الجميل كلُّ صورةٍ عن بيروت الأَمس الجميل، حـيَّـةً في ذاكرة المشهد لا إِلى غياب، فتظلُّ شمسُ لبنان الأَمس مشرقةً على لبنان اليوم صباحًا دائمًا لـذاكرة المستقبل.

• هنري زغيب شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى