هل يستطيع الأكراد الحفاظ على الحكم الذاتي في سوريا؟

الإنقسامات والإختلافات المُعلنة بين الدول التي لديها مصالح في سوريا قد تُتيح للقوات الكردية السورية إمكانات مهمة من أجل التفاوض مع تلك الدول والنظام السوري في دمشق لحماية مكاسبها التي حققتها بشق النفس والحفاظ على الحكم الذاتي.

أكراد سوريا: التاريخ والجغرافيا

بقلم بينار تانك*

كان مطلع العام 2019 مشؤوماً للقوات الكردية في سوريا. مرةً أخرى، تتسبّب العلاقات المتشنّجة بين تركيا والولايات المتحدة، حليفة الأكراد، بإعادة خلط التحالفات الإقليمية. على الرغم من ظهور بوادر طفيفة عن تقارب بين أنقرة وواشنطن في أواخر العام 2018، إلا أنها تبدّدت بحلول الأسبوع الثاني من كانون الثاني (يناير)، ما أطلق جولةً جديدة من التشنّجات. في رقعة الشطرنج هذه التي تشهد تحولات في النفوذ على المستوى الإقليمي، تسعى القوات الكردية السورية إلى حماية مكاسبها التي حقّقتها بشق النفس.
في كانون الأول/ديسمبر، أقنع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب قواته من البلاد، عبر الإشارة إلى أنه لا داعي للبقاء بعدما هُزِمَ تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). وقد كانت لقرار ترامب، الذي اتّخذه خلافاً لنصيحة فريق الأمن القومي في إدارته، إرتدادات قوية في مختلف أنحاء المنطقة. بعد ثلاثة أسابيع، أوضحت الإدارة الأميركية موقفها لشركائها العرب، مُعلنةً أنه لن يكون هناك انسحابٌ فوري، ومُجدّدةً تعهداتها بحماية القوات الكردية في سوريا. فردّ وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو بالتشديد على أن الجيش التركي مصمّمٌ على التحرّك ضد المقاتلين الأكراد التابعين لوحدات حماية الشعب في إطار “إلتزام بلاده بمكافحة الإرهاب” في شرق سوريا، حيث هناك خطر اندلاع مواجهة مع القوات المدعومة من الولايات المتحدة. وجرت جولة جديدة من المفاوضات بين أميركا وتركيا في 14 كانون الثاني (يناير) بهدف تحضير الظروف المؤاتية لانسحابٍ مُحتمَل.
لقد عمدت قوى خارجية، تاريخياً، إلى استخدام الأكراد بيادق في المنطقة لتحقيق مصالحها القومية وأهدافها في السياسة الخارجية. وغالباً ما استندت الجهود الآيلة إلى تحقيق التعاون بين تركيا وسوريا وإيران إلى المساعي المشتركة التي تبذلها هذه البلدان لإحباط المطالب الكردية بالإستقلال على أراضيها. بعد اندلاع النزاع السوري، تمكّنَ الأكراد من التفاوض للحصول على نوعٍ من الحكم الذاتي داخل الدولة السوريا بدعم أميركي. وفي العام 2016، أنشأوا الفيديرالية الديموقراطية لشمال سوريا التي تحوّل اسمها لاحقاً إلى الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، في المنطقة التي يحكمونها منذ العام 2012. في حين أن أحداث الأسابيع الماضية تُلقي بظلالها على مستقبل الفيديرالية، يستعدّ الأكراد لانسحابٍ أميركي منذ مطلع العام 2018، عندما أعلن ترامب لأول مرة عن نواياه. بيد أن الإنقسامات بين الدول التي لديها مصالح في سوريا تُتيح إمكانات للأكراد السوريين من أجل التفاوض لحماية الحكم الذاتي.
لقد صنّفت تركيا حزب الإتحاد الديموقراطي الكردي السوري وقواته العسكرية المعروفة بوحدات حماية الشعب – وهي أحد فروع حزب العمال الكردستاني المحظور – في خانة التنظيمات الإرهابية. بيد أن قوات حماية الشعب هي المجموعة المسيطِرة داخل قوات سوريا الديموقراطية التي تستمر في محاربة “الدولة الإسلامية”. لذلك، حذّر مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون تركيا، خلال زيارته إلى أنقرة في الثامن من كانون الثاني (يناير)، من مغبّة القيام بأي توغّل عسكري من تلقاء نفسها في شرق سوريا من دون الحصول على موافقة واشنطن. فردّ أردوغان بكلام واضح لا لبس فيه قائلاً: “ستستمر تركيا في القيام بكل ما يلزم لضمان أمنها”. في الواقع، يُهدّد أردوغان، منذ أكثر من عام، بشنّ عمل عسكري في شرق نهر الفرات، لا سيما على ضوء الدعم الشعبي الواسع في البلاد للتوغّل التركي في عفرين في كانون الثاني (يناير) 2018. وقد ردّ ترامب، في 14 كانون الثاني (يناير)، بالتوعّد بـ”تدمير تركيا اقتصادياً” في حال شنّت هجوماً على الميليشيا الكردية. بإمكان الأكراد أن يستمروا في التعويل على التشنّج في العلاقات التركية-الأميركية بغية إظهار قيمتهم للولايات المتحدة كحلفاء أكثر موثوقية ضد ما تبقّى من جيوب المقاومة التابعة لتنظيم “داعش”.
إلا أن هناك معارضين داخل القوات المسلحة التركية للتوغل العسكري التركي المُحتمَل نحو الشرق، فهم يدركون أن قوات سوريا الديموقراطية أفضل تسلّحاً وأكثر تمرّساً في المعارك من القوات التي دافعت عن عفرين. وفي حال تدخّلت تركيا، فهي تُعرِّض نفسها أيضاً لخطر خوض مواجهة ليس مع القوات الكردية وحسب إنما أيضاً مع الدولة السورية وحليفتَيها، روسيا وإيران. وقد يؤدّي القرار الأميركي بالانسحاب إلى تأجيج الحماسة الشعبوية للتدخل في أوساط الأتراك، غير أن الوضع المتقلّب على الأرض قد يجعل التهديد بالتدخل مجرد أداة تُستخدَم فقط في الخطابات والتصريحات. فعلى مشارف الإنتخابات المحلية المُزمع إجراؤها في تركيا في 31 آذار (مارس) 2019، يُمكن أن تساهم حملةٌ قومية في حشد الدعم لحزب العدالة والتنمية في أوساط القوميين الأتراك الذين يعتمد عليهم الحزب للإبقاء على قبضته على السلطة. ويتسبب التغيير في السياسة الأميركية وما أعقبه من تهديدات في تقويض مكانة الرجل القوي في تركيا في توقيت شديد الحساسية، فالأزمة الاقتصادية الراهنة تُهدِّد الدعم الإنتخابي لحزب العدالة والتنمية.
من جهته، يُبدي أردوغان، منذ العام 2016، تفضيلاً للتعاون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الملف السوري، فالأخير يُقرّ بالمشاغل الأمنية التركية ويُقدّم لتركيا منصةً تمارس من خلالها نفوذها في المنطقة من طريق عملية أستانة. غير أن هذه العلاقة تتسبب أيضاً بالمتاعب لأردوغان، فالقوميون الأتراك – الذين هم تقليدياً شديدو الولاء للولايات المتحدة – ينظرون بعين الشك إلى روسيا. كذلك ينتقد حزب الحركة القومية التركي، وهو حليف أردوغان، أي تعاون مع نظام بشار الأسد في سوريا. وهكذا من شأن تحالفات أردوغان الداخلية، على مشارف انتخابات آذار (مارس)، أن تُلقي بثقلها على علاقاته الخارجية.
في حال انسحاب القوات الأميركية من سوريا، ينبغي على الأكراد التفكير في بدائل تضمن لهم مكاسبهم. لقد جدّد بوتين، الذي طالما سعى إلى تقريب القوات الكردية من نظام الأسد، التأكيد على الحاجة إلى محادثات بين الأسد وحزب الإتحاد الديموقراطي الكردي السوري، نظراً إلى أنه من المقرّر أن تُعاد الأراضي الخاضعة لسيطرة الولايات المتحدة إلى الدولة السورية. وإذا لم يكن الأكراد مستعدّين للتوصل إلى تسوية مع الأسد، غالب الظن أنهم سيواجهون تهديدات تركية متواصلة. بيد أنه من شأن بسط الدولة السورية سيطرتها في المناطق الكردية أن يجعل التدخلات التركية في المستقبل أكثر كلفة. وعلى ضوء ما بدر عن روسيا في عفرين، حيث عمدت إلى إجلاء مستشاريها العسكريين وأتاحت لتركيا استخدام المجال الجوي لتنفيذ هجوم “غصن الزيتون”، يتبيّن أنها مستعدّة للتضحية بالأكراد من أجل الإبقاء على علاقاتها مع تركيا. ويُمكن القول بأن المصالح الأساسية التي تسعى إليها روسيا في سوريا هي استغلال الخلاف التركي-الأميركي لإضعاف حلف شمال الأطلسي (الناتو) والولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين فيما تعمل على تعزيز موقعها في دور صانِعة الملوك. لقد شكّل الأكراد رافعةً استخدمتها موسكو للحصول على تنازلات في إطار سعيها إلى تحقيق أهدافها. وعندما تنسحب الولايات المتحدة، يبقى على روسيا أن تعمل من أجل بلوغ نهايةٍ مقبولة للحرب قبل انسحابها.
وما يزيد من التعقيدات أن الهمّ الأساسي الذي يشغل دول الخليج العربي هو منعُ إيران من زيادة نفوذها الإقليمي. سوريا حليفةٌ لإيران منذ الثورة الإيرانية في العام 1979، ومع اندلاع الإنتفاضة في العام 2011، أظهرت إيران ولاءها للنظام السوري عبر إرسال الأموال والأسلحة والمستشارين العسكريين لدعم الأسد. وقد وضعت السعودية وتركيا خلافاتهما جانباً في العام 2015 لدعم تحالفٍ من المجموعات الجهادية تحت مظلة جيش الفتح، وقد عارض هذا التحالف إيران وتحدّى السياسة الأميركية. لكن وفقاً لوسائل الإعلام التركية، سعت السعودية، خلال العام المنصرم، إلى التودّد إلى وحدات حماية الشعب عبر إرسال المساعدات إليها وعَرْض المال عليها للانضمام إلى القوات المدعومة من العرب. في آب (أغسطس) 2018، تعهّدت الرياض بتحويل 100 مليون دولار من طريق الولايات المتحدة لتمويل “الجهود الأميركية الهادفة إلى بسط الإستقرار في المناطق التي حُرِّرَت من “داعش” في سوريا” – أي بصورة أساسية المناطق الخاضعة لسيطرة وحدات حماية الشعب. وقد ازدادت العلاقات المتدهورة بين السعودية وتركيا سوءاً على خلفية تبعات مقتل الصحافي جمال خاشقجي في تشرين الأول (أكتوبر). واقع الحال هو أن دعم الأكراد يُتيح للسعودية وحلفائها إحباط الجهود التركية الآيلة إلى عزل وحدات حماية الشعب وهزمها، لكنه يساعد أيضاً على التصدّي لإيران – التي سيتراجع نفوذها في المشرق في حال انحسار نفوذ النظام السوري. غير أن إيران تعتبر أن الحفاظ على موطئ قدمها في سوريا هو أكثر من مجرد ورقة جيوسياسية لمصلحتها. إنها مسألة “أمنية الطابع” ومحورية لوجود الدولة الإيرانية. ففي نظر طهران، سوريا المستقرة برئاسة الأسد حيث يمكنها ممارسة تأثيرها ستكون بمثابة رادع ضد إسرائيل، وتساهم في الوقت نفسه في الحفاظ على توازن القوى الإقليمي ضد الأفرقاء السنّة.
على الرغم من الأجندات المختلفة، تجد قوات سوريا الديموقراطية نفسها في موقع أقوى تاريخياً للتأثير في النتائج. فنظراً إلى التقلّبات في السياسة الأميركية والخيانة الروسية والعدوان التركي، قد تجد القوات الكردية نفسها مضطرة إلى التعاون مع الدولة السورية. وفي الواقع إن النقاشات بين قوات سوريا الديموقراطية ونظام الأسد، التي انطلقت في أيار (مايو) 2018، تتطرّق إلى مسألتَي الدستور والتفاوض على تسوية نهائية. سيكون العمل مع النظام، الذي حرمَ الأكراد تاريخياً من حقوق المواطنة وعارضَ المشروع الفيديرالي، محفوفاً بالتحديات، إذ إن الأسد أصرّ في مفاوضات سابقة على قبول الأكراد السوريين بإعادة فرض سيطرة الدولة السورية.
غير أن قوات سوريا الديموقراطية تمكّنت، منذ ذلك الوقت، من تعزيز نفوذها: فهي تحكم المساحة الأوسع من الأراضي الواقعة خارج سيطرة الدولة السورية، وهي أراضٍ غنيّة بالموارد الزراعية والنفط. لا تتمتع الميليشيات الكردية السورية بسلطة معنوية وحسب، إنما هناك أيضاً دول خليجية مموِّلة لها تسعى جاهدةً إلى تحقيق مكاسب جيوسياسية. فضلاً عن ذلك، تتولى قوات سوريا الديموقراطية أيضاً إدارة المصالح الإيرانية في المناطق الخاضعة للسيطرة الكردية. وعلى الرغم من أن إيران تفضّل السيطرة المركزية السورية، إلا أنها تدرك أن قوات سوريا الديموقراطية قد تتحوّل، في حال شعورها بالإمتعاض، نحو أنظمة معادية للحصول على الدعم، ولذلك يجب تلبية بعض طلباتها. إذاً ستدخل قوات سوريا الديموقراطية المفاوضات من موقع قوةٍ، ما يجعل من الصعب على النظام السوري إملاء شروط التسوية في شمال شرق سوريا.
كما في لعبة الشطرنج، قد يكون العمل مع نظام الأسد تضحيةً موضعية تُساهم لاحقاً في تحقيق مكسبٍ أبعد مدى. ففي حين أن القوى الإقليمية تعاونت سابقاً في إطار سياسة “فرّق تسد” في مواجهة التطلعات الكردية، يشكّل الأكراد السوريون اليوم عامل “تقسيم وتوازن” بين القوى الإقليمية. ويحمل الإنسحاب الأميركي خطر التسبب بفراغ في السلطة حيث تتخبّط القوى المتبقية لاستغلال الوضع لمصلحتها. وكي يتمكن الأكراد من تحقيق هدفهم بالحصول على الحكم الذاتي داخل سوريا فيديرالية، عليهم أن يتفاوضوا بتأنٍّ على الخطوات والاستراتيجيات، وعلى التضحيات المُحتملة خلال المراحل المقبلة.

• بينار تانك باحثة كبيرة في معهد بحوث السلام في أوسلو (PRIO). لمتابعتها عبر تويتر: PinarTank1@
• عُرِّب هذا المقال من الإنكليزية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى