ماذا وراء العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج العربية؟

فيما يختلف العرب على جنس الملائكة، تعمل إسرائيل جاهدة للتقرب من دول الخليج العربي بغية عدم تنفيذ حل القضية الفلسطينية القائم على حل الدولتين من جهة واستخدام عداء هذه الدول لإيران كسبب لهذا التقارب من جهة أخرى. ويبدو أنها حققت بعض النجاح.

بنيامين نتنياهو: يريد التقارب مع دول الخليج العربي على حساب القضية الفلسطينية

بقلم عُمر حسن عبد الرحمن*

لسنوات عدّة، أخذت العلاقات السرّية بين إسرائيل وبعض الدول العربية الخليجية تتطوّر بعيداً من الأضواء. وفيما لا تُبدي إسرائيل خجلاً حيال هذه العلاقات، فقد أمِلَت الدول الخليجية أن تُبقي تقاربها مع الدولة العبرية طيّ الكتمان لأسباب بديهية متعلّقة بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. غير أنّ التحرّك الديبلوماسي العلني المتزايد قد كشف الستار عن هذه العلاقات وأشار إلى بروز زخمٍ مُحتمَل نحو إقامة علاقات رسمية للمرّة الأولى.
فبعد الزيارة الرسمية التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى سلطنة عُمان في تشرين الأول (أكتوبر) 2018، وهي المرّة الأولى التي يزور فيها رئيس وزراء إسرائيلي السلطنة منذ العام 1996، أفصح عن نواياه بالمضيّ قُدماً في تقوية الروابط مع دول أخرى، بما فيها البحرين. وقد إدّعت الصحافة الإسرائيلية، بناءً على كلام مكتب رئيس الوزراء، أنّ نتنياهو ينوي منح العلاقات مع المملكة العربية السعودية طابعاً رسمياً قبل حلول الإنتخابات الإسرائيلية المقبلة، التي تقرّرت في ذلك الوقت أن تُجرى في تشرين الثاني (نوفمبر).
ومع أنّ ذلك الموضوع مُستبعَدٌ على الأرجح، ولا يُمكن فصله عن عمليات تموضع سياسي داخل إسرائيل، ليس من الصعب في الشرق الأوسط الراهن معرفة الأسباب التي تؤدّي بالطرفَين إلى التوافق. إذ يُفاقم الإضطراب والتشكيك الإقليميّان الشديدان حدّةَ التوترات بين الدول، ولا سيّما مع خصومٍ مثل إيران. وتفتقر المنطقة إلى إطار عمل أمني جماعي من أيّ نوع، وبعد حوالي عقدَين من الحرب، تضاءل إقبال الولايات المتحدة على المزيد من الإنخراط العسكري في المنطقة، الأمر الذي خلّف فراغاً أمنياً ضخماً. وبالتالي، فإن إنقاذُ إلتزام الولايات المتحدة الأمني يكمن في قلب الإنفتاح الخليجي على إسرائيل.
لذلك، يجدر التفكير في طبيعة هذه العلاقات وقيمتها بالنسبة إلى كلٍّ من الطرفين والمخاطر المُحتملة التي تتمخّض عنها، ولا سيّما بالنسبة إلى دول الخليج.

حسابات نتنياهو

واجه نتنياهو على مدى مسيرته السياسية الطويلة الإنتقاد الدائم بأنّ سياساته إزاء الفلسطينيين ستؤدّي إلى عزل إسرائيل في الخارج. ومن أجل دحض هذا الادعاء، ولا سيّما في السنوات الأخيرة، فقد جعل نتنياهو مسألة تطوير العلاقات مع دول غير صديقة مكوّناً أساسياً في سياسته الخارجية. وبالفعل، على الرغم من أنّ نتنياهو أبعدَ أوروبا الغربية أكثر عن إسرائيل، فقد حقّق مستوىً لا بأس به من النجاح في العواصم في أنحاء أوروبا الشرقية وأفريقيا وآسيا، لكنّ الدول العربية الخليجية لا تزال المسعى الأسمى لهذا الجهد. فإذا استطاع نتنياهو أن يُظهر أنّ البلدان الغنية في المنطقة مستعدّة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل على الرغم من البناء المستمرّ للمستوطنات في الضفة الغربية وعدم بروز أيّ سلام في الأفق مع الفلسطينيين، سيسهل عندئذ دحض النقدِ الموجّه إليه وسيكون قد برهن أنّه على حقّ، أقلّه في المدى القصير. والأهمّ في ذلك أنّه سيكون حقّق مسعاه من دون اعتماد بصورة فعلية مبدأ الأرض مقابل السلام في ما يخصّ الفلسطينيين، وقد شكّل هذا المبدأ أساس المفاوضات العربية – الإسرائيلية منذ وضْعِه في خلال عملية كامب دايفيد في أواخر سبعينات اقرن الفائت.
بالفعل، خلال لقاء أخير مع ديبلوماسيين إسرائيليين، قال نتنياهو إنّ البلاد لم تعد بحاجة إلى تحقيق السلام مع الفلسطينيين من أجل إقامة روابط ديبلوماسية مع العالم العربي. وادّعى نتنياهو أنّ “العرب يبحثون عن روابط مع القوي. وتعزيز قوّتنا يُكسبنا سلطةً ديبلوماسية”.
وقبل أيّام فقط من هذا التصريح، شدّد نتنياهو في خلال مؤتمر صحافي على أنّه فيما حاول قادة إسرائيليون آخرون تحسين العلاقات مع العالم العربي والإسلامي من خلال تقديم “تنازلات” للفلسطينيين، فقد رفض هو ذلك بشدّة. إذ عارض ذلك قائلاً: “نحن نؤمن بتحقيق السلام من خلال القوّة. ونؤمن بالتحالفات التي تتشكّل نتيجة قيمة إسرائيل كمركز ثقل تكنولوجي ومالي ودفاعي واستخباراتي”.
ويتبع منطقُ نتنياهو خطَّ جابوتينسكي الإيديولوجي الذي يعتبر أنّ الرفضَ العربي لإسرائيل سيتلاشى في نهاية المطاف أمام “الجدار الحديدي” للقوّة الإسرائيلية، فيبدأ عندئذ تقبّلُ مكانة إسرائيل بين أمم المنطقة. ويُشكّل هذا المنطق أيضاً تعييراً مباشراً لمبادرة السلام العربية التي قادتها المملكة العربية السعودية في العام 2002 والتي دعت الدول العربية إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل العودة إلى حدود العام 1967 وإيجاد حلّ عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين.

معادلة جديدة

يؤدّي تقاربُ دول الخليج اليوم من إسرائيل إلى التخلّي عن هذه المعادلة ويستند إلى ثلاث ركائز أساسية لا تتعلّق بالفلسطينيين على الإطلاق، لكنّها تؤثّر فيهم بلا شكّ.
الركيزة الأولى هي إيران وجيوسياسات الشرق الأوسط بعد العام 2011. فلا جدل في أنّ إسرائيل والمحور السعودي – الإماراتي متّفقان في ما يتعلّق بعدوّهما المشترك في المنطقة، ممّا أتاح أرضيّة مشتركة لتطوير روابط أمنية أوثق. وقد اعترف التحالف الخليجي بقيادة الرياض وأبوظبي بإسرائيل، القوّة العسكرية الأضخم في المنطقة والدولة الوحيدة التي تملك قوّة نووية فيها، كحليف قوي له في مواجهته للتهديد الذي يمثّله التوسّع الإيراني. وبالنسبة إلى إسرائيل أيضاً، بدل أن تواجه إيرانَ وحدها، تغدو الجمهورية الإسلامية تهديداً إقليمياً، ممّا يُعطي إسرائيل شرعيةً أكبر في كيفية ردّها.
والسبب الثاني هو تزايد حاجة دول الخليج إلى منصّتَي أمن ومراقبة متطوّرتَين من أجل فرض الأمن على سكّانها عقب الثورات الإقليمية. وتُعدّ خبرة إسرائيل في هذا المجال، وهي خبرة صقلتها في خلال 51 عاماً من الإحتلال للأراضي الفلسطينية، غايةً في التطوّر. وعلى الرغم من احتمال أن تكون إسرائيل قد أدخلت أبواباً خلفية في جميع أنظمتها، وأنّه يمكن الحصول على أنظمة كهذه من باعة آخرين، فقد بات بعض الدول الخليجية على أهبّة الإستعداد لشراء التكنولوجيا الإسرائيلية نتيجة نشوء تلك الروابط الحديثة معها.
والسبب الأخير، ولعلّه الأهم، هو أنّ الدول الخليجية حافظت طوال عقود على روابط وثيقة مع واشنطن بالإرتكاز على المصالح المُتبادَلة التي يؤمّنها الحفاظ على الأمن والإستقرار في الخليج العربي وعلى التدفّق الحرّ للنفط إلى الأسواق العالمية. غير أنّ تلك الروابط لطالما حدّتها طبيعتها التعاملية الأساسية والتشديد على إقامة علاقات شخصية مع أشخاص نافذين في واشنطن كبديل من الإفتقار إلى الدعم الواسع من الشعب الأميركي. علاوة على ذلك، لطالما تعرقلت مساعي دول الخليج، والدول العربية بشكل عام، بسبب الشكّ الذي يكنّه داعمو إسرائيل الشديدون في واشنطن، الذين يتحلّون بنفوذ كبير في سياسات الولايات المتحدة المتعلّقة بالشرق الأوسط.
وفيما بدت هذه الروابط في الماضي كافيةً ربّما، منذ 11 أيلول (سبتمبر) 2001، مع نشوب حرب العراق و”الربيع العربي” وازدياد إنتاج النفط الأميركي والإتفاق النووي الإيراني وقانون العدالة ضدّ رعاة الإرهاب الذي اعتمدته أميركا، بدا واضحاً للدول الخليجية أنّ علاقتها بواشنطن متوترةٌ بشكل غير مريح وأنّ ثقتها بالولايات المتحدة كشريك موثوق به وضامنٍ للأمن قد تداعت. وباتّخاذ الدول الخليجية مكانةَ شريك لإسرائيل، من المرجّح أنّها تأمل التخفيفَ من المعارضة في واشنطن، مع إعادة تأكيد الإلتزام الأمني للولايات المتحدة من خلال ربط أمن إسرائيل بأمنها.

المسألة الفلسطينية الشائكة

لكن أمام هذا التوافق، يقف الفلسطينيون وصراعهم العسير مع إسرائيل عقبةً. فلطالما شكّلت الدول الخليجية طرفاً في المنحى الإقليمي لهذا الصراع، ومع أنّها لم تنخرط يوماً عسكرياً بشكل فعلي في المسألة، فقد أبقت على دعمها الخطابي والديبلوماسي والمادّي للفلسطينيين وما انفكّت يوماً عن إنتقاد ونبذ إسرائيل في العلن.
لكن في الحقبة التي تلت إتفاق أوسلو، ومع صعوبة تكيّف السلطة الفلسطينية مع إسرائيل وانعدام أهمّية منظّمة التحرير الفلسطينية، خفّ الحماس المُتعلّق بالقضية الفلسطينية. واليوم، يبرز حافز لتهميش الفلسطينيين سعياً وراء مصالح وطنية وقومية أكثر إلحاحاً. ومع أنّ الدول الخليجية توخّت الحذر في عدم إبراز تعاملاتها مع إسرائيل إلى العلن بشكل فاضح، من الواضح أنها تسير قُدماً معتبرةً أنّ القضية الفلسطينية تفتقر إلى الزخم نفسه من شعوبها، ولا سيّما الأجيال الأصغر سنّاً. وقد ترتكب في تفكيرها هذا خطأ كبيراً.
لا شكّ في أنّ المعمعة الحادّة في المنطقة قد أرخت بظلالها على المسألة الفلسطينية في السنوات الأخيرة. علاوة على ذلك، يصعب على الجيل العربي الأصغر سنّاً أن يتماهى مع قيادة فلسطينية طاعنة في السنّ وهامدة. غير أنّه ما من مؤشّر واضح يؤكّد على أنّ هذا الوضع لن يتغيّر. فبالفعل، نظراً إلى الديمومة الطويلة لهذه المسألة، التي بقيت في أعلى درجات سلّم الأولويات الإقليمية لأكثر من 70 عاماً، من المنطق أكثر إعتبار هذه الظاهرة سياقية ويُمكن عكسها في حال تغيّرت الظروف. وشُعور التماهي العربي مع الفلسطينيين والمعاداة العربية لإسرائيل مُتجذّران بعمق في النسيجَين الثقافي والسياسي للمجتمع. وبالتالي، لا يمكن الدول العربية التخلّي ببساطة عن موقفها الذي اتّخذته لعقود طويلة من دون أن تقوّض مصداقيتها. بالإضافة إلى ذلك، يؤدّي هذا التخلّي إلى تمكين خصمَيها الإقليميَّين، أي إيران و”حزب الله”، وهما القوّتان اللتان تسعى الدول العربية إلى مواجهتهما بالتحالف مع إسرائيل، وإلى تمكين الأعداء الداخليين، ولا سيّما الإسلامويون السنّة الراديكاليون، وحتّى الكثير من الليبراليين والمستعربين القوميين.
وفيما من المرجّح أن يستمرّ الإضطراب الإقليمي في المستقبل القريب، فإن الأمر عينه لا ينطبق على همود الوضع الفلسطيني. فإذا تغيّرت الظروف، في حال نشوب إنتفاضة أخرى مثلاً، وانتعش الدعم الشعبي العربي من جديد للفلسطينيين، تُخاطر الدول العربية التي لها علاقات مع إسرائيل في أن تجد نفسها عالقة في الجهة غير الصحيحة من خطٍّ أحمرَ إعتقدت أنّه اضمحلّ وتلاشى. ولا يشكّل تعزيز الدعم المحلّي امتيازاً لنتنياهو فحسب، فعقب الثورات العربية في العام 2011، غدا هذا التعزيز محطَّ اهتمام الدول العربية الأوّل أيضاً.
وهذا لا يعني أنّ اندماجاً أكبر لإسرائيل في المنطقة ليست له آثار جانبية مفيدة، حتّى على الفلسطينيين. غير أنّ الإحتمالات لا تُحصى ومن الصعب توقّعها. والأكيد أكثر هو التداعيات القصيرة والمتوسّطة المدى التي لا تبشّر بالخير للعرب. إذ يحقّق نتنياهو مكسباً مقابل لا شيء فيما يرسّخ الفكرة بأنّه ليس بحاجة لحلّ الصراع مع الفلسطينيين من أجل إقامة علاقات أفضل مع العالم العربي. ويخسر الفلسطينيون مصدراً أساسياً للضغط على الدولة العبرية ويجدون أنفسهم أكثر انعزالاً من أيّ وقت مضى. وتكسب الدول العربية الخليجية تحالفاً محفوفاً بالمخاطر مع إسرائيل، من دون أن تحصل بالمقابل على أكثر ممّا لديها أصلاً.
وحتّى تأمين علاقات أوثق مع الولايات المتحدّة، الركيزة الأهمّ في هذه العلاقة، ليس في النتيجة أكيداً. ففي أواسط كانون الأول (ديسمبر)، عشية تصويت مجلس الشيوخ الأميركي لإدانة المملكة العربية السعودية على الحرب في اليمن واغتيال الصحافي والناقد السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول، أعلن نتنياهو بحديث لا سابق له في الصحافة الإسرائيلية عن دعمه للمملكة الخليجية، قائلاً إنّ الرياض مهمّة من أجل الإستقرار العالمي ومؤكّداً على “أهمّية المملكة العربية السعودية والدور الذي تضطلع به في الشرق الأوسط”. لكن لم يحظَ كلامه بأثر ملحوظ.
علاوة على ذلك، في ما يتعلّق بربط أمن الدول الخليجية بأمن إسرائيل، على هذه الدول أن تحذر ممّا تأمل تحقيقه. فقد سعت الدولة العبرية لسنوات من أجل أن تدخل في نطاق عمل القيادة المركزية الأميركية، التي تشرف على العمليات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط. وفي حال ارتبط أمن الدول العربية بأمن إسرائيل، فإن هذه الدول تخاطر بوضع حاجاتها الدفاعية تحت عدسة إسرائيل الأمنية الفريدة، وهو أمر لا شكّ في أنّها ستندم عليه.

• عُمَر حسن عبد الرحمن هو زميل زائر في مركز بروكنغز الدوحة، وهو في صدد تأليف كتاب عن التجزئة الفلسطينية في حقبة ما بعد إتفاقية أوسلو. وهو كاتب ومحلل وصحافي في مجال الوسائط المتعددة، متخصص في سياسات الشرق الأوسط والسياسة الأميركية الخارجية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى