عين روسيا على إعادة الإعمار وعين الصين وإيران على روسيا في سوريا

تشغل روسيا موقعاً مُتقدّماً يُخوِّلها الإفادة إقتصادياً من تدفّق الإستثمارات الخارجية في سوريا، إلا أنه من شأن تنافس ناشئ مع الصين وإيران على العقود أن يقضي على نفوذها في المدى الطويل.

فلاديمير بوتين: فشل في إقناع ميركل وأوروبا للمساهمة في إعادة إعمار سوريا

بقلم صامويل راماني*

أكّد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مؤتمر صحافي مع نظيره الأردني أيمن الصفدي في 28 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أن المساهمات الروسية في إعادة إعمار سوريا تساعد على تحسين الأزمة الإنسانية، وناشد البلدان الغربية الإستثمار في هذه العملية. وكشفت تصريحات لافروف عن التركيز الروسي المتزايد على إعادة الإعمار الإقتصادية في سوريا، حتى فيما تتواصل الحرب الأهلية في إدلب، حيث يبدو مستبعداً التوصل إلى تسوية سلمية في المدى القصير.
الواقع أن الإهتمام الروسي المتزايد بعملية إعادة الإعمار السورية يُسلّط الضوء على هدفَين استراتيجيين أساسيين. أولاً، تريد موسكو ربط سوريا من جديد بالأسواق المالية العالمية، ليتمكّن بشار الأسد من ترسيخ قبضته على السلطة ويبدأ بجمع مبلغ ال400 مليار دولار الذي يُعتَبَر ضرورياً لإعادة إعمار البلاد. ثانياً، تسعى روسيا إلى الإفادة من تموضعها التدريجي في موقع الطرف الأساسي في عملية إعادة الإعمار السورية، فمن شأن تدفّق الرساميل الأجنبية إلى الإقتصاد السوري أن يؤمّن العملات الأجنبية التي ترتدي أهمية حيوية للشركات والأعمال الروسية. غالب الظن أن هذه التطلعات ستدفع بالسياسة الروسية إلى التركيز على عملية إعادة الإعمار السورية في المستقبل المنظور، على الرغم من أن الموارد المادّية المحدودة المتوافرة لروسيا ورغبتها في تجنُّب التشنّجات مع إيران قد يقفان حائلاً أمام نجاح هذه الأجندة.
بغية تزويد الأسد بالموارد الإقتصادية التي يحتاج إليها لإعادة إعمار البلاد، تدخّلت روسيا لدى الحكومات في مختلف أنحاء العالم لدفعها إلى الإستثمار في الإقتصاد السوري. في البداية، سعت موسكو إلى استقطاب الإستثمارات الأميركية إلى عملية إعادة الإعمار السورية. ففي 19 تموز (يوليو) 2018، وجّه رئيس هيئة الأركان العامة في القوات المسلحة الروسية، فاليري غيراسيموف، مذكّرة إلى نظيره الأميركي جوزف دونفورد ناشد فيها الولايات المتحدة الإستثمار في جهود إعادة الإعمار التي يبذلها الأسد. وقد رفضَ المسؤولون الأميركيون طلب غيراسيموف، مشترطين حدوث انتقال سياسي في سوريا قبل مبادرة بلادهم إلى الإستثمار هناك.
دفعت هذه الانتكاسة بموسكو إلى تحويل تركيزها نحو استقطاب الإستثمارات الأوروبية إلى سوريا. بعد الإجتماع بالمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في 18 آب (أغسطس)، لعب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على وتر مشاعر العداء للهجرة في الإتحاد الأوروبي عبر وصف تدفّق اللاجئين السوريين بأنه “عبء كبير” على أوروبا، مشيراً إلى أنه من شأن مساعدة سوريا على استعادة المياه النظيفة والرعاية الصحية لشعبها أن تساهم في التخفيف من هذه المشكلة. غير أن مساعي بوتين مُنيت بالفشل، فقد اكتفت ميركل بالتعبير عن رغبتها في “تجنُّب كارثة إنسانية” في سوريا من دون أن تلتزم بعملية إعادة إعمار يقودها الأسد. وعكسَ تردُّد ميركل في الاستثمار في مثل هذا المجهود تصريحات مُشابهة صدرت عن مندوب فرنسا لدى الأمم المتحدة، فرنسوا دولاتر.
إزاء عدم استعداد الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي لتلبية الطلبات الروسية بتقديم مساعدات مالية واسعة النطاق إلى سوريا، تحوّلت روسيا نحو التفكير في مقاربة الموضوع مع السعودية والصين اللتين رأت فيهما بديلَين أكثر استعداداً للتعاون. على الرغم من أن عدم شرعية الأسد في نظر الرياض تُشكّل عائقاً طويل الأمد أمام استثمار المملكة في سوريا، إلا أن روسيا رأت في الدعوة التي وجّهها وزير الخارجية السعودي آنذاك عادل الجبير في 29 آب (أغسطس) من أجل التوصل إلى حل سياسي في سوريا، تطوراً إيجابياً، وانخرطت لاحقاً في مفاوضات ديبلوماسية مع السعودية حول إنهاء الحرب الأهلية السورية.
على الرغم من تكثيف الحوار الثنائي أخيراً حول الملف السوري، لا تزال روسيا تعتبر أن السعودية لم تُقدِّم بعد مؤشراً واضحاً عن أنها مستعدّة لمساعدة سوريا إقتصادياً. في الخامس من كانون الثاني (يناير)، قال أندري باكلانوف، السفير الروسي السابق لدى السعودية من 2000 إلى 2005، إن دمشق سوف ترفض الإبتعاد عن إيران مقابل الحصول على التمويل السعودي.1 وفقاً لباكلانوف، يمقت الأسد الملَكية السعودية لخيانتها حكومته في مرحلة عصيبة، لا سيما وأن والده، حافظ الأسد، دعمَ الكويت، حليفة المملكة، خلال حرب الخليج في العام 1991. إلا أنه يُمكن أن تنظر السعودية إلى الدعم المالي لدمشق بأنه ترياق فاعل ضد الهيمنة الإيرانية في سوريا في المدى الطويل، وفق ما يقول ألكسي خلبنيكوف، الخبير في شؤون الشرق الأوسط في المجلس الروسي للشؤون الدولية.2 وقد ازداد الموقف السعودي التباساً مع إقدام الرياض، في 26 كانون الأول (ديسمبر)، على نفي مزاعم الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن أن المملكة وافقت على تمويل إعادة الإعمار في سوريا، في حين أنها تستمر في بذل جهود حثيثة لخفض عجز موازنتها.
تُعلّق موسكو، حتى تاريخه، آمالها الأكبر على الصين. لا يزال يوجين ساتانوفكسي، رئيس معهد الشرق الأوسط في موسكو، ينظر إلى بكين بأنها الجهة الأكثر ترجيحاً لتمويل إعادة الإعمار السورية في المدى الطويل، فالصين – شأنها في ذلك شأن روسيا – ترى في الأسد حصناً ضد التطرف الإسلامي في المنطقة. إشارة إلى أن الصين تعهّدت باستثمار ملياري دولار في إعادة إحياء الإمكانات الصناعية السورية، وتكشف مشاركتها الحماسية في معرض دمشق الدولي في أيلول (سبتمبر) 2018 عن استعدادها للمساعدة في عملية إعادة إعمار سوريا. إلا أنه من شأن الانسحاب الأميركي من سوريا والسعي المتواصل لإعادة ضبط التوازن عبر التحول نحو منطقة المحيطَين الهندي والهادئ أن يؤدّيا إلى التخفيف من وتيرة الإستثمارات الصينية في سوريا.
الواقع أن رغبة روسيا في الإفادة من عقود مُربحة مُرتبطة بإعادة الإعمار هي التي تُحفّز الدعم الروسي لسياسة الإستثمار من دون شروط مُسبقة في سوريا. لقد استحصلت موسكو، بغية زيادة منافعها الإقتصادية إلى الحد الأقصى، على عقود تفضيلية في قطاعات إقتصادية أساسية في سوريا، وأبرمت اتفاقات مسبقة مع دمشق. ونظراً إلى اعتماد الأسد المفرط على الدعم العسكري الروسي منذ العام 2015، فقد إعتبر قادة في قطاع الأعمال، على غرار سيرغي كاتيرين، رئيس غرفة التجارة والصناعة الروسية، أنه ستكون للشركات والأعمال الروسية “الأولوية القصوى” في تخصيص أموال إعادة الإعمار التي ستحصل عليها سوريا. وبعد انطلاق عملية إعادة الإعمار، سوف تتمتع الأعمال الروسية بالموقع الأكثر فاعلية للإضطلاع بحضورٍ أساسي في قطاعَي الطاقة والبناء.
في كانون الثاني (يناير) 2018، وقّعت موسكو إتفاقاً ثنائياً مع دمشق، حصلت بموجبه على حقوق حصرية لاستخراج النفط والغاز من مناطق سورية خاضعة لسيطرة الأسد المباشرة. وتبع الإتفاق تصريح لوزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك قال فيه إن موسكو وقّعت “خريطة طريق” مع سوريا حول “ترميم حقول النفط وتطوير تراكمات طبيعية جديدة”، ثم تبعه في تشرين الأول (أكتوبر) 2018 تعهّدٌ بالتعاون المشترك بين موسكو ودمشق لتعزيز جودة المنشآت السورية لإنتاج النفط. في حين أن احتياطات النفط السورية تتركّز بصورة أساسية في المناطق الشمالية الشرقية الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديموقراطية الكردية، فإن المساعي التي يبذلها لافروف لإقناع المجموعات الكردية بالقبول بشرعية الأسد قد تؤدي إلى وقوع هذه الإحتياطات، في نهاية المطاف، تحت سيطرة الحكومة السورية. وقد أصبح هذا الإحتمال أكثر ترجيحاً بسبب المخاوف السائدة راهناً من شنّ هجوم عسكري تركي في شمال سوريا، والتعاون المحدود بين القوات التابعة لوحدات حماية الشعب والجيش السوري في منبج.
إلى جانب الإستثمارات الروسية في قطاع الطاقة السوري، أقامت الشركات الروسية مواطئ قدم لها في قطاعات أخرى في الإقتصاد السوري كي تضمن قيام دمشق بإبرام عقود معها. في آذار (مارس) 2018، إستحصلت شركات روسية على عقود مُسبَقة لتنفيذ مشاريع لتوليد الطاقة في حمص، وسكة حديد تربط مطار دمشق الدولي بوسط العاصمة، ومجموعة من المصانع الصناعية التي ستؤدّي دوراً أساسياً في تطوّر سوريا مستقبلاً. بفضل هذه العقود، ستتمكّن روسيا من الإفادة إقتصادياً من تدفّق الإستثمارات الخارجية في سوريا، والتي تأمل بأن تتأتّى طبيعياً عن تسوية سلمية للنزاع.
على الرغم من أن الدور الذي تؤدّيه روسيا كجهة أساسية تتولى جمع الأموال لإعادة إعمار سوريا، واتفاقاتها التعاقدية المؤاتية مع دمشق قد يساعدانها على الحصول على موطئ قدم في البلاد في المدى الطويل، إلا أن عجز روسيا عن تخصيص قدر كبير من مواردها المادية الخاصة لعملية إعادة الإعمار قد يؤدّي في نهاية المطاف إلى الحد من تأثيرها. وفي حين أن إنشاء خط إئتماني طارئ بين الصين وسوريا قد يمنح دمشق الرساميل التي تحتاج إليها لإبرام عقود مع الشركات الروسية، يخشى صنّاع السياسات في الكرملين أن تتفوّق الشركات الصينية في المنافسة على الشركات الروسية عندما تبلغ عملية إعادة الإعمار أوجها. وقد تُساهم الهواجس الأمنية التي تراود الصين بشأن القيام بالأعمال في سوريا، في الحؤول دون ظهور هذه المنافسة إلى الواجهة في المستقبل القريب، إلّا أن موسكو تُمارس ضغوطاً متزايدة لتوقيع مزيد من العقود المُسبقة الخاصة بعملية إعادة الإعمار فيما لا تزال تتمتع بالأفضلية التي يمنحها إياها وجودها العسكري الناشط.
كما أن الصفقات الروسية في إطار عملية إعادة الإعمار في سوريا تحمل في طياتها خطر إثارة تشنّجات مع إيران في وقتٍ تسعى فيه موسكو وطهران إلى تعزيز شراكتهما العسكرية الاستراتيجية. وكانت المخاوف بشأن المنافسة بين الأعمال الروسية والإيرانية المشارِكة في إعادة الإعمار في سوريا بلغت ذروتها في شباط (فبراير) 2018، عندما تفوّقت موسكو على طهران وفازت باتفاق أساسي لمدة خمسين عاماً في صناعة الفوسفات السورية. كذلك اتهمت شخصيات في القطاع العقاري السوري روسيا بالسعي جاهدةً إلى منع إيران من قيادة جهود إعادة الإعمار في جنوب دمشق. غير أن الصدامات بين روسيا وإيران على خلفية عملية إعادة الإعمار في سوريا تبقى راهناً مسألة ذات أهمية ثانوية نظراً إلى أن الدولتين تلتقيان حول تعويلهما على الحفاظ على سلطة الأسد. إلّا أنه يمكن أن تتأجّج التشنجات بينهما مع انتهاء عملياتهما العسكرية المشتركة في سوريا، فقد وجّهت شخصيات نافذة مؤيّدة للرئيس الإيراني حسن روحاني ومحافظون داخل الحرس الثوري الإسلامي، أصابع اللوم إلى موسكو بصورة غير مباشرة، على خلفية الصعوبات التي تواجهها إيران للحصول على عقود مُسبقة في إطار عملية إعادة الإعمار السورية.
على الرغم من أن المسؤولين الروس لا يزالون يُركّزون على نحوٍ أساسي على إلحاق الهزيمة ب”هيئة تحرير الشام” وتأمين بقاء الأسد في موقع القائد المُطلق لسوريا، إلّا أن موسكو ستستمر في شق مسار مستقل في عملية إعادة الإعمار السورية وفي التركيز على التموضع بما يتيح لها حصد المنافع الأكبر من الاستثمارات المستقبلية في الاقتصاد السوري الذي دمّرته الحرب. قد تؤدّي هذه المقاربة إلى ظهور روسيا في صورة فريقٍ رابح في عملية إعادة الإعمار في المدى القصير، بيد أن مواردها المالية المحدودة والتنافس الناشئ مع الصين وإيران على العقود قد يتسببان بتقويض تأثيرها في سوريا في المدى الطويل.

• صامويل راماني طالب دكتوراه في العلاقات الدولية في كلية سانت أنطوني في جامعة أكسفورد، يتابع تخصصه في العلاقات الروسية مع الشرق الأوسط. لمتابعته عبر تويتر: SamRamani2@
• عُرِّب هذا الموضع من الإنكليزية

1 – مقابلة مع أندري باكلانوف، 5 كانون الثاني (/يناير) 2019.
2- مقابلة مع ألكسي خلبنيكوف، 27 كانون الثاني (يناير) 2019.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى