العلاج المناعي… ثورة جديدة على السرطان

في مناسبة اليوم العالمي للسرطان الذي يُصادف اليوم (04 شباط /فبراير)، كتب الباحث والمتخصص بأمراض السرطان البروفسور فيليب سالم المقال التالي:

آلية عمل العلاج المناعي

بقلم الدكتور فيليب سالم*

هذا يومٌ لتجديد الإصرار على الإنتصار على عدو الإنسانية. هذا اليوم هو اليوم العالمي للسرطان. في مثل هذا اليوم من كل سنة، يقف البشر بخوف وذهول أمام سؤال: أين نحن من القضاء على السرطان؟ ولماذا لا يزال هذا “الطاغية” يقتل الملايين منا؟ وهل جاء العلم بجديد في علاج هذا المرض؟ الجواب هو: نعم. هناك شيءٌ جديد وكبير. وهو تطور العلاج المناعي الذي غيّر جذرياً استراتيجية علاج الأمراض السرطانية كما غيّر جذرياً نسبة الشفاء منها. من أجل هذا مُنح الأميركي “جيمس ب. أليسون” ( James P. Allison) جائزة نوبل للطب لسنة 2018. فهذا الرجل يُعدّ “والد” العلاج المناعي، أما “والدة” هذا العلاج فهو شريكه في الفوز بجائزة نوبل العالم الياباني “تاسوكو هونجو” (Tasuku Honjo). لقد اكتشف هذان العالمان السر وراء عدم قدرة الجهاز المناعي في الجسم على قتل الخلية السرطانية بينما هو قادر على قتل خلايا الجراثيم التقليدية. لقد وجدا أن الخلية السرطانية تصنع بروتينات مُحدَّدة وتزرعها على غلافها الخارجي. تعمل هذه البروتينات على شلّ الجهاز المناعي وجعله عاجزاً عن إحداث أي ضرر لهذه الخلية. ولكن في السنين العشر الماضية نجح هذان العالمان في تطوير علاجات تستهدف هذه البروتينات وتجعلها غير فاعلة. وبذلك فهي تُحرّر الجهاز المناعي من السلاسل التي تكبِّله؛ فيصبح قادراً على التعرف على الخلية السرطانية كخلية غريبة وعدوة فيهاجمها ويقتلها. هذا هو المفهوم الأساسي للعلاج المناعي الذي أحدث ثورة في علم السرطان. أمراض كثيرة كسرطانات الجلد “ميلانوم (melanoma) والرئة والكبد والكلى والمثانة لم تكن قابلة للشفاء بواسطة العلاجات التقليدية، أصبحت اليوم أمراضاً قابلة للمعالجة والشفاء بسبب العلاج المناعي. شيءٌ آخر إضافة إلى جودة العلاج هو ضروري للوصول إلى الشفاء، إنها المثابرة بل الإصرار على المثابرة. وكم من مريضٍ مات قبل وقته، لأنه وقع في حفرة الإحباط أو لأن طبيبه لم تكن عنده العزيمة على المثابرة. لقد تعلمتُ أنه ليس هناك شيء مستحيل، كما تعلمت أن أحدّق في الضوء الخافت البعيد وألا أخاف من الظلمة التي تملأ المكان.
نحن اليوم في عصر جديد، عصر العلاج المناعي. علاج فاعل. خطوة كبيرة للعلم. خطوة أكبر للإنسانية. إلا أن هذا العلاج وحده قد يكون غير كافٍ. فقد أثبتت الأبحاث العلمية أن المعالجة بواسطة المزيج من العلاج المناعي والعلاج الكيميائي لسرطان الرئة يُعطي نتائج أفضل من المعالجة بواحد من هذين العلاجين. لذلك طوَّرنا في مركزنا الذي يحمل اسمي في مدينة هيوستن علاجاً جديداً هو مزيج من العلاج المناعي والعلاج الكيميائي التقليدي والعلاج المُستهدِف. والعلاج المستهدف هو الدواء الذي يستهدف الخلية السرطانية وحدها ولا يقتل الخلية الصحيحة. لقد أعطى هذا المزيج من العلاج نتائج مذهلة، وهذه النتائج ليست محصورة في مرض معين بل تتعداه إلى أمراض عديدة. هذه النتائج قد تُغيّر جذرياً رؤيتنا التقليدية للعلاج. إلا أنني تعلمتُ من السنين الطويلة التواضع وتعلمت ألا أُبهر بالنتائج الأولية مهما كانت رائعة، فقدمت أبحاثي هذه للدرس والتمحيص في دراسات بحثية سريرية (clinical trials) يخضع فيها عدد كبير من المرضى للعلاج، وذلك للتحقق من فعالية هذا المزيج. إن التقدم في العلم هو نتيجة التراكم في المعرفة. المعرفة التي يصنعها البحث العلمي. مدماك فوق مدماك ترتفع المعرفة. هذه المعرفة التي لولاها لا يُمكننا شفاء مريض واحد. ولكنني في حزيران (يونيو) من السنة الماضية عندما أكملت خمسين سنة في علم السرطان كتبت في هذه المناسبة كتاباً بعنوان “الإنتصار على السرطان – المعرفة وحدها لا تكفي”. قد تكون المعرفة وحدها كافية في علوم الفيزياء والكيمياء، ولكنها بالتأكيد ليست كافية في معالجة الإنسان. الإنسان يحتاج إلى أكثر من المعرفة. فهو يحتاج إلى المحبة والحنان والصبر والأمل. إن الطريق إلى الشفاء التام من السرطان طويل جداً. طريق مليء بالحفر. كثيرون سقطوا في نصف الطريق. كثيرون اغتالهم الإحباط. إن مسؤولية الطبيب المعالج ليست محصورة في إعطاء المعرفة، والمعالجة بواسطتها فقط، بل تتعدى ذلك إلى معانقة المريض بالمحبة وضخه بالأمل، وحثّه على الإصرار على المثابرة. كتابي هذا هو رسالة مني إلى المريض، كل مريض بالسرطان في العالم كما أنه رسالة إلى كل طبيب يُعالج هذه الأمراض. الرسالة تقول للطبيب “تذكَّرْ جيداً، هناك إنسان وراء المرض. إنسان له أب وأم،. له إخوة وله الكثير من الأصدقاء الذين يحبونه”. أما الرسالة إلى المريض فتقول: “إياك والخوف. فالخوف هو عدوك اللدود. الإحباط ليس خياراً. الخيار الوحيد الذي يليق بك هو الجرأة على محاربة المرض والإنتصار عليه”. مَن يخَفْ يسقط. مَن لا يحارب يمت.
وفي الختام أود أن أعود إلى التركيز على أهمية الإصرار على المثابرة (perseverance) في العلاج. هذا الإصرار هو سرٌ كبير من أسرار النجاح. النجاح في الشفاء من السرطان وكذلك النجاح في الوصول إلى أهدافك في الحياة. يقول “بيرتراند راسل” ( Bertrand Russell) الفيلسوف الإنكليزي والحائز جائزة نوبل، إن “المعرفة والمحبة هما أهم قوة في الحياة”. خمسون سنة في معالجة الأمراض السرطانية علمتني أن المثابرة والثبات فيها بأهمية المعرفة وأهمية المحبة. إن المعرفة والمحبة وحدهما لا يأخذانك إلى قمة الجبل. للصعود إلى القمة، تحتاج إلى المثابرة. لذلك جئت اليوم لأضيف وأقول: إن المعرفة والمحبة والمثابرة هي مثلث القوة.

• رئيس مركز سالم للسرطان في هيوستن، الولايات المتحدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى